مجلة الرسالة/العدد 59/بين الشك والأيمان
→ خبيئة نفسي | مجلة الرسالة - العدد 59 بين الشك والأيمان [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 20 - 08 - 1934 |
2 - بين الشك والأيمان
بيرون
للأستاذ خليل هنداوي
تسمع قلبه يخفق، وتصغي إلى ضميره يهتف، فتعرف أن الشك قد فتح في قلبه الذي يريد ألا يحس شيئاً جراحات لم تفقده الحياة ولا يرجى له منه شفاء. (وباطلاً ترتسم الابتسامات على شفتيه، وباطلاً يتحرى الطرب عن سبيل ينفذ منه إليه في الليالي التي يثور فيها قلقه)، ويشبه نفسه بذلك الإكليل الغض ظاهره، الذاوي باطنه، وإزاء هذا الشقاء قد نراه ينتفض كالجبار فيقول بلهجة صارمة (ليقل عني من رآني حاني الجبين ومن أورثه قلق نفسي ضعفاً)
إن الشاعر لا يعاند في احتمال الشقاء، ولكنه يريد أن يقابله وهو قوي لا ذليل مستكين، يريد أن يصبر عليه كما يصبر الرجل عند البلاء، يريد أن يموت كالسراج الذي لا ينطفئ حتى يشيع ما حوله بشعلة ساطعة يختم بها حياته، ولكن هذه الانتفاضات المؤقتة سرعان من تتلاشى ليبدو وراءها (بيرون) نفسه.
يقول هارولد (إن آلامنا العاصفة تترك وراءها أثراً بعد ذهابها: قليل من شيء يسقط على ذلك القلب فيهزه إلى الأبد وقد يكون هذا الشيء نغمة شائعة، أو رنة موسيقية، أو ذكرى ليلة من ليالي الصيف، أو ربيع بهي، أو زهرة أو ريح، أو البحر الذي يفتح على حين فجأة جراحاتنا)
وراء هذه الخاطرات يكمن بيرون الذي يصف نفسه ونفوس كثيرين مثله، فهو سئم من الماضي القاتم، وهو شاك من الحاضر الظالم، ويائس ناقم من الغد القادم. تقرا في أسارير وجهه المتجعد هذه الآيات التي كانت كل همه في الحياة.
وروح بيرون هل ارتاحت إلى شقائها أو غلب عليها أمل في غد هو أزهى من الحاضر؟ وإنما يهمها من ذلك الغد أن تجتمع فيه إلى أحبابها وأصدقائها.
(وما عسى يحول إليه هؤلاء الأحباب المختفون؟ وهل نراهم بعد أن تواروا في الثرى؟ ألا يبقى منهم شيء غير الأسماء المنسية؟)
وقف بيرون على قبر صديق له مات في مقتبل عمره وقال: (ه أمسيت لا شيء وأنت حي مقيم في ذاكرتي. أجل! إنني أعلم بأننا سنجتمع معاً. وهذا الوهم سيملأ فراغ قلبي)
وهكذا نجده لا يذكر المستقبل إلا مصحوباً بوهم أو بحلم، ولكنه وهم خلقته له الحاجة، فهو لو لم يرغب في لقاء من مات من أترابه لما خلق هذا الوهم.
وبيرون هو الذي يهتف: (أصدقائي يتهاوون على الثرى من كل جنس، وأنا سأرسو على الأرض كشجرة منفردة قبل أن يغشاه ذبول. يستطيع الرجال الآخرون أن يلوذوا بأهليهم وأنا لا ملجأ لي إلا عواطفي التي لا تريني في حاضري وفي غدي إلا الرضا الأناني ببقائي حياً بعدهم، إنني لشقي!)
