مجلة الرسالة/العدد 591/صلوات فكر
→ الحروف اللاتينية | مجلة الرسالة - العدد 591 صلوات فكر [[مؤلف:|]] |
فتنة وحدة الوجود ← |
بتاريخ: 30 - 10 - 1944 |
في محاريب الطبيعة!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أقباس من ظلمات القبح
إن القبح يتعرض لي لأصوره في صحفي! أليس قانوناً مؤثراً في حياة الأرض كما يؤثر الجمال؟
إذاً فاستيقظي يا رؤوس الشر والقبح التي طال نومها وصمتها في دنياي، وحدثيني حديثك. . ارفعي رأسك، وجرجري جسمك، وارقصي أمامي رقصاتك فقد جاء دورك!
وما صور الأهوال في جحيم (دانتي)، ولا خيال الطفولة عن السعالي والغيلان والجنان في كسف الظلام، ولا أحلام الكظة و (الكابوس) على صدر نائم ممتلئ واسع الخيال مرهف الحس بأشد تهويلاً وتخييلاً وافتناناً مما أراه الآن في عالم القبح. . .!
سيالات متدافعة من ظلمات الأوهام. . . وتهاويل مفزعة من شناعات الأشباح والأجسام. . . وصور وأطياف من الوحل والجمر والقيح والصديد والغسلين والزقوم وزفرات البراكين ورؤوس الشياطين، كل أولئك بعض ما تمر مواكبه في خيالي الآن وأنا أستعرض ذلك العالم!
فسيري أمامي يا جنود الشر التي تطمس نضارة الحياة وتنهش جسمها العبقري وتشوه محياها الجميل. . .
انسابي أيتها الزواحف السامة في جنح الليل تحت أقدام الأحياء، وروعيها بفحيحك الهامس ولسعك القاتل. . .
إنك نفوس في أجسام حية أيضاً، ولكنها نفوس تعيش مقبوحة مسلولة ملعونة مطاردة تجرجر أجسامها في العفونات، وترقب الحياة في الأحياء العليا بعيون حديدة محمومة من الحقد، وأنياب يغلي فيها السم المخزون في رؤوس كلها حويصلات أذى. . .!
انعبي أيتها البوم والغربان على الأطلال والخرائب بصرخات تفزع منها طمأنينة النفس وتترك فيها أنغاماً جنازية قابضة تدبر منها بهجة الحياة. . .
عيشي أيتها الجعلان والحنفسان والدود في الخبائث والعفونات، وعلى أشلاء الأحياء، غائبة عن عالم النور والعطر والطهر. . .
رصعي أيتها السوس والبرغوث والبعوض حقول النبات وأجسام الإنسان والحيوان، وأعطبي ثمراتها، وامتصي دماءها، واشربي ماءها. . .
اخفقي أيتها الخفافيش البغيضة حائرة محرومة في غبش المساء بين الخرائب والأطلال فلم يبق لعيونك الخشاء إلا وشل من النور تسبحين فيه، وتحومين على الوجوه بمس كريه
خوضي أيتها الأحياء الدنيئة في الأوحال والمناقع والأدغال متربصة بالأذى على طريق الحياة. . .
انبعثي أيتها العفونات والمنتنات وازكمي الأنوف وأفسدي الأذواق والطعوم واخنقي عطور الأزهار وطيوب الأشجار
اضربي يا أكف الظلام النجم بالأفول، والصحة بالمرض، والصبا بالشيخوخة والذبول
ثوري يا جبال النار واقذفي الحجارة المصهورة، والمعادن الذائبة، والشواظ الحارق، وانشري ذوائبك السود على أجواء الأحياء. . .
وأنت أيتها المقابح الخفية في قلوب الناس! اطمسي جمال الحياة من داخل النفس كما تطمسه تلك من خارجها. . .
انشري العقوق والحقد والبغض والحسد والرياء والكبرياء وفرقي بين الأحباء. . .
كُلي قلوب البشر وأكبادهم، وأثيري شهوات أحشائهم على حكومة العرش الأبيض الهادئ في رؤوسهم. . .
أعيدي إلى أضراسهم وأنيابهم وأظفارهم سعار اللحم والدم، وأدلعي ألسنتهم بالسباب والعهر والمهاترة والعواء. . .
اجعلي لبطونهم سعة البحر، ولأطماعهم جوع الجحيم. . .
