مجلة الرسالة/العدد 588/حول فلسفة نيتشه
→ ثقافة أبي العلاء | مجلة الرسالة - العدد 588 حول فلسفة نيتشه [[مؤلف:|]] |
اللغة القانونية في الأقطار العربية ← |
بتاريخ: 09 - 10 - 1944 |
ثورة على القطيع
للأستاذ زكريا إبراهيم
لم يقتصر نيتشه على مناهضة أصحاب النزعة العاطفية المغالية، بل لقد حاول أيضاً أن يناهض أصحاب النزعة العقلية المتطرفة؛ فحمل على (العلماء) الذين يؤمنون بالعلوم الوضعية ويرون فيها شفاء ومقنعا للفكر الإنساني، وحمل أيضاً على (الفلاسفة) الذين يؤمنون بالعقل ويعتبرونه المعيار الوحيد للحقيقة. وبين هؤلاء الذين لا يصدرون في تفكيرهم إلا عن (العقل)، وأولئك الذين لا يصدرون إلا عن (القلب)، وقف نيتشه موقف أستاذه شوبنهور، فجعل الصدارة للإرادة، وقدم القوة على الفكر والعاطفة، فالإرادة عند نيتشه هي جوهر الوجود، وكل ما في الوجود إنما هو تعبير عن هذه الإرادة
غير أن الإرادة قد تفهم إما بالمعنى الفردي أو المعنى الجمعي؛ وهذا المعنى الأخير هو ذلك الذي يحرص عليه الديمقراطيون والاشتراكيون، فيخضعون الفرد للجماعة. ولكن نيتشه يتمرد على (غريزة القطيع)، ويعلن سيادة الفرد المطلقة في نظام الطبيعة، على نحو ما أعلن رجال عصر النهضة
وقد انقسم عصرنا الحاضر كله إلى طائفتين: طائفة الاشتراكيين، وطائفة الفرديين؛ وهاتان الطائفتان قد تشكلت كل منهما في نهاية الأمر بصورة (إنسانية). أما النزعة الرومانتيكية فإنها في الواقع قد اتجهت إلى عبادة الشخصية، وإن كانت قد قدست على وجه الخصوص تلك التي لا تخضع إلا لقانونها فقط، أعني تلك التي لا تتقيد إلا بالشرعة التي استنتها قوتها الخاصة، متمثلة في الهوى المنطلق، أو الإرادة التي لا ضابط لها. وقد ترتب على هذه النزعة، أن ظهرت الفردية المتطرفة التي أفضت في النهاية إلى ظهور المذاهب (الفوضوية). ووجدت في الوقت نفسه نزعة رومانتيكية اشتراكية وديمقراطية، على يد بيير ليروه، وفيكتور هيجو، وجورج صاند، وميشيليه؛ وهذه أشاعت في المجتمع مبادئ السعادة، والحرية الشاملة، والإخاء، والمساواة. إلى آخر تلك المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية. أما نيتشه فقد رأى في كل هذه النزعات انحرافاً وانحلالاً، ولذلك فقد عاد إلى النزعة الفردية البدائية، ونصب (الأنا) أو الذات، ضد المجتمع بأسره. وبدلا من تلك الديمقراطية التي تتهدد بالمساواة بين الجميع ومحو كل الاختلافات والفروق، أو تلك الاشتراكية الشعبية التي تفنى الفرد لحساب المجتمع، نجد نيتشه يدعو إلى أرستقراطية جديدة يعارض بها كل تلك المذاهب الديمقراطية والاشتراكية والفوضوية، ويعتبرها سبيل الخلاص الوحيد، فيستبدل بالرجل المتوسط المساوي لغيره من الناس، الرجل الكامل أو (الإنسان الأعلى)
والرجل المتوسط الذي يحمل عليه نيتشه هو ذلك الإنسان الوضيع الذي ينساق مع القطيع، على طريقة خراف بانورج أما ذلك الذي ينطوي على نفسه، ويفزع إلى الوحدة لكي يعيش كالنجم الغارق في السكون، فهو في نظر نيتشه الرجل القوي المبدع: (إن الأحداث العظيمة لا تنشأ إلا بعيدا عن الجماهير والأمجاد، فكل من ابتدعوا القيم الجديدة قد انتبذوا لأنفسهم مكانا قصيا، على منأى من العامة، وبعيدا عن الأمجاد) والرجل الممتاز إنما هو ذلك الذي يهرع إلى الوحدة، وينفرد بنفسه، لكي يحيا كتلك (الدوحة التي تشرف على البحر في سكون، وتصغي إلى هديره في صمت)!
