مجلة الرسالة/العدد 6/فولتير المؤرخ
→ في الأدب الغربي | مجلة الرسالة - العدد 6 فولتير المؤرخ [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 01 - 04 - 1933 |
للأستاذ زكي نجيب محمود
لبث التاريخ قروناً يتلوها قرون، وهو لا يحسب للشعوب حساباً، ولا
يعنى بحياة الإنسان قليلا ولا كثيراً، إنما ملئت سطوره وأفعمت
صفحاته بذكر الملوك والأمراء، فكان تاريخ الأمة هو تاريخ ملوكها،
أما سائر الطبقات، التي هي في الواقع لحمة الحياة وسداها، وهي
الإنسانية بأسرها، هي مبعث القوى والنشاط جميعاً، فكانت لا تظفر من
المؤرخ بسطر واحد فضلا عن صفحة أو كتاب.
بقيت الحال كذلك ما بقيت الشعوب بعيدة عن دوائر السيطرة والحكم، ثم ما كادت تنهض أوربا نهضة الأحياء، ويستيقظ الناس من ذلك السبات العميق، وتبدأ الديمقراطية الصحيحة تنشر ألويتها، وتجد سبيلها إلى صميم القلوب، حتى انقلب ذلك الوضع الخاطئ، واتخذ شكله المستقيم، وأصبحت الشعوب وحياتها عند التاريخ كل شيء.
ولكل انقلاب رسوله الأمين، ورسول ذلك الانقلاب في كتابة التاريخ هو فولتير، الذي يمثل في شخصه حلقة الاتصال بين العهدين، وجسر التطور بين المنهجين.
كان فولتير كثير القراءة والاطلاع إلى حد النهم، وكلما تقدمت به السن ازداد في ذلك إمعاناً وإدمانا، حتى احتوى في نفسه شطراً عظيما من عصارات الأذهان البشرية التي سبقته إلى الوجود، فلم يسعه أمام ذلك الإنتاج العقلي الغزير، الا أن يكبر العقل الإنساني إلى درجة التقديس، وقد أوحى إليه ذلك الإكبار أن يجرد قلمه للارتفاع بمكانته إلى أعلى عليين. فأخذت تلك اليراعة العبقرية تدبج الفصول التي تظهر فيها عظمة العقل ظهورا واضحاً لا يخطئه النظر، ثم تطورت عنده تلك النزعة فولدت في نفسه عنصراً جديداً، هو حب الإنسانية والفناء من أجلها، فأخذ يسمو بها بمقدار ما يصب غضبه ونقمته على أيدي الجهالة السوداء التي اعترضت سبيل تقدمها، وكانت عثرات في طريقها. هذا التقديس للعقل وللإنسانية، وهذا السخط الذي أراد أن يسحق به عوامل الجمود على اختلاف ألوانها، كان أول عنصر جديد أدخله فولتير في كتابة التاريخ.
ونحن إذا تتبعنا مؤلفاته التاريخية، التي كتبها في مراحل عمره المختلفة، أدركنا على الفور تدرج تلك النزعة في نفسه تدرجاً أدى بها إلى تلك الخاتمة التي ذكرنا.
كانت باكورة مؤلفاته التاريخية (حياة شارل الثاني عشر) الذي كتبه ولم يزل يرسف في أغلال التقاليد، التي أملت عليه مثله الأعلى، فأخرج كتابه للناس آية في تمجيد شارل، وإكليلا من الزهر يتوج به هامة ذلك الملك، الذي سما به إلى مرتبة رفيعة لا يدانيها من البشر إلا الأقلون. وكل عبقريته انه نشر الدماء وبعثر الأشلاء!! وانه خاض في أوروبا من الشمال إلى الجنوب، فاحتواها في قبضته من تركيا إلى السويد!! ولكن نفس فولتير لم تضطرب فيها عاطفة واحدة نحو ذلك الشعب الذي نسج حول مليكه تلك العظمة الحربية بخيوط من أرواحه وما ملكت أيديه، كلا ولم يحسب حساباً لتلك الشعوب التي داسها شارل تحت أقدامه، وأذل أعناقها لتخلي أمامه الطريق!.
