مجلة الرسالة/العدد 591/تبارك رزاق البرية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 591 تبارك رزاق البرية [[مؤلف:|]] |
الحروف اللاتينية ← |
بتاريخ: 30 - 10 - 1944 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
ذهبت لرد الزيارة لضيف نابه من ضيوف مصر ينزل بفندق كبير من فنادق مصر الجديدة، وكانت الليلة ليلة الأحد والسهرة سهرة راقصة في ساحة الفندق الكبير، فجرى ما لابد أن يجري في هذا المقام من حديث الحرب وملاهي الحرب وأغنياء الحرب وبذخ هؤلاء الأغنياء وحداثة نعمتهم في البذل والعطاء، والروايات في ذلك كثيرة تضيق بها صحائف الإحصاء
منها أن بعض هؤلاء الأغنياء دخل الفندق ومعه زميلة يريد أن يراقصها فاتفقت نهاية العزف الموسيقي في ساعة دخوله، فنادى بأعلى صوته على رئيس الفرقة (فوكس تروت. فوكس تروت)، واستجيب النداء في الحال، لأن رئيس الفرقة على ما يظهر كان من عارفيه ومن طلاب عطاياه
فما هو إلا أن فرغ من رقصته التي لا يحسنها حتى دعا الخادم فأعطاه ورقة بعشرة جنيهات يوصلها إلى الرئيس المستجيب، وورقة بجنيه واحد مكافأة للخادم على مشقة التوصيل!
ومن تلك النوادر أن غنياً (حربياً) آخر أفرغ جيبه في ميدان السباق من ورق لا يحصيه ولا يهتم بعده، تعويضاً لزميلة له عن خسارة زعمت أنها قد منيت بها في بعض الأشواط، وهذه الزميلة لا تذكره بين أترابها إلا باسم (الحمار)
ومن تلك النوادر أن غنياً آخر جازف بعشرين ألف جنيه لينافس بعض الكبراء على هوى من الأهواء
وكانت هذه الروايات - وبعضها حقائق مشهودة - تتوالى على أسماع بعض الغرباء عنها فيدهشون ويحنقون ويغلو بهم الدهش والحنق كما يغلو بهم الخوف على مصير المجتمع المصري من هذه الغوايات في أيدي أناس لا يستحقون ملء الجوف من خبز الشعير، وهم يخدمون شهواتهم بثروات تعبي بها جهود الأكفاء والأمناء. فرفع رجل من الحاضرين إصبعه إلى السماء: رجل من الحاضرين لا شك في إسلامه وإيمانه بوجود الله، ولكنه ذهل عن نفسه لما سمع من تلك المحرجات، فصاح وهو ينظر إلى القبة الزرقاء: أأنت موجود: أهذه عدل في قسمة الأرزاق؟
صيحة قديمة على ألسنة المحرجين في أشباه هذه الأزمان، قيل إن أبا العلاء صاحها، فقال:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنوناً وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
والبيتان معروفان، ولكن الشك كل الشك في نسبتهما إلى أبي العلاء، وهما أشبه بكلام ابن الراوندي حيث يقول:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
وأشبه بكلام غيره ممن لا أذكره الآن حيث قال:
تبارك رزاق البرية كلها ... على ما قضاه لا على ما استحقت
فكم عاقل لا يستبيت وجاهل ... ترقت به أحواله وتعلّت
وما من صيحة في هذا المعنى هي أوجع من صيحة ابن الرومي في قصيدته البائية التي يقول فيها:
أتراني دون الأولى بلغوا ألا ... مال من شرطة ومن كتاب
وتجار مثل البهائم فازوا ... بالمنى في النفوس والأحباب
فيهم لكنة النبيط ولكن ... تحتها جاهلية الأعراب
أصبحوا يلعبون في ظل دهر ... ظاهر السخف مثلهم لعَّاب
غير مغنين بالسيوف وإلا الأقلا ... م في موطن غناء ذباب
ليس فيهم مدافع عن حريم ... لا ولا قائم بصدر كتاب
ولكنه يثوب إلى تسليم الحائر حين يقول:
تبارك العدل فيها حين يقسمها ... بين البرية قسما غير متفق
وما هو إلا تسليم الإعياء واللغوب لا تسليم الراحة والقبول
سمعت ذلك الرجل المسلم المذهول وهو ينظر إلى السماء ويصيح: أأنت موجود؟ فقلت: نعم! بل هذا هو الدليل على وجوده. فانه لأعلم بما حرمه الله من نعمة الإنسانية، فلو أراد أن يعوضه عما حرمه لكان قليلا في تعويضه أموال المصارف التي في القاهرة جمعاء وكانت هذه الصيحة تتردد في مجالس الأدباء ورجال الفنون خاصة؛ فكان يطيب لي أحياناً أن أسليهم وأعابثهم في آن واحد، فأسأل أحدهم: بكم تبيع ما وهب الله لك من الشاعرية؟ وأسأل غيره: وأنت بكم تبيع ما وهب من الذوق الجميل؟ وأسأل غيرهما: وأنت بكم تبيع ما وهب لك من الوسامة والقسامة؟
فمنهم من يقول أنه لا يبيعها بمال الدنيا، ومنهم من إذا سألته تقويم الملكات بالمال دون الرضى ببيعها وشرائها تردد في ذلك وذكر الألوف ومئات الألوف، وهو لا يظن المغالاة، ولو صعد بالتقدير إلى الملايين
فهذى الألوف يا هؤلاء إذن (بدل مفقود). . . وأنتم أول من يرضى بتسويم السلعة على هذا المقدار!