لقد يصرخ به القطيع قائلا: (إن من فتش فقد ضل، وما الوحدة إلا خطيئة)، ولكنه يمضي غير آبه بصوت القطيع الذي يهيب به، لأنه يعلم أن صوته نداء العبودية يستصرخه أن يبقى، وصوت الوحدة نداء الحرية يستصرخه أن ينطلق! اجل، إن الرجل الممتاز لم يخلق لكي يسير وراء القطيع، بل لكي يكون ثورة على القطيع، ونارا حامية تصلى بها الجماهير! فليس على الرجل الممتاز أن يخضع لحكم العامة، بل عليه أن يخضع لحكم نفسه فحسب. وليس من واجب الرجل المبدع أن يأخذ بما يمليه عليه قانون السواد الأعظم، بل إن من واجبه أن يتخذ من إرادته قانونا له، فيشرع لنفسه الخير والشر. وليس ينبغي للرجل القوي أن يمد يده متسرعا لمصافحة من يلتقي به في طريقه، بل ينبغي له إذا التقى بتلك الحشرات التي يتحلب ريقها بالسم، أن يسارع إلى وحدته، حتى لا تمتد إليه السموم الخبيثة التي تنفثها حشرات المجتمع!
فالرجل الممتاز إذن هو ذلك المتوحد الذي يعتزل الناس لكي يعيش بعيدا عن المجتمع، منطويا على نفسه؛ وأما الرجل الضعيف فهو ذلك الذي يشعر بحاجته إلى الاجتماع بالناس، والانضمام إلى القطيع. ولذلك يقول نيتشه: إن الأقوياء ينزعون إلى الانفصال والتفرد، على حين ينزع الضعفاء إلى الاتحاد والتجمع. والرجل الممتاز - كما يقول زرادشت - هو ذلك الذي ينفر من المجتمع، ويأنف من الجماعة، ويحلق بجناحيه فوق السحاب، فترمقه أعين الحاسدين، وترشقه نظرات الحاقدين. وليس بدعا أن يثور الناس على مثل هذا الرجل، فإن من دأب العامة أن تتمرد على كل رجل مبدع يعزف بنفسه عن غمار الناس: (إنك لتعلو عليهم وتسمو فوقهم، ولكنك كلما ازددت علواً، ازددت صغاراً في أعينهم الحاسدة. أما ذلك الذي يحلق بجناحيه فوقهم، فليس أبغض إليهم منه)!
