مجلة الرسالة/العدد 598/السلم العالمية حلم الأبد
→ الثقافة والأخلاق | مجلة الرسالة - العدد 598 السلم العالمية حلم الأبد [[مؤلف:|]] |
شعر البارودي في منفاه ← |
بتاريخ: 18 - 12 - 1944 |
للأستاذ توحيد السلحدار بك
جاء في (العدد 595) من (الرسالة) مقال ظريف للدكتور أحمد فؤاد الأهوافي عنوانه (السلم العالمية حلم قريب الأمد).
وليس هذا من المستغرب: فإن الآراء تختلف، وكثيراً ما أيد الناس أحبها إليهم، أو أقربها إلى لون ثقافتهم، أو أصلحها لسياستهم. وقد نشط القائلون باتجاه الإنسانية نحو السلم العالمية أو بقربها بعد الحرب الكبرى السابقة، ومنهم مثلاً: ديفز، وكرنيجو، وويلز الذي يصف بكتابه المشهور (سير الإنسانية العظيم نحو وحدة عالمية). وهذا هو مذهب الدكتور. وموضوعه كثير الأبواب والأصول، متشعب الأطراف والحواشي؛ وإبقاء بيانه وأدلته يملأ سفراً فزائدا، ولا طائل وراء الإطالة فيه
يقول الدكتور في فاتحة احتجاجه: (لاشك أن أحدا من الدول المشتركة في هذه الحرب القائمة لم يكن يرغب في إثارتها) لكنه يقول في منتصف مقاله: (تشيع العقيدة في نفس بعضها (الدول) أنها أقوى من غيرها بأساً وأسمى عقلاً وأرفع منزلة وأوسع علماً. ولهذا وقعت الحرب الحالية لانقسام العالم إلى دول عظمى وإمبراطوريات كبيرة تتنازع على السيادة والسلطان)
عجبا! لم ترغب دولة في هذه الحرب، وقد نشبت، إذ أعتقد بعض الدول أنه أقوى من غيره، فتنازعه السيادة، ومن أراد السيادة أراد الحرب. أفلا يبدو أن في هذا الكلام تناقضا ينتفي به معنى الجملة الأولى منه؟ وفي الجمل التالية إشارة واضحة إلى ألمانيا، إذ المعروف أنها ابتدأت بالاعتداء على غيرها وأرادت أموراً حققتها بالقوة وهي عالمة بأن إرادات أخر تعارضها.
وقد علّمها كلز وتز أن غرض المحارب هو إخضاع إرادة العدو لإرادته هو. ولكليمنصو قوله: (سواء كانت الحرب استراحة من ملهاة السلم، أو كان السلم استراحة من مأساة الحرب، يبقى مقرراً أننا نقبل معاناة محنها الدامية، حتى إننا ننشدها، ويسرنا فوق ذلك أن نفخر بها). ولا حاجة إلى مزيد بعد أن جاء المحتج بدليل ونقيضه في آن معاً
ثم يقول الدكتور: (إن أصحاب العروش وذوي التيجان وأقطاب الدول والزعماء المحركين للشعوب، يتنصلون من تبعة الحرب، ويتبرءون من إعلانها، فلاشك أن هذا دليل يحمل في طياته النزعة القوية إلى السلام)
والصواب الذي يستقيم هاهنا مع حقائق الواقع في الإنسانية إنما هو أنهم (يتبرءون) سترا لطمعهم وأغراضهم، و (يتنصلون) دفعاً للتبعة إن هم قهروا، وتبريراً لجشعهم وإذلالهم عدوهم إن هم قهروا، وتضليلاً عن سوقهم الأمم إلى المجازر وعن سبل سياستهم؛ ولم يكونوا يوماً لينزعوا إلى (السلام) حين يخالف مصالحهم الحيوية وهم قادرون على الحرب، أو يحول دون مطامعهم الحقيقية، شخصية كانت أو قومية. فليس يصح في الأذهان أن ما تقدم دفعه من الكلام (يبشر بتحقيق هذا الحلم)، كما يظن الدكتور وإن قال: (ستقع الحرب في الجيل المقبل. . . وقد تقع بعد جيل آخر)، ليس غير
ثم رأى الدكتور في نظرته إلى أسباب الحرب (أن ذكر طبائع الفرد وخصائصه. . . بصدد حرب بين دولة وأخرى) حجة نفسية لا تستقيم، لأن (طبائع الجماعة تختلف عن طبائع الفرد كما هو معروف لكل من درس علم الاجتماع)
