مجلة الرسالة/العدد 6/الأدب الياباني
→ في الأدب الشرقي | مجلة الرسالة - العدد 6 الأدب الياباني [[مؤلف:|]] |
في الأدب الغربي ← |
بتاريخ: 01 - 04 - 1933 |
للأستاذ أحمد الشنتناوي
- 2 -
انتهينا في مقالنا الأول من الكلام عن الأدب الياباني حتى نهاية العقد الثامن من القرن التاسع عشر، أي بعد أن هدأت الثورة اليابانية الأهلية وابتدأت بوادر التجديد تظهر في جميع نواحي الحياة اليابانية كما هي العادة دائما عقب الثورات الاجتماعية الخطيرة التي تظهر في الأمم. وكان حظ الأدب الياباني من هذا التجديد عظيما إذ لم يلبث أن ظهر في الميدان الأدبي (كويو) وهو مؤسس المدرسة الأدبية الحديثة في اليابان المسماة (أصدقاء المحبرة) وكان هو وتلاميذه وأتباعه يدينون بالمذهب الواقعي، ولا يكتبون الا القصص المفعمة بالمشاعر الرقيقة، والتي تتزاحم فيها العواطف والنزعات المختلفة، متخذين كتاب الحياة مصدرا ومعينا لما يكتبون ويصفون. وبالرغم من تباين أتباع (كويو) في الأعمار والمراكز الاجتماعية والأزمنة التي عاشوا فيها كانوا يضربون جميعا في مؤلفاتهم على هذا الوتر الحساس الذي طرب له (كويو) فاتخذه شعاراً لمدرسته الأدبية الحديثة، ونعني به المذهب الواقعي. ولم يعمر (كويو) طويلا بل توفي في عنفوان شبابه بعد أن طبقت شهرته جميع أنحاء اليابان. وتعد قصته الموسومة (بشيطان الذهب) أبلغ أعماله الأدبية على الإطلاق. ولقد اشترك مع (كويو) في تأسيس تلك المدرسة الأدبية الحديثة أديب آخر يدعى (روهان) ولو أن هذا لم يكن يميل إلى المذهب الواقعي، بل كانت الروح الغالبة على مؤلفاته هي الروح الخيالية الدينية الفلسفية. كذلك اكتسب هذا الأديب شهرة فائقة بقصة ألفها تدعى (بوذا المدلل) وهو لم يكتب شيئا آخر غير تلك القصة، ولو أن العمر امتد به إلى ما بعد تاريخ هذا الكتاب بكثير.
وبعد الحرب الصينية اليابانية أخذت الآداب الغربية تطغي على اليابان رويدا رويدا، وكان أعظمها أثرا مؤلفات تولستوي وإبسن إذ ترجمت إلى اليابانية آثارهم وآثار غيرهم من زعماء الأدب الأوربي أمثال موبسان وهوجو وزولا وغيرهم حواليعام 1896 حتى وقف العقل الياباني حائرا أمام هذا السيل الجارف من الآداب الأوربية؛ وحاول (كويو) وأتباعه أن يدخلوا روحا جديدة تحليلية على الأدب الياباني، وفعلا أصدروا عدة مؤلفات تعبر أصدق تعبير عن نفسية الشعب الياباني الحديث، كما تعصب فريق آخر لأدب زولا وحاولوا تقليده.
وبعد انتهاء الحرب الروسية اليابانية التي شب أوارها عام 1905 نجد الآداب اليابانية تزيد صبغتها الغربية وتقوى، فأننا نجد مثلا (هجوتسو) أحد أساتذة جامعة (واسدا) في طوكيو يعود بعد سياحته الطويلة في ربوع أوربا ويؤسس مدرسة أدبية جديدة هي تحوير للمدرسة الأدبية الفرنسية المعروفة بالمدرسة الطبيعية، حسبما تقتضيه البيئة اليابانية وأذواق الشعب الياباني. وأهم المبرزين في تلك المدرسة هما
تبدأ الحرب العالمية بعد ذلك ويخفت صوت الآداب الأوربية نوعا ما، فتجد الآداب اليابانية المجال أمامها متسعا لكي تقف بنفسها في الميدان، وتسمع صوتها للملأ، فتقوم في اليابان حملة عنيفة على الأدب المكشوف، وهو شعار المدرسة الطبيعية، ويطلب أصحاب تلك الحملة بإلحاح أن تكون الآداب وسيلة لطب المثل العليا، وأنها يجب أن تسير في جو محتشم طاهر، وأصبح هؤلاء فيما بعد زعماء المدرسة (الإنسانية) وهؤلاء لم ينجحوا الا في القضاء على أصحاب الأدب المكشوف، ولكنهم في الوقت نفسه ظلوا في إسار الآداب الغربية. ولعل أشهر هؤلاء الجماعة وأرسخهم أدبا هو (أريزيما) وأشهر أعماله الأدبية قصته المسماة (تلك المرأة) وهي تاريخ حياة امرأة حديثة (مودرن) تمثل في جملتها العقلية اليابانية في ذلك العهد الذي تشبع بالروح الغربية، ويمكننا أن نعتبر هذه القصة مثالا لحالة الأدب الياباني في ذلك العصر الذي أغارت فيه الحضارة الغربية على بلاد الشمس المشرقة.
