مجلة الرسالة/العدد 598/الدستور في شعر شوقي
→ على هامش النقد | مجلة الرسالة - العدد 598 الدستور في شعر شوقي [[مؤلف:|]] |
منها. . . ← |
بتاريخ: 18 - 12 - 1944 |
بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 1 -
كانت الدعوة إلى الدستور قد قويت ودوت في أوائل هذا القرن، وزعيمها مصطفى كامل باشا وكان مصطفى لا يفتأ يدعو إلى الجلاء والى الدستور لأنه وسيلة الحكم الصالح، فقد كتب في اللواء في 5 أكتوبر سنة 1900 مقالاً بعنوان (الحكومة والأمة في مصر) ذكر فيه وعد لورد دوفرين باسم حكومته أن يؤسس في مصر مجلس نيابي، وإخلاف الحكومة البريطانية وعدها كإخلافها وعود جلائها
ودعا إلى الدستور في خطبته في العيد المئوي لمحمد على يوم 21 مايو سنة 1902، ومما قاله: (أين ذلك الدستور الذي يلجم الحكومة بلجام من حديد، ويهب الأمة حرية الرأي والفكر وحق المراقبة على أعمال الحكام وسن القوانين والشرائع ومناقشة الوزارة عن الصغائر والكبائر. . .
لعمري إن ما يسميه المحتلون وأنصارهم بالدستور لهو الفوضى في لباس النظام، والاحتلال في قالب الاحتلال، وإلا فأين الضمانة التي تطمئن لها القلوب والخواطر؟ أين مجلس النواب المصري الذي يقف في وجه كل طامع ويرد كل ظالم؟ أين ذلك المجلس الذي وعدت به بريطانيا على لسان اللورد دوفرين؟)
وقد كان لخطبته دوي في مصر، وأثر في المقيمين بها من الأوربيين، وكانت من أعظم دروسه الوطنية، وعلقت عليها الأهرام بقلم الشاعر الكبير خليل مطران بك، والبصير، وجريدة الفارد الكسندري تعليقاً يشف منه الإعجاب والحماسة
ولشوقي بمصطفى كامل صلات، فقد كان من كتاب اللواء، ومن أصدق أصدقاء الزعيم الشاب وأعظمهم إعجاباً به، وكان مصطفى يبادله الحب والإعجاب، فقد وصف شعره بأنه الغدير الصافي في ألفاف الغاب يسقي الأرض ولا يبصره الناظرون، وخصص لقصائده أسمى مكان في اللواء، وفي ذلك يقول شوقي: قد كنت تهتف في الورى بقصائدي ... وتحل فوق النيرين مكاني
وكتب مصطفى إلى صديقه محمد بك فريد من أوربا:
(وإذا قابلت شوقي بك فقبله لي مرتين، وقل له أن يرسل لي ما طبع من ديوانه مع صورته وأعطه عنواني)
وشوقي يقرر أنه شارك مصطفى في البعث والدعوة إلى الاستقلال والحرية بقوله:
أتذكر قبل هذا الجيل جيلاً ... سهرنا عن معلمهم وناما
مهار الحق بغضنا إليهم ... شكيم القيصرية واللجاما
لواؤك كان يسقيهم بجام ... وكان الشعر بين يدي جاما
وقد اشترك معه في الاحتفال بالعيد المئوي لولاية محمد علي بقصيدته الخالدة (محمد علي) ورثاه لما مات بقصيدة من عيون المرائي العربية، ثم ذكره، وفي آخر ذكرى يقول:
يا أخا النفس في الصبا ... لذة الروح في الصغر
وخليلاً ذخرته ... لم يقوم بمدخر
- 2 -