ولا أدري لم لم تخامر في قط نقمة على نظام الكون من هذه الناحية في أوائل الشباب حيث تكثر الشكوى ويكثر الطموح، أو فيما بعد ذلك حيث يكثر إيمان الإنسان بحقه في الراحة والرجحان، ولعلها قلة الاكتراث بالمال هي التي جعلتني أصغره في حسابي أن يكون التفاوت فيه علة الشك في نظام الوجود.
فقديما - قبل أربع وعشرين سنة - عرضت لهذه المسألة في مقدمة الطبعة الثانية من مجمع الإحياء، فقلت يومئذ: (لم أزل منذ دارت في نفسي هذه الخواطر أسمع حجة واحدة هي أكثر ما يورده الناس على فساد نظام الكون، وهي مع ذلك أوهن الحجج وأظهرها بطلانا، وتلك الحجة هي تباين موازين الجزاء وتنزلها على خلاف المقرر المسلم به في عرفهم. فهم يقولون: أما كان العدل يقضي بالتسوية بين الناس في منازلهم وحظوظهم؟ أليس من الغبن أن يغتضر الشاب ويؤخر الهرم، وإن يحرم العامل ويغدق على العاجز وأن يرتفع الوضيع ويبتذل الكريم؟ وإن كان هذا مراد الأقدار أفما كان في وسعها أن ترضي كل مخلوق بنصيبه وتغنى كل طالب عما ليس في يده؟ وازدادت هذه الشكوى بعد الحرب الكبرى فسمعت في كل مكان، وكان لها فعل عجيب في تغير الأحوال، وستسمع في كل حين ما دام الاختلاف بين الناس فتكون من أقوى دوافع التيار الإنساني. . . والشاكون بهذا اللسان لا يداخلهم الريب في عدل شكواهم، وينسون أن أنانيتهم هي الشاكية المتلهفة على التغيير وإن ليس العالم هو المفتقر إليه، المتوقف نظامه عليه، وإن أحدهم ليقول في أيام رضاه ما لا يقول في أيام سخطه، ويتقلب أمله في حالتي الرضى والسخط. فهل يريد أن يتحول العالم معه كلما تحولت به الصروف وتقلبت عليه الآمال؟. . . يشكون من تفاوت الأعمار والحظوظ، وهم إنما تعجبهم من الرجل شجاعته وهمته وجوده، لأن الأعمار مجهولة، ولن يكون لرجل على رجل فضل بشجاعة أو همة أو وجود لو زالت المخاطر من الدنيا وتساوي الناس في الآجال أو أمنوا الموت إلا في وقت معلوم، فإذا أمن الشيب والشبان فهل يرضيهم هذا العدل الذي لا تعيش معه فضيله، والذي يجعل الإنسان أشبه بالإنسان من اللبنة باللبنة، فتبطل مزايا البأس والذكاء والأريحية والمروءة: لا قائد ولا مقود ولا سيد ولا مسود ولا حاسد ولا محسود، ولا تتشعب علوم أو تتنوع صناعات أو تتعدد خصال وأعمال أو تتفرع أجناس واديان. فأي دنيا تكون هذه وأي حياة؟ إن هؤلاء الشاكين لو أسند إليهم أمر السكون لحاروا في تصور هيئة غير هيئته ولهدءوه قبل أن يؤسسوه)
منذ أربع وعشرين سنة كانت الحال كهذه الحال، وكانت الدنيا في أعقاب حرب كهذه الحرب، وكان أناس مسلمون وغير مسلمين يصيحون تلك الصيحة وهم ينظرون إلى السماء: أأنت موجود؟
وكنت طوال حياتي أرضى أن أقول مع البحتري في لاميته الميكالية:
أعد أجل النائبات رزيئة ... وفور الرزايا وانثلام الأماثل
ولولا اهتمامي بالعلي وانعكاسها ... لما ارتعت ذعراً من تعلي الأسافل
ولكني لا أرضى أن أصيح صيحة ابن الراوندي، ولا صيحة غيره من المحرجين في قسمة الأرزاق، لأن مقداراً من الدراهم ينقص هنا أو يزيد هناك لا يزري بنظام الكون كله ولا يساوي أن تنظر إلى القبة الزرقاء نظرتك إلى خواء
فالآن أجدني في هذه الحرب أعيد إلى نفسي ما ابدأته في الحرب الماضية، وأجد أن لامية البحتري تسعدني بالشواهد حيث تقول:
أواخر من عيش إذا ما امتحنتها ... تأملت أمثالا لها في الأوائل
وما عامك الماضي وإن أفرطت به ... عجائبه إلا أخو عام قابل
أجل هي ليلة شبيهة بالبارحة، وفي كل عام قابل أو غابر عجائبه التي تغنيه، ومسائله التي ترتفع منها الصيحة إلى القبة الزرقاء.
ولكنني إذا أنكرت الصيحة إلى القبة الزرقاء فليس في وسعي أن أنكر دواعيها ولا مواجع النفس الإنسانية منها، وغاية ما أصنعه بها أن أحولها من صفحات علم التوحيد أو علم (اللاهوت) أو علم ما وراء الطبيعة إلى صفحات علم آخر هو أولى بها وأحق بتصريف أمرها، وهو علم الاقتصاد أو علم التشريع، لأنها مسألة الأرض والعمل وليست مسألة الآباد والأزال.
عباس محمود العقاد