والمتصفح لتاريخ الأدب الياباني منذ أقدم عصوره إلى الآن يمكنه أن يلاحظ بكل وضوح مقدار اختلاف العقلية اليابانية عن العقلية الغربية. فالذي تنفرد به العقلية اليابانية هو سرعة استعدادها لاعتناق كل ما هو جديد. بل التهامه التهاما دون التأمل والنظر فيما إذا كان الطعام الذي ستتناوله في مقدرتها هضمه أم لا. وليس معنى هذا أنها عقلية عديمة القدرة على التمييز والاختيار ولكن هذا التمييز وهذا الاختيار يأتيان بعد فترة من الزمن بعد أن تملك النفس زمامها وتألف رؤية الشيء الجديد ويذهب عنها بريقه ولمعانه. ويمكننا أن نذكر لك أن اليابان كانت تعشق أدب تولستوي عام 1894 فتحولت عنه إلى سودرمان وهوبتمان عام 1896، ثم تحولت عنهما عام 1897 إلى موبسان وزولا وهوجو ثم منهم إلى ترجنيف عام 1898 ثم إلى نيتشه عام 1901 ثم إلى مكسيم جوركي ومترلنك عام 1902 وأخيرا انتهى بها التنقل والمطاف إلى تشيكوف وواجنر عام 1903. وإذا عرفنا هذا لا نعجب إذا رأينا اليابان تحتفل احتفالا عظيم الشأن بالعيد المئوي للشاعر شيلر، أو إذا رأيناها تخصص الصفحات الأولى من جرائدها ومجلاتها المحترمة للكتابة عن إبسن ومؤلفاته ومكانته الأدبية الممتازة عقب وفاته. لهذا يمكننا أن نعتبر الآداب الغربية نوعا من أنواع (المودة) التي تروح وتغدو كل عام بين أوربا واليابان.
ولم يعقب هذا اللقاح المتعدد الأنواع والأجناس الا نوعا من الآداب أشبه شيء بالثوب الذي تزدحم فيه الألوان دون تناسق أو تآلف أو ترتيب، ولكن يصح الآن أن نقول أن الآداب اليابانية قد تخلصت من جميع تلك العناصر الغربية بل يمكن أن نميز فيها بوضوح اتجاهين يابانيين جديدين. فانه بعد المدرسة الإنسانية التي أنشأها (سيرا كابا) عقب المدرسة الطبيعية ظهرت مدرسة أخرى جديدة تدين بالمذهب الواقعي جعلت همها مخاطبة الجماهير والتحدث إليهم عن معايب الطبقة الرأسمالية الغنية؛ وكان زعيم هذه المدرسة الجديدة (كيكوتي) الذي أسس عام 1911 في اليابان جمعية أدبية أطلق عليها اسم (جمعية القصصيين) ولا يزال أثر هذه المدرسة نافذ المفعول حتى اليوم، لأن آثار (كيكوتي) وأتباعه الأدبية قد لاقت هوى في نفوس العدد الأكبر من اليابانيين لأن رجال المال هم القابضون على زمام الأمور في تلك البلاد.
أما الاتجاه الآخر فهو أن جماعة من كتاب اليابانيين الحديثين أخذوا على عاتقهم أن يصفوا في كتاباتهم حياة الطبقة الدنيا من اليابانيين أي طبقة العمال ومن إليهم، وقد تعمقوا في هذا الوصف حتى أنك تكاد تلمس بيديك في كتاباتهم هيكل البؤس والتعس المخيم على هذه الطبقة الفقيرة.
وخلاصة الموقف الأدبي الآن في اليابان هو أن هناك في الميدان أربع فرق من الأدباء تتنازع الجمهور الياباني، فالفريق الأول هم أصحاب المدرسة الكلاسيكية الذين يعشقون الآداب لذاتها، وهؤلاء يمثلون الطبقة الأرستقراطية من المجتمع، ويقفون وجها لوجه أمام الفريق الثاني أي الأدباء الذين يعبرون عما تكنه صدور الطبقة الدنيا من آلام وآمال وهموم وأحزان؛ ثم الفريق الثالث وهم أدباء المدرسة الحديثة الذين يحبون التجديد في كل شيء حتى في العواطف الإنسانية ويطلقون عليهم تهكما اسم (المدرسة الاستقراضية) وآثارها مع ذلك لا تخلو من الطرافة في نواحي عدة منها. أما الفريق الرابع فهم أدباء المدرسة الشعبية وينضم تحت لوائها العدد الأكبر من أدباء اليابان وهم يخاطبون الشعب الياباني كأنه كتلة واحدة لا تباين فيها ولا اختلاف.