على أنه قد درس في مصر طرفاً من القانون في مدرسة الحقوق قبل أن يتحول إلى قلم الترجمة، ثم أتم دراسة الحقوق في فرنسا، وما من شك في أنه وقف على آراء علماء الاجتماع والقانون والسياسة في خير نظم الحكم، وما من شك في إنه تأثر بميولهم إلى حكم الشورى، على إنه شاهد هناك صولة الدستور وفضل الشورى وسلطان الشعب، فطمح إلى ما طمح إليه غيره من المصريين الدارسين في أوربا أن يكون لمصر دستور، وإن يصرف الشعب أمره بنفسه، وأن ينجاب عن سماء الإسلام فتام الحكم المطلق
ثم إنه مولع بالتاريخ وتمجيد الماضي، ويعلم أن الشورى نظام الحكم في الإسلام، وأن الخلفاء الراشدين تسلموا مقاليد الحكم بالانتخاب، فهو يجمع هذا إلى ما يتجدد أمامه في الحاضر في الدول الراقية فلا يرى مندوحة من الميل إلى الشورى، والدعوة إليها والاستمساك بها
كان ذلك وشوقي في ريعان شبابه، فدعا إلى الدستور وهو شاعر الأمير تقيده الوظيفة، ونجد من جريانه في تيار الثوران على الحكم المطلق. فلما نشبت الحرب الماضية نفي، لأن الغاصبين أيقنوا خطورة شعره في التأليب عليهم والتنفير منهم، فأميره مبعد عن ملكه، ومصر كلها برمة بقيود الحماية، وتركيا في غير صف إنجلترا، وشوقي شاعر الأمير، وروحه مصري وتركي، وشعره يوقظ الغفلى، ويشدو به الصبية والكهول
ثم ألقى الله على العالم أمنه وسكينته، وعاد شوقي إلى مصر يغرد بالمجد، ويرجع بالدعوة إلى الدستور في مناسبات شتى في عهد الملك فؤاد، وهو في ترجيعه حر يصور عواطف الشعب آنا، ويرشده آنا، لا تلجمه وظيفة لا وتثنيه رهبة؛ فقد أفاق الشعب كله واستقاد لزعيمه سعد، وثار ثورته يشري حريته ودستوره واستقلاله، وشوقي مغتبط يحدو للسائرين أو الطائرين إلى مثلهم العليا؛ ولم يجاره شاعر في حماسة دعوته، ولا في تكرار صيحته، ولا في بلاغته وجرأته، ثم لم يدانه شاعر في جلال الصور التي صور الدستور بها، أو في مهارة الربط بين الفكرة التي يدعو لها والمناسبة التي يهتبلها
ولعل في هذا البحث بلاغاً لحساده الذين زعموا إنه لا يمثل عصره، ولم يتحدث بلسان شعبه، ولم يصور عواطف معاصريه وميولهم، وإن هم إلا واهمون أو ظالمون، فإن شعره ثبت مفصل لما اضطرب من أحداث، وما اشتجر من آراء ونزعات، وقلما حدث حدث إلا جلجل فيه شوقي بشعره الملتهب، فعضد الحق، وسند الشعب، ورسم الصوى للحيرى
وشعره في الدستور والشورى وفضلهما وما يتصل بهما كثير منوع الصور، جاشت به نفسه فنفس عنها، واستدعته عاطفته فاستجاب لها، وإنها لعاطفة صادقة لا مجاراة فيها ولا مَيْن، ولو جارى لأقل فأشار في معرض أو معرضين، ولكنه طرق الدستور وحكم الشورى في أكثر من عشرين موضعاً من ديوانه، وفي بعضها يخلق المناسبة خلقاً، ليمجد الدستور ونظمه، وليس هذا شأن المجارى. وعاطفته مع صدقها حارة عالية الدرجة نبيلة تثير عواطفنا وإعجابنا، فلا مرد إذن لأقاويل خصومه المتنقصين قدره إلا أنهم نفسوا عليه سلطانه ومكانه وبيانه، فاتهموه في موضع الاقتدار، فكانوا كمنكر النهار، أو المماري في حرارة النار
ومن الوفاء له أن نسوق هنا طرفا من شعره نحيي به ذكرى شاعر العصر، المساهم في مجد مصر، ونحيي به الدستور في وقت تمتحن فيه دساتير الأمم، فتجاهد الحكم المطلق