وقد يبلغ به اليأس مبلغاً أشد وأقوى فيقول (أيها الإنسان! ترفع عينيك إلى السماء وأنت لاصق بالأرض، ألا يكفيك أن تعرف من أنت؟ وهل كان الوجود منحة ثمينة تنعم بها مرة ثانية بعد هذه؟ وترغب في التوجه إلى مكان لا أدريه، جل ما تطلبه أن تستعجل الفرار من هذه الأرض، والفناء في السماء)
وفي حالة يأس كتب بيرون هذه الفقرة (الموت! وا أسفاه! ذهاب دائماً! فإلى أين يذهبون! وإلى أين يذهبون؟ أسأحول إلى العدم الذي كنت فيه قبل حياتي وشقائي الحي؟)
وهذه الفقرة الثانية (الحياة تحلق بين عالمين: كالنجمة المعلقة في حاشية الأفق يكتنفها عالماً الظلمة والنور. إن أوقيانوس الزمن الخالد يمشي ويجرف معه (حبباً خفيفاً). الحبب القديم يتلاشى والحبب الحديث يتألف منفصلاً من زبد العصور. وخلال ذلك ترى بقايا هذه الممالك تجرفها أمواجه الهاربة)
ولكن هذه الثورة النفسية يتخللها شيء من الهدوء. أو قل هدوء الخضوع للقدر المجهول الذي يعمل دون أن يرى. فيخلق الشاعر من هذا الرضا شيئاً يبعثه على الرجاء فيناجي الموت قائلاً: (أيها الموت القاسي، قد ملكت مني كل ما تستطيع أن تأخذه: سلبتني أمي، ثم صديقي، والآن نزعت مني أسمى من صديق، ولكنني أنحني بوقار أمام الله) وإذا بهذا الوقار ينمو في نفس الشاعر ويوقظ فيه الأيمان القديم ويحني فيه حنيناً إلى السماء، فيأسف على القيود التي تحول بينه وبين الصعود إلى السماء التي تدعوه إليها بنظراتها الخلابة، وإذا بشعره تبدو على ديباجته مسحة روحانية صوفية.
قال الكونت (غامبا): لأول مرة فتحت حديثاً دينياً مع الشاعر بيرون في نزهة لنا قضيناها على ظهور الجياد بين غابات الصنوبر، فكانت تلك العزلة باعثة على التأملات. فقال: والنهار مشرق الصفاء (كيف يشك الإنسان في وجود الله على الأرض إذا رفع عينيه إلى السماء وخفضهما على الأرض، ثم أنحدر بهما إلى نفسه، أفي استطاعتنا أن نشك في أن هنالك شيئاً هو أسمى وأبقى من التراب الذي نشأنا منه؟.) وهو الذي كتب قبيل وفاته: (يخيل إلي إن الإنسان إذا تأمل في أعمال الروح لا يستطيع أن يجد شكاً في خلودها، إنني شئت أن أشك، ولكن التأمل أبدى لي خطئي. أما هل حالتنا الثانية تشبه حالتنا الحاضرة؟ فهذا سؤال آخر. أما أن الروح هي خالدة، فهذا شان ثابت عندي ثبات فناء الجسد.) ولكن بيرون الذي يؤمن بالحياة الثانية نراه لا يؤمن بها على المثل الذي جاءت به الكتب الإلهية، فهو يجعل من الجنة مستقراً للجميع، ولا يود أن يحشر في النار أحداً. ويقول في هذا الموضوع: (إن كل بعث جسدي هو غريب منكر لا يقبل به العقل إلا إذا كان المراد منه إنزال العقاب. ولكن كل عقاب غايته الانتقام من المذنب لا تهذيبه فهو عقاب سيء غير أدبي. والأهواء الإنسانية هي التي بدلت - كما يتبادر إلى الظن - المذاهب الإلهية. والخلاصة إنه سر عظيم.) وتراه يطلب إلى الدين أن يحقق ما أبت الفلسفة أن تميط عنه اللثام: (ما هي الحقيقة؟ ومن هو الذي يملك دليلها؟ الفلسفة؟ كلا: لأنها تنفي كثيراً من الأشياء! الدين؟ بلى. ولكن أي دين؟ أما قد حان للإله أن يحيي إيماننا فيرسل إلينا نبياً جديداً.)
وهكذا تتوزع بيرون نوازع مختلفة، منها ما يدنيه إلى الجحود بعد أن تجهد نفسه في التنقيب والتفكر، فلا تصل إلى شيء. ومنها ما يصرفه إلى الإيمان بعد أن تكل عزيمته، ويأخذ منه الإعياء كل مأخذ. فآيته منها الآية الشاكة الجاحدة، ومنها الآية المؤمنة الزاهدة، هو كالعصفور الذي يود أن يحلق فيحلق في الأجواء حتى يبلغ الاوج الذي يستطيع، ثم يهبط ويرضى بهبوطه لأن ارتفاعه لم يغنه شيئاً.