يسجل ذلك الكتاب أولى مراحل فولتير الفكرية، ولكنه لم يكد يفرغ من كتابه ويذيعه في الناس، حتى اتجه بسائره إلى دراسة العلوم الطبيعية والرياضية: إلى دراسة ما أكتشفه نيوتن وما أرتاه لوك. وهنا آمن بعظمة العقل الإنساني إيمانا لا تزعزعه الريب والشكوك، وما هي الا أن عاد إلى ميدان التاريخ يجول فيه ويصول، ويبحثه في ضوء إدراكه الجديد ولبه المأخوذ بجلال الإنسان. فأخذ يعالجه بأسلوب لم يعهده التاريخ من قبل، بعيد كل البعد عن الطريق التي انتهجها في كتابه عن شارل الثاني عشر.
بهذه النزعة الناشئة. وفي هذا الضوء الجديد، نشر مؤلفه المشهور عن لويس الرابع عشر، الذي أن قرأته فلن تتجاوز ورقات قليلة، حتى تلمس هذا الأسلوب التاريخي الجديد، وتدرك المدى البعيد الذي انتقلت إليه عقليته في كتابة التاريخ. فبينما هو يسرد عليك في كتابه الأول قصة واحد من الملوك، تراه يصور في كتابه الثاني عصراً بكل ما أحتوى من ضروب الحياة. بل تستطيع ألا تجشم نفسك مؤونة القراءة لتتبين هذا الفرق بين الكتابين، ويكفي أن تلقي نظرة عجلى على عنوانيهما لتدرك ما تناول وجهة نظره من تطور وانقلاب؛ فعنوان الكتاب الأول (تاريخ شارل الثاني عشر) وعنوان الثاني (عصر لويس الرابع عشر) في كتاب شارل أخذ يسرد في تفصيل وتطويل ما طرأ على حياة ذلك الملك من أحداث، وما كان يطبع شخصيته من ضروب المميزات والفضائل، أما في هذا الكتاب الأخير، فقد تتبع الشعب في نزعاته وميوله وحركاته، وقد ذكر في مقدمته أنه. (لن يصف حياة رجل واحد، بل سيعني بأحوال الشعب جميعاً) فبينما تراه يلم إلماماً سريعاً بأخبار الحروب، تراه يذكر في إطناب نواحي الحياة الأخرى التي لم تحظ قبل فولتير بصفحة واحدة من صفحات التاريخ. فقد عقد فصلا للتجارة والحكومة الداخلية، وآخر للحالة المالية، وثالثاً لتاريخ العلوم، كما اختص الفنون الجميلة بفصول ثلاث. وعلى الرغم من أنه كان يعتقد ان النزاع الديني لا يستحق الا القليل، الا أنه أفسح لأخبار الكنيسة في عصر لويس الرابع عشر من كتابه مكاناً واسعاً، لأنه لم يشك في أنها لعبت دورا خطيراً في شؤون الحياة، التي أراد أن يصورها في مؤلفه هذا تصويرا دقيقاً.
ولكنا يجب أن نلاحظ أن هذا الكتاب، وإن يكن خطوة واسعة وانقلاباً خطيرا في دراسة التاريخ، الا انه لم يخل من شوائب الماضي إذ أطال فولتير (في غير ما موجب للتطويل) في تفصيل حياة لويس الرابع عشر نفسه، وما كان يتقلب فيه من ضروب اللهو والعبث والمجون، ثم حاول بعد ذلك أن يقيم الدليل على سمو مكانته وعظمة مجده، وأن يدفع حراب النقد التي كانت تصوب إلى أسمه من كل حدب وصوب.
كان ذلك الكتاب إذن وصلة التطور بين عهدين، لأنه ثار على القديم من ناحية، وتعلق بأسبابه من ناحية أخرى، ثم ما كادت تنطوي سنوات أربع، حتى طلع على العالم بسفره الجليل في أخلاق الشعوب، الذي يعتبر بحق أسمى ما أنتجه العقل الإنساني في القرن الثامن عشر.
لم يعن فولتير في هذا الكتاب كثيرا بدسائس البلاط، وتتابع الوزارات، وما أصاب الملوك من سعود ونحوس، ولكنه حاول أن يترسم آثار الإنسانية في سيرها وتقدمها مرحلة بعد مرحلة، فهو يقول فيه (أريد أن أكتب تاريخاً للمجتمع الإنساني، غير معني بما نشب فيه من حروب، وأن أبين في جلاء ووضوح كيف كان يعيش الأفراد في حياتهم العائلية الخاصة، وما هي الفنون المختلفة التي كانوا يعالجونها، ذلك لأن الموضوع الذي أنا بصدده، هو تاريخ العقل البشري، فلن أسرد الحوادث التافهة الحقيرة، ولن أعني بأخبار الأمراء والعظماء وما قام بينهم من ملوك فرنسا من قتال وعراك، ولكني سأدرس المراحل التي اجتازها الإنسان حتى انتقل من الهمجية إلى المدنية).