لكن عندنا دكتور آخر كتب مرة أن الآراء التي سمعها (من أساتذة السربون في علم الاجتماع وعلم النفس) هراء. وما التذكير بهذا التقرير إلا لتنبيه من قد يحب أن ينعم النظر في العلمين لينكرهما أو يعتبرههما، ويرى هل يتحقق أنهما عند ذكر أسباب الحرب، لا يسمحان بالجمع (بين الدوافع النفسية في الفرد وبين العلاقات الدولية وتنافر مصلحة الجماعات). فإن الذي يجهلهما، أو يقرأ فيهما ويفوته فهمه كل الفهم، قد يظن أن للأفراد، خصوصا في الأمم الحية المتعلمة، عاطفة وطنية، وحساسية قومية، وآراء مشتركة بينهم، وشعوراً بالمصلحة العامة، ملاحظاً في كلامهم واستعدادهم للدفاع عنها، وأن الرأي العام وإن كان دون الرأي الفردي أو أكثر منه تعرضاً للخطأ، يؤثر تأثيراً قويا في الحكام والزعماء، لأن البيئة تؤثر في الأفراد كما تتأثر منهم، وأن الأنانية مردها الأخير في التحليل النفسي غريزتا حفظ الذات وحفظ الجنس، وإذن فهي الأساس العميق في الفرد وفي الجماعة، سواء ظهرت أو سترتها التربية والآداب، زد أن الإنسان منذ ظهر على هذه الأرض قد جعل فخره في توسيع معاركه وزيادة أخطارها، وهو يرفع عقيرته بالسلم، بل يخيل إليه إنه يريد أن يعيش فيه، ولكنه لا يريده بشدة كافية لحفظه، والتزاحم الطبيعي الشامل يحتم تضاد القوى، ولو خفف الإنسان بعض أساليبه، أما الأحلام الكمالية، فإنما قربها في الكلام وشبه المنام
يقول الدكتور: (الدليل على نقض تلك الحجة النفسية نفور الجند في هذه الحرب الحاضرة) وهم يحاربون، لأنهم (جماعات وكتل بشرية تترك في الميادين).
يريد، على ما يبدو، أن الجندي النافر يسيطر عليه روح الجماعة في هذه الكتل فينساق معها إلى المحاربة. وهذه حجة لابد أن تكون حقيقة علمية دقيقة، لا يدركها إلا كل من درس علم الاجتماع. لكن الذي لم يدرس قد يظن أن روح الجماعة، وإن كان دون روح الفرد، يكون أحياناً أنبل من أرواح أفرادها، كروح الجمعية الوطنية في الثورة الفرنسية الكبرى، إذ أعلنت الجمعية حقوق الإنسان، مثلاً، ونزل النبلاء فيها عن ألقابهم ومميزاتهم. وقد يعجب القارئ لروح أولئك الجنود المتكتلين، وهو ناتج من أرواحهم النافرة من الحرب ونافر بالضرورة من هذه الحرب، كيف يدفعهم إليها وهم كتل مسلحة متجمعة في الميدان وفي المعسكرات، ففي وسعها العصيان بروح الكتلة المسيطر
هذا والأمم مجاميع أفراد، والفرد يؤثر في البيئة ويتأثر منها، كما ذكر آنفاً، والحياة ميدان قتال. فالقبائل ليس فيها نظام الحكومات والجندية، وإن كان الاحتكام عندها إلى شيوخها، وعادتها الغزو، يجمع له الأفراد مختارين للسلب والسبي، وطلب المرعى والماء؛ وشيمة هؤلاء الأفراد المنازلة وأخذ الثارات المنيمة. والذين فتحوا الولايات المتحدة الأمريكية من محيط إلى محيط. تقاتلوا فيما بينهم وكل منهم يحمي أرضه ويوسعها، وقاتلوا الهنود والحيوان أفراداً ثم جماعات قبل أن ينتظموا ولايات منفصلة فمتحدة. وما القول في المرتزقة قديماً والمتطوعين حديثاً من أمريكيين وبريطانيين وسواهم، كما تطوع كتشنر لفرنسا في حرب سنة 1870؟ وأرض الأهل حيث يفتح الفرد عينيه لنور الحياة بين قلوب تتحنن عليه أرض تحببه إياها وتسمو به. في كل أمر حتى يضحي بنفسه وبذوي قرباه في سبيل وطنه إرضاء لمعنى مثالي في فؤاده لا يقبل البحث. والأمثلة وافرة: رجال المقاومة والعصابات الأهلية في فرنسا وبولونيا وغيرهما، والذين يفرون من الأسر، ويركبون الأهوال في سبيل العودة إلى صفوفهم مختارين، والذي يقطع نصفه في الحرب فيخرج من المستشفى ملحاً في طلب طائرته ليعود بنصفه الباقي إلى القتال، والحال النفسية البادية على أوجه الجنود من شتى الأقطار وهم آتون غادون أمام أعين الناس، وهي حال لا تدل على تأفف أو استياء، بل تدل على الارتياح، واحتشاد الأهالي في الثورات والحروب الأهلية - وهي في الإنسانية أكثر من الحروب الدولية - لمحاربة السلطات القائمة والجيش بما تصل إليه أيديهم من الآلات
