الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 594/على هامش الشؤون الخارجية

مجلة الرسالة/العدد 594/على هامش الشؤون الخارجية

مجلة الرسالة - العدد 594
على هامش الشؤون الخارجية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 11 - 1944


الرفق بإيطاليا

للأستاذ علي إسماعيل بك

تعرض الدكتور محمد عوض محمد في عدد (الثقافة) الصادر في 3 أكتوبر إلى (الرفق بإيطاليا) بعد هزيمتها، وعزا ذلك الرفق إلى نبالة أخلاق البريطانيين وكرمها الذي يقضي عليهم أن يمدوا أيديهم إلى العدو المهزوم بعد صرعه، والأخذ بناصره بعد خذلانه. وتبسط في الحديث عن تلك النبالة وعن ذلك الكرم مبدياً انهما كانا السبب في خلاف شديد ساد ردحاً من الزمن بين فرنسا وبريطانيا، حول معاملة ألمانيا بعد الحرب الماضية

وبعد أن دلل الكاتب على عاطفة الرفق عند البريطانيين بما اشتهروا به من حب العجماوات التمس لنفسه الاغتفار والغفران من مقابلة الرفق بإيطاليا بالرفق بالحيوان!

أما أن العفو من شيم الكرام الأنجلوسكسونيين فأمر قد أجمع عليه الجميع حتى خصومهم، وتدلل عليه طبائع الأفراد في بلادهم: فما دخل البريطاني ملاكمة وانتصر فيها على خصمه إلا كان أول واجباتها مصافحة ذلك الخصم بعد أن قيض الله له النصر

وما نازل غريماً في معركة انتخابية إلا نازله بأسلحة مشروعة لا غبار على استخدامها أمام الرأي العام؛ فإذا انتهت المعركة بادر لغريمه المخذول يتمتم في حياء كبير قائلا (آسف أنني انتصرت لأنك قمت بنصيب أكبر من الجهد، أو (هوذا الحظ الذي ساعدني على النصر) وما إلى ذلك من عبارات المجاملة التي تنم عن روح مرهفة الحس وشعور عريق في السراوة (الجنتلمنة)، وعواطف فياضة بالمدنية

ألا فليعلم حضرة الكاتب أنه مع الاعتراف الصادق بتلك الناحية من الخلق الأنجلوسكسوني، أقول ألا فليعلم أن الشؤون الخارجية وعلاقات الدول بعضها ببعض لا تقوم على شيء من هذا الذي ذكر بل قوامها قبل كل شيء ذلك الأساس الصخري الراسخ ما رسخت الأرض من المصلحة الذاتية وحدها دون مصلحة الغير

فهذا الرفق يدعو إلى كبير الأسف كما سترى

لقد دخلت إيطاليا هذه الحرب بفعل رجل واحد - هذا لا شك فيه - ومهما يكن من عيوب ذلك الرجل فقد كان له فكر ثاقب في تفهم سياسة بلاده الداخلية، ونظرة نافذة في وسائ الضرب على أيدي المهرجين فيها

ألا تذكر (جابرييلي داننونزيو) المشعوذ ورفقاءه الأرديتي يوم كانوا يحتلون (فيومي) دون أن يكون لهم أية علاقة بالسلطة العسكرية الشرعية في روما؟

ألا تذكر (بومباتشي) ذا اللحية الغثة السوداء يوم كان يلوح بقبضته اليمنى على منصة الخطابة في (مونتيشيتوريو) مهدداً بإدخال الدولة الثالثة في أرض هي مهد الكلاسيكية؟

ألا تذكر (كارلوسفورزا) سليل الأمراء إذ كان ينادي عبثاً بتوحيد الصفوف للذود عن حوض الديمقراطية فما لبى نداه أحد؟

أغمض الحلفاء إذ ذاك جفونهم لما كان يحدث في إيطاليا، وتركوا هذا وذاك يجر الحبل كل في اتجاه، بينا كانت أيد آثمة تعمل في الخفاء لقلب نظام الحكم: فمن إضرام النار في المسارح الشهيرة إلى إخراج القطر السريعة عن قضبانها، ومن إضراب غير مشروع في المعامل إلى إلقاء القنابل على برءاء في دور السينما، ومن حوادث قتل وفتك بأيد مجهولة، إلى حوادث إرهاب لا مبرر لها! تلك كانت حال إيطاليا! كوميديا إلهية! جحيم دانتي! جحيم دانتي الذي كتب على بابه (أولئك الذين يدخلون ألا فليطرحوا كل آمالهم طرحاً)

أتلوم الحوادث أن تلد رجلا بطاشاً يخرق الحجب الكثيفة التي تجهمت فوق سماء إيطاليا، ويفتح باب الجحيم الدانتية على مصراعيه، ويلقي فيها أصحاب تلك الأيدي الآثمة، الهدامة للنظام التي كانت تلعب في الخفاء وتبيت للأرض الكلاسيكية انقلاباً اجتماعياً لو أنه تم لقضى قضاء مبرماً على المعاهد الديمقراطية التي تغذي جيلنا بلبانها وتذوق حلاوتها وسكرها؟