تسللي أيتها الجريمة رهيبة مخيفة للغيلة والغدر، واختطفي حياة نفس آمنة شفاء لحزازات حقيرة وتلبية لصراخ الغرائز الوحشية. . .
أمطري الدمع والدمَ، وأحرقي شغاف القلوب ولفائف الصدور بالإثم. . .
ازرعي قرون الشيطان أبيك العتيد في كل مكان، وضاعفي البذور ليتضاعف محصول الحصاد. . .
ابرزي أيتها الحرب راقصة عارية بادية السوآت خاضبة بالدماء، حاجلة على جماجم العباد وأنقاض البلاد. . .
اختطفي زهرات الشباب من أحضان الأمهات والزوجات وضميهم إلى أحضانك الجافية القاسية عاشقين مخدوعين فانين. . .
تربعي أيتها الجهالات والضلالات، وانشري سلطانك الغشوم المقيت على أفكار الحيوان المقدس!
افعلن كل أولئك يا جنود الشر والقبح وخذن مكانكن من مجال المعركة الأبدية بين الخير والشر وبين القبح والجمال في هذه الدنيا لترى نفس ما تختاره لنفسها في تلك الآنية الموعودة التي لا يكون فيها مزيج من الخير والشر والجمال والقبح في مكان واحد. وإنما للخير والجمال وحدهما مكان، وللشر والقبح وحدهما مكان. . .
فإن كانت الدنيا مزيجا من عالم الجنة (وهو المباهج واللذات والكمالات) وعالم النار (وهو المقابح والآلام والنقائض) فإن الآخرة عالم جنة أو نار خالصة. . .
وقد شاء الله للإنسان أن يحيى حياته في الدنيا ذات الصبغة المزدوجة ليتعرف إلى العالمين ويختار أحدهما. فهو إذاً المسئول عن عذابه بعالم القبح والشر الخالص في أخراه، إذ أنه هو الذي اختاره لنفسه في دنياه. . .
ومن العدالة ووضع الشيء في موضعه ألا يدخل دار الجمال والخير إلا من مرن على الصفات الأساسية اللازمة لسكناها ومعاشرة قطانها. .
ومعاذ الجمال أن يوضع البعر في طاقات الريحان والزهر!
أجراس
في سمعي من سير الزمان أجراس رنانة تدق بالليل والنهار. . .
هي أجراس السكون والصمت اللذين يغمران العالم الأعلى. . .
لا يشغلني عنها شاغل من ضجة مطارق البشر في المصانع والمناجم، أو جلجلة مدافعهم وقوارعهم في الملاحم، أو رنين صحافهم وأقداحهم في المباهج والمناعم، أو عويلهم وصراخهم في المآتم، أو عربدات مجانهم في المباذل والمآثم. . .
وسهل أن ألاقي أجراس الحركة بأذني وحاستي المحدودة. أما أجراس الصمت والسكون فعلي من ضجتها ضغط ثقيل أجتمع له بجميع حواسي وقوى نفسي!
الزمن
في (الكرنك) قضيت في الشتاء الماضي سويعات من الزمن! والكرنك أعظم رحبة من رحبات الأطلال الفرعونية؛ فهو أثر صناعي بشري ليس من الطبيعة. ولكن الزمن أضفى عليه من سحره ما جعله فيما وراء الوعي مني كأنه محراب من محاريبها. لفرط إيغاله في القدم حتى ليتصل ببواكير التاريخ الإنساني المعلوم ويتاخم منطقة المجهول من ذلك التاريخ
والزمن تشتد الحساسية به في هاته الرحاب حتى لكأنها مقبرته. نرى فيها مومياءه وجثوته تضحك لنا بفكين مقبوحتين وعينين مطموستين وشفتين مقلوصتين! وتغمرنا منه سيالات ورعشات حتى لنحسه حين نحس هذه الأطلال التي طالما رأت صباحه ومساءه وصيفة وشتاءه وظلاله وأفياءه وظلماته وأضواءه في يوم واحد معاد مكرور يشيب الصغير ويفنى الكبير ويبلى الحجر. . .
وبيني وبين الزمن علاقة سيئة! فأنا لا أباليه ولا أحفل به كثيراً. فالحياة عندي منذ أدركتها يوم واحد لا أزال في بهجة من تعاجيب صبحه وضحاه. .! وقد أقبلت على حدود الأربعين ليس بيني وبينها إلا خطوات ثلاث. ومع ذلك فأنا من حساسيتي بالطبيعة وأذواق الحياة أسير فيها كمبتدئ حياته أو كمبتدئ رحلته، يريد أن يتخفف من أثقال الزمن وأوقاره حتى يعبر الأسواق بجسم خفيف ونظر طليق لماح يرى كل يوم جديداً. . .
