مجلة الرسالة/العدد 587/ثقافة الشاعر وأثرها في شعره
→ الحروف اللاتينية لكتابة العربية | مجلة الرسالة - العدد 587 ثقافة الشاعر وأثرها في شعره [[مؤلف:|]] |
على هامش النقد ← |
بتاريخ: 02 - 10 - 1944 |
للأستاذ دريني خشبة
ظن بعض إخواننا الشعراء أننا قصدناهم بمقالنا الذي رجونا شعراء الشباب فيه أن يعنوا بثقافتهم الخاصة حتى يستطيعوا أن يحسنوا الاضطلاع بالنهضة التي نطمع أن تتم للشعر العربي الحديث على أيديهم. . . وإخواننا هؤلاء مخطئون، لأنهم الآن في الذروة من ثقافتهم التي أوشكت أن تمهد لهم الزعامة في الشعر المصري الحديث، وإن كانوا في نظرنا مع ذلك لم يؤدوا لهذا الشعر جزءا واحدة من مائة جزء مما نصبو إليه، حتى يكون لنا شعر لا نخجل من المباهاة به وسط أنواع الشعر العالمي
وسخط بعض إخواننا من شعراء الشباب الآخرين، وعدوا الروح التي أملت علينا مقالنا نكوصا عما أخذنا به أنفسنا من الدفاع عن شعراء الشباب، ونسوا أننا لم نك يوما مكابرين حتى نغمض أعيننا عما في كثير من شعرهم من الطراوة والفجاجة والضعف. . . الشعر الذي لا يمكن أن يحدث نهضة طالما أن أصحابه معجبون به. . . يظنون أنه بلغ الدرجة القصوى من الأناقة والتجويد، وأوفى على الغاية من الذوق والحرارة والشاعرية
ورضى فريق ثالث متواضع فاقتنى الكثير من الكتب التي أشرنا إليها وأخذ يستوعب ما فيها، ويصلح به شأنه، وكان في اعترافهم بما لمسناه في بعضهم من قلة الاطلاع على أشعار العرب في مختلف العصور لون من عظمة النفس التي تفتقر إليها نهضتنا الأدبية التي نرجو أن تبلغ أوجها على أيديهم إن شاء الله
غير أن فريقاً رابعاً من أنبه شعرائنا - الشباب والشيوخ - الذين جمعتنا بهم صدفة من أسعد الصدف، لم يوافقنا على ما ندعو إليه من وجوب أن يكون الشاعر مثقفا تلك الثقافة العميقة التي لا تنبغي - فيما ذهبوا إليه - إلا للعلماء والفلاسفة والكتاب. . . وذلك، أن تلك الثقافة العميقة، فيما ذهبوا إليه أيضاً، قد تجني على شاعرية الشاعر فتجعله جاف الأسلوب، نابي العبارة، ملتوي التفكير، معقد الأداء. . . وضربوا لذلك مثلاً. . . أبا الطيب المتنبي، وأبا العلاء المعري. . . فلم يفتني أن أعارضهم بأبي تمام، والبحتري، وابن الرومي. . .!
وهكذا ننتقل فجأة إلى قضية أدبية طريفة. . . ليست أقل قيمة من تلك القضية الشائكة. . .
قضية وحدة الوجود. . . والعياذ بالله!