لكن هناك (أبلغ دليل في هدم كيان) القول (يجب الكفاح وتغلب الغريزة والشهوة والأنانية)
ذلك الدليل الأبلغ في نظر الدكتور، هو (أن الأفراد يعيشون في داخل الدولة الواحدة. . . وتسود فيهم بطبيعة الحال غرائز الكفاح والأثرة والمغالبة والنزوع إلى السيطرة والسلطان (كذا)، ومع ذلك تعيش هذه الجماعة الواحدة كخلية النحل. . . دون أن تقع بينهم معارك دامية، إلا ما يحدث من الخصام المعروف بين الأفراد الذي يحله القانون ويقتضيه الأمن والنظام. والبوليس والقضاء كفيلان بضبط الأمن وحفظ النظام)
فلا يتوهمن متوهم، بعد هذا الدليل، أن تضارب فردين، أو جماعتين، أو قريتين، ولو قتل أناس منهم - لسبب كالغيرة مثلا أو السطو أو الانتخابات الديمقراطية - يعد (معركة دامية، إنما هي تضارب داخل حدود الدولة؛ وإن أبطل القضاء والبوليس، أي القوى المانعة الرادعة، وجوباً داخل (خلية النحل)، فإن أفرادها لا يتقاتلون بدوافع جبلتهم البشرية لتغيرها بالمدنية، حتى أصبحوا نافرين من الاقتتال، لا يحاربون إلا مكرهين في ميادين الحروب الدولية. أما ظلم ذوي القربى وشتى الجرائم التي يدرك أو لا يدرك البوليس والقضاء مقترفيها، فإنها أمور ليست في شيء مما يدل على أن الفطرة البشرية لم تتغير ذلك التغير، وإن كان مما يسلم به الدكتور أن الأفراد داخل الدولة (تسود فيهم غرائز الكفاح والأثرة والمغالبة والنزوع إلى السيطرة والسلطان)؛ إذ إنه يقول: (قد اقتضت الحضارة والمدنية أن توجه هذه النزعة إلى كفاح الحياة والتغلب على عقبات المعيشة وتذليل البيئة المحيطة بالإنسان وتسخيرها لمصلحته ودفع عدوان الأمراض والأوبئة)
فكأن الحكام أوشكوا أن يصبحوا حكماء، والمحكومين أن يصبحوا قديسين! ذلك هو ما يؤخذ من تطبيق علمي النفس والاجتماع فيما يبدو من كلام الدكتور. غير أن كليمنصو يقول: (إن المحاكم لا تستطيع أن تشفي الناس من اقتراف القتل في العلم. . . ومنذ أقدم الأزمان إلى أيامنا هذه، لم نعرف بعد غير الدم كفارة عن الدم؛ والكلمة الأخيرة لمدنيتنا صاحبها الجلاد على ما يفهمنا جزيف ده مستر)
على أساس الكلام الذي تقدم النظر فيه، وهو أساس ليس يتحمل ما شيد عليه؛ يقول الدكتور: (الحرب تقع بين الدول لا بين الأفراد)؛ (فالمسألة في السلام هي خضوع الجماعة لحكومة واحدة ونظام واحد، لأن الحرب تقع بين الدول لا بين الأفراد؛ فهل يصبح العالم بأسره خاضعاً لحكومة واحدة، وتتحول النزعة الوطنية إلى دولة واحدة وعالم واحد ونظام واحد؟)؛ ثم يجيب عن السؤال بعرض الأمور التي يراها خطوات في سبيل (توحيد العالم) ومنع الحرب، لأن (العلة الأساسية في الحروب هي انقسام العالم إلى دول تنطوي على نفسها وتحتفظ كل واحدة منها بشخصيتها المستقلة)
وهذه حجة وهمية: فالدولة العالمية حلم قديم تغنى به فريق من عشاق السيادة الشاملة إرضاء للشهوات، لا توخيا لخير الإنسانية، وهو كذلك حلم الشيوعية، وقد يكون حلم الشيوعي عن يقين أو غير يقين. مع ذلك يقول الدكتور إن (الخطوات التي يخطوها العالم في سبيل التطور والوحدة خطوات سريعة جداً (كذا) هي التي تجعلنا نقول إن السلم (العالمية) قريبة الآن)
فهل يسلم الناس بأن الإنسانية قد أصبحت على باب دولة الفارابي المثالية الشاملة للأرض المكونة بأسرها، كما صورتها نظراته الخيالية وهي اعتبارات فيلسوف لا سياسي ولا مشترع لكن الدكتور يقول: (نحن نؤيد هذا القول بشواهد في التاريخ، معتمدين على النظر إلى تطور الإنسانية خلال العصور الطويلة)
والبحث في هذه الشواهد وهذا النظر مؤخر إلى عدد آت
محمد توحيد السلحدار