ومع هذا الشعور الذي يكاد يلازمني قد أحسست حين دلفت إلى معبد الكرنك بين صفين من تلك الكباش الرابضة منذ خمسة آلاف سنة تستقبل الوافد في وداعة وقوة، أنني قادم على الزمن شيخاً هرماً راعشاً راهباً ترهب وتعبد في الحجرات المظلمة والدهاليز المتداخلة والأقبية المسحورة التي تضمها أسوار هذا المعبد
وقد تركت لرفاقي حظ الاستماع إلى شرح (الدليل) وسرد التفاصيل، وأقبلت على أوهامي تلعب في ملاعب الأوهام القديمة التي كانت تعيش بها الإنسانية في تلك العصور السحيقة وتجسمها في التماثيل والتهاويل التي على عجزها وجمودها تثير خيال ناظريها واللائذين بها وتجعلهم يخلعون عليها ألوانا من حياتهم ويبادلونها أحاديث نفوسهم. . .
أأطلال هذه أم ظلال! وجنادل وصفاح أو أوهام وأشباح! أهذه أعمدة لمعبد القارعات أو كاهناته الراقصات! أنهاري هذا الطالع المشرق أم نهارهم! أبقايا ظلام مخزون هذا الذي أراه جاثما في حجرات أسرارهم أو ظلام جديد!
أهذه النسمات التي تمسح وجوهنا الآن خفقات رياح القرن العشرين بعد الميلاد، أو رياح القرن الأربعين قبل الميلاد! أنحن أرواح بائدة تجول في خلال هذه الأطلال أم نحن فلان وفلان وفلان من أبناء هذا الزمان؟ أقصائد مرسلة هذه الأطلال أم حجارة ميتة جامدة!
ألا بقية حياة تحدثنا بصوت حي بين الرجام؟!
ألا تعست الأحلام وخابت الظنون! فبين اليوم وأمس جدار بحجم دورة الشمس في عرض السماء! فما بالك بما بيننا وبين هاتيك الأيام من دورات!
لماذا هذا التعلق بالبقاء يا أبناء الفناء؟ لماذا تولهون قلوب الأحفاد أيها الأجداد؟ لماذا تعمقون الإحساس بالزمن؟ امضوا من غير أن تتركوا صوى وأعلاما على الطريق، حتى لا يراع بعدكم أحد، من طول المدى بين الأزل والأبد!
وإنه ليخبل عقلك ويشرد لبك أن تبحث عن عمار هذه الهياكل الذين كانوا! وأن تضع قدميك على مواطئ أقدامهم، ويديك على ملامس أيديهم، وعينيك على مواقع أنظارهم!
وإنك لتحس لذع السخرية يصبها الزمن على حسك ووعيك حين تحين منك التفاتة إلى وجه الشمس من خلال ظلل المعبد؛ فتراها لا تزال كما رآها أجدادك جديدة الوجه عنيفة الشباب مصقولة المرآة قوية الضحوة، وكأنها بنت يومك أنت ولدت في صبحه وبكرته!
وانك لتوشك من فرط التخييل أن تنادي الأفراد المغمورين المملوكيين والسادة المالكين والكهنة حاضني الأسرار ليجيبك صدى صوتك مردوداً إليك باليأس والعجز بعد أن تتلقفه الزوايا والأبهاء وتعوي به التماثيل الصماء!
أكذلك أطبق ظلام الموت وظلام الأرض على أشخاص الأحياء فغابوا فيه ثم بقيت أعمالهم في محيط الجوامد الخوالد؟!
أكانوا أمواج ماء اضطرب به سطح الأرض فأرغوا وأزبدوا وهدروا، حتى وصلوا إلى شاطئ الموت فانسلحوا وفنوا بأصدافهم وقواقعهم وزبدهم وغثائهم!
أذهبوا وبقيت أحجارهم خالدة؟ وهل يملك فانٍ أن يصنع خالداً؟
لقد أحسها حسرة (لبيد) فأرسلها كلمة جاهلية ترجمت كل معاني إحساس النفس البشرية بالألم في كل عصر حين ترى أن نصيبها من الزمن أوكس حظا من نصيب الجماد. إذ قال:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الديار بعدنا والمصانع!
عبد المنعم خلاف