ولكن، أليس الإنسان حيوانا اجتماعيا يميل إلى التجمع بفطرته، وينفر من العزلة بطبيعته؟ ألم يقل أرسطو إن حياة العزلة لا تتهيأ إلا لإله أو حيوان؟ إذن فكيف يزعم نيتشه أن (الرجل القوي) هو (الرجل المتوحد)؟ وكيف يذهب إلى أن الضعفاء هم الذين ينزعون إلى الاتحاد والتجمع؟. يجيب نيتشه على هذا فيقول: إن الإنسان حيوان مفترس متوحد، فالأقوياء الذين هم سادة النوع البشري يميلون بالضرورة إلى العزلة والتفرد، وينفرون من كل نظام يضطرهم إلى الاتحاد والتجمع، وبعبارة أخرى فإن الحياة الاجتماعية في نظر نيتشه معارضة للطبيعة، لأن الإنسان حيوان غير اجتماعي بفطرته. وإذا كان الأقوياء قد يكونون مجتمعا في بعض الأحيان، فإن ذلك يرجع إلى رغبتهم في القيام بحركة عدوان مشترك، يرضون بها إرادة السيطرة التي توجد لديهم جميعا. ولكن شعورهم الفردي في معظم الأحيان، ينفر من تلك الحركة المشتركة، ويتأذى من ذلك العمل الجمعي. أما الضعفاء فإنهم يرتبون أنفسهم في طبقات متلاصقة، إرضاء للحاجة التي يشعرون بها نحو هذا التجمع، وبذلك تلقى غريزتهم لذتها القصوى الكاملة
ولكن، هل من الحق أن التجمع دليل الصعف؟ أليس التاريخ الطبيعي شاهدا على فساد هذا القول؟. . . إن الواقع أن الحيوانات التي توجد لديها (غريزة القطيع) قد استطاعت أن تخرج من معركة تنازع البقاء ظافرة منتصرة بينما خرجت الحيوانات المتوحشة مغلوبة منكسرة. وهاهي ذي الحيوانات القوية تعيش جماعات، فتكون القردة لنفسها أسراً، على الرغم من أنها لا تقل في ذكائها عن النمورة والفهود. وهاهو ذا التاريخ يظهرنا على أن الإنسان القديم لم يكن يعيش وحده، بل كان يعيش في مجتمع. فليس من الصحيح إذن أن قوة الكائن الحي هي التي تولد فيه الميل إلى الوحدة والتفرد، بل الصحيح أن الكائنات القوية تجنح إلى الاتحاد والتجمع، وتنفر من الانفصال والتفرد. وهل كانت الفيلة حيوانات ضعيفة، لأنها تحب الاجتماع؟ أو هل كان رجال (ما قبل التاريخ) ضعفاء، لأنهم كانوا يميلون إلى التجمع، كما سبق لنا القول؟. . . إن سيد الكون الذي دان له كل شيء في الطبيعة، والذي قهر سائر الأجناس الحيوانية ولا يزال يقهرها، إنما هو (الإنسان) الذي يعتبر الحيوان الأول بين طائفة الحيوانات القطيعية؛ فهل علينا من حرج إذا قلنا إن الإنسان حيوان اجتماعي بفطرته؟
لقد أراد نيتشه أن يتمرد على المجتمع، لكي يقتصر على عبادة الذات وتقديسه، ولكن هل نسى نيتشه أن ما يسميه (ذاته) إنما هو في جانب كبير منه، تراث اجتماعي تعاقبت على تكوينه الأجيال؟ فماذا عسى أن يكون نيتشه، وماذا عسى أن تكون ذاته، إذا جردناه من كل ما وضعه فيه الآخرون، وإذا استبعدنا من نفسه كل ما أودعه فيها المجتمع؟ إن نيتشه حين يتوهم أنه يتأمل ذاته، فهو في الواقع إنما يتأمل العالم كله؛ وهو حينما يظن أن في إمكانه أن ينفرد بنفسه ويعتزل الناس، لا يزال بالرغم من ذلك محتفظا في أعماق نفسه بكل أصداء القرون الخالية. ففي أبعد أغوار نفسه - مهما تنكر للماضي - ترن أصداء الأجيال الغابرة. وهل يستطيع الفرد أن يفكر إلا إذا استعان بأفكار السابقين، واستند إلى أعمال المتقدمين؟ إذن فمن الجهالة والعقوق، أن يتنكر الإنسان للجنس البشري كله، وأن يكفر بكل شيء، اللهم إلا فرديته وما يجيء معها من أثرة وعجب وحمق وغرور! ولو أن نيتشه تدبر الأمر في جو حر لا تفسده نزعة أرستقراطية متطرفة، لما تردد في أن يقول مع جويو (أنا لست ملكاً لنفسي؛ لأن كل موجود ليس بشيء من غير الكل. فالموجود بمفرده لا شيء!)
زكريا إبراهيم