وإن من يقدر الظروف التي تغنى فيها شوقي بالدستور ليجد حرجها، ويحس أشواكها، فكيف سلم من معاطبها شوقي؟ وكيف لبق فأرضى نفسه وصور آمال الشعب ثم لم يجمح به قلمه أو كلمه؟
الحق إنه كان يروض الألفاظ حتى لا تثير سخطاً، وبروز المعاني ويصطفيها حتى لا يحس منها معارض بجفوة أو نبوة، وليس من السهولة أن تحبب إلى معارض ما يكره وأنت لم تشعره بغضاضة الرجعة، أو لم توقظ في نفسه نوازع العناد، وبهذه درجة علية من اللباقة والكياسة والحذاقة
- 3 -
هلل شوقي بالدستور العثماني واحتفى به، وقصر عليه قصيدة كاملة إثر صدوره عام 1908 إذ زف في بعض أبياتها البشرى إلى الترك وإلى الخاضعين لهم، ولعله استشف أن الدستور سينتظم مصر وغيرها، ففي رأيه أن الخلافة كانت تعاني الضعف وتقاسي الانحلال فجاء الدستور سياجاً لها وقوة، وكانت متداعية الأركان فحيطت بالشورى ونادى الشورى
والدستور الذي أصدره السلطان عبد الحميد نعمة على الشعب جليلة كجلال الخليفة، صافية الحواشي، إذ لم ترق لها دماء أو تلابسها جرائم، ومن عجب أن يرغب الناس عن الشورى وقد شرعها الله وأوصى بها نبيه
وحيثما نظرت رأيت سمات الفرح، فإن الشعب الصادي إلى الدستور والحكم النيابي ينقع اليوم بالشورى صداه، وكل فرد في الأمة يشعر بالعزة والعظمة والجاه أن صار له صوت في سياسة الوطن ورأي
بشرى البرية قاصيها ودانيها ... حاط الخلافة بالدستور حاميها
لما رآها بلا ركن تداركها ... بعد الخليفة بالشورى وناديها
أسدى إلينا أمير المؤمنين يداً ... جلت كما جل في الأملاك مسديها
بيضاء ما شابها للأبرياء دم ... ولا تكدر بالآثام صافيها
وإنما هي شورى الله جاء بها ... كتابه الحق يعليها ويغليها
أما ترى الملك في عرس وفي فرح ... بدولة الرأي والشورى وأهليها
لما استعد لها الأقوام جئت بها ... كالماء عند غليل النفس صاديها فضل لذاتك في أعناقنا ويد ... عند الرعية من أسنى أياديها
خلافة الله جر الذيلَ حاضرُها ... بما منحت وهز العطف باديها
طارت قناها سروراً عن مراكزها ... وألفت الغمد إعجاباً مواضيها
- 4 -
وينتهز الفرصة في إعلان رأيه في مشروع 27 فبراير فيخاطب الملك فؤاداً ناصحاً له أن يوطد ملكه على دعائم من العلم والأدب والعدل والشورى:
فؤاد حليت جيد النيل مأثرة ... حذوت في صوغها آباءك النجبا
ما زلت في السلم تغزو كل معضلة ... بالحلم حتى اقتحمت المعقل الأشبا
إن سرك الملك تبنيه على أسس ... فاستنهض البانيين العلم والأدبا
وارفع له من حبال الحق قاعدة ... ومد من سبب الشورى له طنبا
- 5 -
ويلتفت في قصيدته (الأزهر) التفاتة بارعة فيقرن إصلاح الأزهر بإصدار الدستور، أليس بإصلاح الأزهر يستقيم الدين والدنيا؟ وبالدستور تنهض الأمة وتسلك طرقها صعداً؟ أليس الأزهر فخار مصر المسلمة والدستور شعار مصر الناهضة؟
الله أكبر يا ابن إسماعيل لم ... تترك لصناع المآثر مفخرا
بالأمس تنهض مصر في دستورها ... واليوم تنهض للسماك الأزهرا
(البقية في العدد القادم)
أحمد محمد الحوني
المدرس بالسعيدية الثانوية