إن إخواننا هؤلاء يزعمون أنه لا ضرورة مطلقا لأن يتعمق الشاعر في ثقافته، لأن ذلك يؤثر من غير شك في شاعريته، ويجعله يضمن شعره خطرات علمية (باردة!) إذا كانت ثقافته العميقة تلك ثقافة علمية، أو خطرات فلسفية (حائرة!) إذا كان ممن يدمنون النظر في آراء الفلاسفة وتخبطاتهم. . . فإن كانت ثقافته لفظية، من نوع ثقافة العجاج ورؤبة وعقبة وأبي العلاء، ترك هذا في شعره ذلك المرض الأسلوبي المثقل بحوشي الألفاظ وغريب التعابير، مما يصرف القراء عنه؛ ويزهد عشاق الشعر فيه. . . وذكروا حالات غير هذه، وراحوا يضربون لكل حالة منها أمثالا تجعل رأيهم وجيها، وتكسبه قوة خداعة ذات بريق
فهل ما ذهبوا إليه من ذلك كله حق؟ وهل تطبيقاتهم صحيحة؟ لقد ذكروا المتنبي والمعري فيمن ذكروا من الشعراء الذين أتلفت ثقافتهم شاعريتهم. فهل من الحق أن المتنبي والمعري قد أتلفا شعرهما بما كانا يتعمدانه من تضمينه ألوان الثقافات التي كانا يمتازان بها
لقد نشأ المتنبي في بيئة شيعية، وتعلم في إحدى مدارس الشيعيين بالكوفة، وكان لهذا السبب من أوسع الناس إلماما بتاريخ الفرق الإسلامية وأحوالها ومعتقداتها. وذهب بعض مؤرخي الأدب العربي، ومنهم الأستاذ ماسينيون والدكتور طه حسين، إلى أن المتنبي لم يكن شيعيا فحسب، بل كان قرمطياً، وقرمطياً متطرفاً. وأن قرمطيته بدت في ألفاظه وتعبيراته وأفكاره. ويحدثنا الدكتور طه عن ذلك حديثا طليا في كتابه (مع المتنبي). وكما بدا التشييع في شعره، بدا التصوف كذلك، فهو يستعمل طرق الأداء عند المتصوفة، ويأتي في شعره وأخيلته بكثير من أوهامهم ومعتقداتهم، ويمدح أئمتهم مدحاً قد لا يسيغه المسلم الحق إلا موجهاً إلى الله سبحانه. ولم يبال المتنبي أن مدح الأوراجي الصوفي الذي كان له في مأساة الحلاج النصيب الأوفى، وأن يمدحه بإحدى روائعه التي مطلعها:
أمن أزديارَكِ في الدجى الرقباء ... إذ حيث كنت من الظلام ضياء
ولا يبالي أن يبوح في كثير من قصائده بما لعله كان يؤمن به من الحلول والتناسخ. . . ولست أدري ماذا يقدح ذلك في المتنبي العظيم كشاعر من شعراء الصف الأول بين شعراء العرب؟ ماذا يعيب الشاعر أن يمتلئ ذهنه بلون ما من ألوان الثقافة فيكون له صدى في شعره يصدر عنه عفواً وعن غير عمد؟ قد يكون إخواننا الأعزاء على حق يلاحظون على المتنبي تعمده الإتيان في شعره بالغريب الحوشي من الألفاظ، والغريب الشاذ من الجموع والصفات. . . ولكن ما حيلة المتنبي في عصره الذي كان يزخر بعلماء اللغة وفقهائها وشيوخ النحو والصرف والبلاغة؟ لقد كان أكثر هؤلاء العلماء الأعلام يناصبون المتنبي العداء، وينفسون عليه مرتبته الأدبية التي لم يتمتع بها شاعر من قبل، فكانوا يتعقبون شعره، ويقفون له بالمرصاد، عسى أن يسقطوا له على غلطة، أو أن يعدوا عليه زلة، وكان المتنبي يعرف ذلك منهم، فكان يعبث بهم، ويغلو في هذا العبث، وينصب لهم من عربيته الفصحى فخاخاً تمسك بهم كما تمسك الشراك الثعالب
على أن أحدا من هؤلاء العلماء الأعلام لم يكن أرسخ في علوم العربية كعباً من أبي الطيب. ففي (معاهد التنصيص) - جـ1 ص11 - (أن الشيخ أبا علي الفارسي قال (للمتنبي) يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعْلى؟ فقال المتنبي في الحال: حجلى وظرْبى، قال الشيخ أبو علي، فطالعت في كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً فلم أجد!). وفي خزانة الأدب للبغدادي (جـ1 ص380) أن أبن العميد قرأ على المتنبي كتابا من كتب اللغة