وكيف انتهى بيرون؟ وهو الذي كان يرجو الموت فلا يلقاه. ويكرهه أشد الكراهية إذا تمثل في الانتحار، أراد موتاً شريفاً في ساحة الأبطال، فيمم أرض اليونان حيث دعاه داعي تحرير الإنسان من الإنسان، فوجد نفسه يحيط بها القلق ويغلب عليها الاضطراب. وهناك وهو في السادسة والثلاثين من عمره نظم مقطوعة ودع بها الشباب والحياة، وهو في أزهى ريعان الشباب والحياة، فلم يتمن إلا قبر الجندي البطل. فناجى نفسه قائلاً: (إذا فقدت من الحياة أعذب شيء، فمن أجبرك على احتمال هذه الأعباء الثقيلة؟ هي هنالك ساحة الشرف، فأذهبي واختاري مضجعاً عظيماً، اذهبي وتخيري موطناً يهدأ فيه رمادك ثم استريحي) وفي اليوم الموعود طار النبأ بأن (الرجل العظيم قد مات)
وقد أفرد النقادة الفرنسي (تين) في كتابه (تاريخ الأدب الإنجليزي) صفحات مختارة، تناول فيها الشاعر (بيرون) ووصف بحذق ودراية (مرض العصر) الذي فشا بين الأدباء، فأسقط كواكبهم، وصرع عظمائهم.
يقول تين: (وهكذا عاش ومات هذا الرجل العظيم التعس، فكان فريسة سمينة لم يعلق بمثلها مرض العصر، ومن حولها يتساقط الآخرون ضحايا. . . . . البعض انطفأ غارقاً في الذهول والنشوة، والبعض قتله السرور والغناء. أما هؤلاء فقد آل أمرهم إلى الجنون والانتحار، وأولئك غلب على أمرهم العجز والداء. وكلهم عاشوا ناقمين حانقين متألمين، وأشدهم عزماً من استطاع أن يحتمل جرحه حتى صار كهلاً، وأكثرهم هناء من تألم كما يتألم الغير، يحرص على جراحه وهي بريئة. قد ملأ أنينهم العصر كله ونحن وقوف حيلهم نصغي إلى قلوبنا التي تردد هتافهم همسا، ونحن كئيبون مثلهم، تسيطر علينا الثورة، فالديمقراطية قد فتحت مطامعنا دون أن ترويها، والفلسفة أضرمت رغائبنا دون أن ترضيها. فرجل الشعب يشكو وضاعته. والشاك من شكه!
وإنما هذا الرجل - كالرجل الشاك مصاب بسويداء حلت في قلبه قبل أوانها. . . . فتراه يستسلم بعواطفه للشعراء الذين يقولون باستحالة السعادة، وفساد بناء المجتمع وسقوط الإنسان
لا رجاء في شفاء هذا الداء. لأنه داء لا تقوى على محوه عوامل السرور ولا الدين ولا أي شيء. . . وطويلاً سيشعر الناس بأن عواطفهم ترتعش لأنين شعرائهم العظماء. وطويلاً سينقمون على قدر يفتح لأهوائهم فضاء بدون حدود، ولن يقدر لهم الشفاء حتى يحطموها. . . أن ذريتنا مصابة كالسابقين بهذا المرض نفسه. . إننا ذاهبون إلى الحقيقة لا إلى السكون، كل ما نستطيع أن نعالجه في هذه اللحظة هو عقلنا. . . إذ ليس لنا ما نؤخذ به عواطفنا، إن لنا الحق بأن نتفهم آمال غيرنا التي ليس لنا مثلها، وأن نهيئ لمن يأتي بعدنا سعادة لن نتمتع نحن بها، وستكون لهم أرواح صافية المعدن عند ما ينشئون في محيط صافي المعدن.
ولكن أين يكمن مورد هذا الصفاء؟ إن مورده العلم وحده، فإن في استخدام العلم وفي أدراك الأشياء، فناً وأدباً وسياسة وشريعة جديدة، وإنما واجبنا اليوم أن نتحرى هذه الأشياء)
(بيروت)
خليل هنداوي