وهكذا ضرب فولتير مثلا أعلى للتاريخ كيف يكون، فاهتدى بهديه المؤرخون من بعده، وأخذوا يدرسون ما هو جدير بالدرس ويسقطون من حسابهم تلك التفصيلات الجافة المملة التي لا تتصل بالحياة الا بسبب واه ضئيل، والتي غصت بها مجلدات التاريخ من قبل.
لم يكن فولتير في تلك الروح الجديدة الا مرآة صافية ينعكس فيها ما تضطرب به نفوس القوم في القرن الثامن عشر، لذلك لم يكن هو الكاتب الوحيد الذي اختط لنفسه هذا النهج، بل عاصره منتسيكو وتيرجوا، اللذان نسجا على هذا المنوال في كتابة التاريخ.
وهكذا بدأ المؤرخون يحولون موضوع الدراسة من أشخاص الملوك والأمراء، إلى حياة الشعوب وما يرتبط بها من مصالح. فأخذوا ينقضون الآراء العتيقة البالية، ويبذرون في النفوس بذور القلق والاضطراب، ثم يحتقرون تلك الشخصيات، التي كانت تملأ عظمتها النفوس من قبل، والتي كانت أقرب إلى الآلهة منها إلى البشر.
وبذلك انقلب التاريخ معولا لهدم الملكية والأرستقراطية بعد أن كان أداة قوية للدعاية لسلطانهم. وأصبح قيثارة تنبعث منها نغمات الديمقراطية، وتقديس الإنسان، وتمجيد الأيدي العاملة؛ ثم أخذت تلك الألحان الجديدة تدوي أصداؤها في جنبات أوروبا عامة وفرنسا خاصة، حتى انتهت بالثورة الكبرى، التي ثلت العروش ودكت قوائم الأرستقراطية دكاً. ولعل ما حدا بفولتير إلى انتهاج هذا الأسلوب في كتابة التاريخ، هو ميله إلى التعميم في دراسته للأشياء. فهو لا يطمئن للبحث في الجزئيات، الا إذا كان ذلك على سبيل الاستشهاد وضرب الأمثلة التي تؤيد قاعدة عامة ومبدأ شاملا. لهذا تراه قد أقام التاريخ على أساس المراحل التي اجتازتها الإنسانية عامة في تطورها؛ أما الملوك ومن إليهم فهم بمثابة الجزئيات من تلك الكتابة الإنسانية؛ فلا يجوز دراستها لذاتها. ولم تقتصر تلك الروح التعميمية على كتابة التاريخ. بل اشتملت روايته أيضاً. فهو لم يحاول أن يصور فيها عواطف أفراد وأخلاق آحاد. إنما قصد إلى إبراز روح العصر الذي وقعت حوادث الرواية فيه.
كان من النتائج الطبيعية لهذه السبيل التي سلكها فولتير في كتابه التاريخ بناء على إكبار العقل الإنساني، وإجلال صفوف الشعب، التي هي نسيج الحياة الاجتماعية ومادتها، انه كان يزهو بحاضره إذا قاسه إلى الماضي، كما كان قوي الأيمان، مزدهر الأمل في مستقبل الإنسانية، ما دامت جادة في طريقها لا تلوي على شيء، أو على الأصح لا يلويها عن تلك الجادة المستقيمة شيء. لذلك كان يضيق صدرا بمن عاصره من الكتاب الذين كانوا إذا أرسلوا بصرهم إلى المستقبل، ارتد حسيرا إليهم، وإذا جالوا الطرف في حاضرهم، قتلهم اليأس والقنوط؛ فكانوا يولون وجوههم إلى الوراء، يستعيدون صورة الماضي، التي كان يخيل إليهم أنها أقرب إلى الخير والكمال. والشعوب إذا دب فيها دبيب العجز والقعود، التمست في الماضي مثلها إلا على، أما إذا كانت فتية قوية، فهي تنظر إلى المستقبل يحدوها الأمل والرجاء. وليسمح لي القراء أن استطرد قليلا فأقول أنني لا اطمئن إلى هذه اللوعة التي يتردد انينها الحين بعد الحين، أسفاً وحسرة على (السلف الصالح) الذين غيبهم التاريخ في جوفه العميق، سواء أكان هذا السلف من المصريين القدماء أم من العرب. إنما يجب ان نذكر أولئك وهؤلاء كما يذكر الشاب القوي طفولته الضعيفة العاثرة، لا كما يذكر الشيخ المتهدم شبابه الفتي الضائع.