ولعل الذي كان يعيبه هؤلاء العلماء الأعلام على المتنبي لم يكن جميعه، أو لم يكن شيء منه، مما يعاب على سيد شعراء العربية غير مدافع. . فقد كان المتنبي كوفيا، وكان لذلك يخرج في النحو على سنن البصريين وفي الأنصاف (طبع أوربا) تفصيل لكثير مما كان موضع خلاف بين المدرستين بصدد أشعار المتنبي، وقد أجاد الأنباري مؤلف ذلك الكتاب القيم في توضيح ذلك إجادة تامة نافعة تبرئ المتنبي مما أخذه عليه خصومه وما لا يزال خصومه في عصرنا الحديث يأخذونه عليه من مثل ذلك، مما يتوهمونه خطأ
وكما كان للمتنبي خصوم من النحويين وفقهاء اللغة، كذلك كان له خصوم كثيرون من المتكلمين، فكان يداعبهم تارة، ويداعب فقهاء المسلمين تارة أخرى، وقد عنى الدكتور طه بهذه المداعبات في كتابه مع المتنبي عناية كبيرة. . وكانت مداعباته تلك تثير بين أولئك وهؤلاء حربا فكرية طريفة في الزمن الذي كانت تجري فيه. . . فكيف نعدها اليوم من المآخذ التي نحصيها على المتنبي، ونعيب بها شعره؟ وكان المتنبي - لتشيعه - أو لقرمطيته - ولتقلبه في بلاد المسلمين من دون العراق الذي كانت غالبية أهله تفتتن بأساليب المتنبي وتشغف بها، لكثرة ما كان ينتشر فيها من الفرق وأصحاب الفلسفات الغالية، يؤثر استعمال الرمز، ولاسيما إذا كان ينشد في مجلس من السنيين، وهو في ذلك تلميذ للمتصوفة، إلا إنه غدا أستاذهم. وبالأحرى أستاذ شعرائهم. وليس للصوفية رمز، أو إشارة، لم يستخدمهما المتنبي، إلا ما نذر. والذي يدمن قراءة أشعار ابن الفارض يشعر من فوره بتأثر شيخ شعراء المتصوفة بأستاذه المتنبي، ولاسيما في استعمال المذهب الرمزي، وفي كثرة استخدام التصغير. . .
ولست أدري ماذا يعاب من ذلك كله على المتنبي، بوصفه شاعراً كان يعيش في ظروف خاصة، وكان يخضع لمقومات بيئة خاصة
على أن الذي تورط فيه إخواننا مما ذهبوا إلى إنه من عيوب ثقافة المتنبي العميقة التي أتلفت شعره، وخرجت به من جنة الشعر إلى جحيم الفلسفة، تلك الحكمة التي نثرها في قصائده، وكان فيها تلميذاً غير موفق لأرسطو!
وذكروا أن الصاحب بن عباد ألف لفخر الدولة رسالة أحصى فيها للمتنبي ثلاثمائة وسبعين بيتاً تجري مجرى الأمثال؛ فجاء الحاتمي وألف رسالته (الحاتمية) في رد حكم المتنبي إلى أصولها من فلسفة آرسطو. . . والرد على زعم السرقة هنا هين لا يكلف الإنسان عناء، وهي لو صحت لما نهضت برهانا على الذي ذهبوا إليه من تشويهها لشعر المتنبي؛ فمما لا مشاحة فيه أن حكم المتنبي لآلئ غالية يزهي بها شعره، ويتفرد بها، لا بين شعراء العربية فحسب، بل بين شعراء العالم كله. . . وليس معنى ذلك أننا استوعبنا أشعار الأمم كلها. . . ولكننا نقول ذلك بعد أن قرأنا معظم ما ألف عن تاريخ آداب العالم؛ فلم نعثر بشاعر يضارع المتنبي أو ينافسه في ميزته تلك. على أنك تقرأ الحكمة من الحكم التي ينسبونها إلى آرسطوا، والتي لا ندري المصدر الذي استندوا إليه في نسبتها إليه، ثم تقرأ بيت المتنبي الذي يحمل هذه الحكمة. فتشعر من فورك بالبون الشاسع بين أداء المتنبي وأداء آرسطو، وبين تفكير هذا وتفكير ذاك
أي فرق شاسع بين قول آرسطو: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والقص اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها وقول المتنبي:
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل
ومثل ذلك الفرق نلمسه في العشرين والمائة حكمة التي تناولها الحاتمي في رسالته. . .
ذلك ما اتسع له المجال في الدفاع عن المتنبي. . . أما الدفاع عن المعري فموضعه غير هذا الحديث.
دريني خشبة