أتلومن رجلاً قوياً: (وهل تشرشل ضعيف؟ وهل روزفلت ضعيف؟) أقول أتلومن رجلا قوياً أن يخرج ذلك الشعب الفنان المحبب من ظلمة التخبط إلى نور الاتزان اللاتيني الوهاج؟

لقد سار الرجل في برنامج داخلي أعاد إلى إيطاليا رونق العهد الكلاسيكي. سار سيراً حثيثاً، موفقاً، مذللاً الصعوبات بيد حديدية، مقتحماً العقبات التي اعتورت طريقه بإرادة قيصرية لا تعرف الكلل

ولما أن رأى أن الإصلاح الداخلي وما إليه من مسكنات شهوته اصبح بعيداً عن أن يغذي طموح الجبار - وتلك هي خطيئته - أراد أن يطرق ميادين أُخرى، ميادين كنا نظن عيون الحلفاء بها ساهرة لا تعرف الغمض ولا النوم؛ فأخذ يغري الشعب الإيطالي بأمان براقة - وما أغرى لعواطف الشعب من التلويح له بالأماني البراقة ولو كانت كاذبة! فصال صولة وجال جولة، وقال في صدد الحدود بين مصر وبرقة إلى وزير مصر المفوض (لن يخدش خطي قيد أنملة)

الخطأ الأول في دبلوماسية ما بعد الحرب العالمية أنها لم تقتل الفاشية في بدايتها، فقد كانوا يعرفون أن فضلات المائدة مهما كثرت بعمدة عن أن تغذي معدة كمعدة موسوليني، لقد كانت الفضلات على العكس بمثابة مشهيات عنيفة: فما طالب بطلب أو هدد بتهديد إلا وطائرة تحلق بين لندن وروما، وروما ولندن - خروجاً على التقليد البريطاني الراسخ - تحمل إلى نيرون أغصان الزيتون!!

لماذا أحجمت الدول عن قتل أفعى تلك الشهية وهي في مهدها؟ أكان هناك ما يبرر تنغيص العالم زهاء عشرين سنة بصراخ ذلكم الطاغية وتركه يتمادى في هواه وإثمه إلى أن شهر السلاح في وجه بريطانيا التي كانت العامل الأول في استقلال بلاده؟

ألمثل موسوليني يلوح بأغصان الزيتون؟

ألمثل موسوليني يطير ماكدنالد ويطير شامبرلين ويطير أيدن كلما صال الرجل وجال؟

لقد كانت الدبلوماسية البريطانية تعرف حق المعرفة أنه سيتمادى في مطالبه كلما أذعنت له، وأنه إذا أعطى قيراطاً عبس وتولى وطالب بقيراطين. فإذا أعطى القيراطان طالب بثلاثة فأكثر وهكذا، فإذا سلمت الجغبوب اليوم ظن تسليمك ضعفاً وطالب بالحبشة فملحقاتها فملحقات الملحقات إلى ما شاء الله، ذلك أن بعض العقليات الواطئة ترى في الكرم ضعفاً وفي الرفق خوفا ورهبة.

لماذا لم تعبر إذن الدول المتحالفة عن شعورها في حينه في حزم وفي صلابة؟ لماذا تركت موسوليني يتمادى في مطالب لا يبررها التاريخ ولا تقرها حالة إيطاليا المادية والأدبية دون أن تقابل تماديه بتهديد يعززه الاستعداد لمقاومته بالقوة؟

لقد دار الفلك دورته وانهزم الطاغية شر هزيمة وانهار صرح الإمبراطورية الإيطالية من أدناها إلى أقصاها وفقدت الصومال وأرتيريا والحبشة وطرابلس وألبانيا وجثا أسطولها الشامخ يتلمس الرحمة من ذئاب البحر ورفع مليكها التاج عن رأس وخطها وخز الضمير شيباً، وفتكت قنابل الحلفاء في حصونها فتكاً ذريعاً، وخربت القلاع والمعاقل والموانئ. فماذا بقي لإيطاليا بعد حدوث ما حدث؟

الرفق!

الرفق! كأننا لم نتعلم من دروس الماضي القريب!

فليرفق الدبلوماسيون بالمهزوم ما شاءوا، دهاء منهم أو غير دهاء. أما نحن في مصر وقد اصبح لنا مقعد في الأسرة الدولية الكبرى فلا صالح لنا البتة أن نحيد عن المبدأ الواقعي الذي أشرت إليه في بدء هذا المقال: نريد أن يبني مستقبل مصر الدولي على الصخر الراسخ. فليرفق إذن بإيطاليا ما شاء الدبلوماسيون ولكن بعيداً عن مصر وعن حدود مصر، بعيداً عن النيل وعن منبع النيل!

علي إسماعيل