أعود فأقول أن فولتير قد ضاق صدراً بتلك الطائفة من الكتاب، التي كانت تنشد مثلها الأعلى في الحياة الماضية، فلم يتردد في أن يذيع في الناس صورة ذلك الماضي المظلم الغشوم، وأن يطلع أمته على حقيقة العصور الوسطى التي كانت تتخبط في ديجور الجهل والفوضى، حيث كانت أشنع الجرائم ترتكب بغير قصاص، وأشراف الإقطاع يبطشون بالناس بطش العزيز المقتدر بغير حساب؛ وبذلك عرف فولتير كيف يهدم تلك الفئة الضالة المضللة، وعرف كيف يمحو هذا الإعجاب السخيف المصطنع بالماضي البالي العتيق، كما عرف كيف يبسط للناس في الأمل الوارف الظلال؛ وكان المعول الذي اتخذه لتحطيم ذلك جميعا، هو سخره اللاذع وتهكمه القارص بهؤلاء الذين يعيشون في الحاضر بأجسادهم، وفي الماضي بنفوسهم وعقولهم (فليستمع الجامدون!!) وقد أخذ عليه بعض النقاد، انه إنما لجأ إلى السخر عندما أعوزه المنطق الذي يدعم به ما يقول! فأين إذن من هو أقوى من فولتير حجة وأسد منطقا؟! ولسنا نشك في أن من المنطق الا يناقش تلك الطائفة بالمنطق! وإلا فحدثني بربك كيف تجد الحجة العقلية سبيلها إلى نفوس هؤلاء، الذين نبذوا الجديد لأنه جديد، ومجدوا القديم لأنه قديم، مع أن العكس أولى وأقوم، لأنه أقرب إلى سنة الحياة؟!.
لله در فولتير في تلك السخرية التي صادفت أهلها وأصابت مرماها، فقد استطاع أن يسحق رجال الدين سحقاً، وأن يسقط أعلام الفكر في عصره، الذين أرادوا أن يعودوا بالإنسانية أدراجهاإلى الماضي، وعرف كيف يزلزل عروش هؤلاء وأولئك (وكانت مكينة حينئذ) زلزالا عنيفا، بأن احتقرهم وازدراهم، تارة بالإهمال والحذف، وطورا بتصويرهم في كتاباته في صور تبعث القراء على الضحك.
نعم استطاع فولتير أن يقوض سلطان الكنيسة المخيف، وان يهزأ بالدراسات الكلاسيكية، التي كانت موضع الإعجاب والتقدير حينا طويلا من الدهر. ولكنه لم يكن هداما وكفى، بل أقام على تلك الأنقاض بناءً قويا من الأمل في المستقبل بعد اليأس من الإصلاح، ومن العناية بالشعوب دون الملوك، بعد أن كانت تلك الشعوب في زوايا الإهمال والنسيان وقد استعان على ذلك جميعا بقوة المنطق تارة، وبالسخرية اللاذعة طورا، حتى كتب له النجاح والتوفيق.
هكذا كان فولتير من رسل الديمقراطية في الطليعة، ومن أبطال الثورة الفرنسية في المقدمة، لأنه حطم ذلك التقديس الإلهي الذي كان يحيط بالملوك ورجال الدين، ثم رفع الشعب حتى تبوأ تلك المكانة السامية، فلوح له بمستقبل مزدهر هنيء سعيد، فلعبت تلك الأماني الحلوة بأفئدة القوم، وضاقوا بحياتهم صدرا، وبدأ القلق يساور النفوس. تعجلا لذلك المستقبل الموعود، فأخذ الشعب يتحفز ويتوثب، إلى أن هب في الثورة الكبرى، وحطم ما كان يرسف فيه من أصفاد وأغلال.
لم يعد لويس السادس عشر الحقيقة حين قال، وقد وقعت عينه في السجن على كتب فولتير وروسو: (لقد انقض هذان الرجلان ظهر فرنسا) ويقصد بذلك أسرة البوربون.
ذلك هو فولتير، الذي لم يكن واحداً في عداد الأفراد، بل احتوى في شخصه عصراً بكل ما فيه من عقل وروح، حتى قال عنه فكتور هوجو: (إذا ذكرت فولتير، فقد ذكرت القرن الثامن عشر).
وهذه هي آثار ما كتبه من أدب وتاريخ، واضحة في النعرة الديمقراطية التي تحتوي الأرض من أقصاها إلى أقصاها، فحق له أن يقول: (إن الكتب تحكم العالم).