مجلة الرسالة/العدد 586/العباس بن الأحنف
→ وجهة نظر. . . | مجلة الرسالة - العدد 586 العباس بن الأحنف [[مؤلف:|]] |
الشوامخ. . . ← |
بتاريخ: 25 - 09 - 1944 |
للأستاذ محمود المعروف
في العصر الذي ماج بالعلماء، وزخر بالفلاسفة والشعراء والكتاب، حيث العلم في أزهى أيامه، وحيث (بغداد) قبلة الشرق، فاتحة أبوابها، يؤمها خلق كثير من مختلف بقاع الدنيا، وظل الخلافة ممدود، وتاج بني العباس معقود على جبين (الرشيد) في هذا العصر المشرق؛ لمع نجم شاعرنا، وتألق في سماء الشعر؛ فكان موضع إعجاب معاصريه، وفي مقدمة الشعراء الذين أنجبهم ذلك العصر
قمعت الفتن السياسية، فهدأ جو السياسة والإدارة، وولى الناس وجوههم شطر الملاهي، وانغمسوا في الترف والأنس. ففي (بغداد) الحانات والقيان، وجميع أسباب الملذات والمغريات. ففي مثل هذه البيئة، التي إن لم تكن فاسدة، فإن فيها مجالا لفساد الأخلاق، عاش العباس بن الأحنف، وقدمه (أبو الفرج) في (أغانيه) شاعراً مطبوعاً له مذهب حسن، وديباجة مشرقة، ولشعره رونق ولمعانيه عذوبة ولطف؛ وهذا الوصف قد يغلب على أكثر الشعراء، فهو لم يزدنا علماً بهذا التعريف الذي عرف به الكثيرين من الشعراء
عاش شاعرنا بين قوم يتنافسون في المديح طمعاً بالمال والجاه، ويضرمون نار الفتنة بين العدنانية والقحطانية بفخرهم وهجوهم. ولكنه لم يجاوز الغزل إلى ضرب آخر من ضروب الشعر، وميزته تكاد أن تكون معدومة في ذلك العصر. وأن الباحث ليعجب كيف لم يتأثر هذا الشاعر بما كان حوله من ملذات الحياة وزينتها. وكيف أنه لم ينتم إلى حزب سياسي، أو يشايع أميراً، أو يتملق إلى رجل خطير شأن معاصريه من الشعراء. وفي الحين الذي نرى فيه أن غيره (كأبي نؤاس) و (الخليع) و (صريع الغواني) وغيرهم قد ألقوا بقلوبهم وعواطفهم في نيران الشهوات والملذات، وأسرفوا في المدح والهجاء طمعاً بتأمين رغباتهم وسد احتياجهم. نرى (أبن الأحنف) ينصرف عن كل ذلك إلى الغزل النبيل في حب فتاة واحدة لم ينقلب عليها قلبه، ولم تلتفت عينه إلى واحدة غيرها. فهو في حبه كشعراء (بني عذرة) من حيث الثبات على حب واحد
وقنع من العمر بقصيدة يودعها ما عنده من الآلام، وأبيات من الشعر يشكو فيها ما يلقاه من سهد، ويشرح فيها ما يدور في خلده من خواطر يثيرها الحزن وتبعثها الأشواق ردد في جميع شعره اسم (فوز) وكنى أحيانا بـ (ظلوم) ويستدل من هذا إنه لم يتصنع الحب كعمر بن أبي ربيعة الذي يموج ديوانه بأسماء عشرات الملاح، قد وزع عواطفه عليهن فاعترى أكثرها خمول وفتور. والثبات في الحب أضمن لخلود الشاعر في فراديس الوجدان من التنقل هنا وهناك، فتفنى مشاعره، وتذوب إحساساته، فإن أبدع فإلى أجل معلوم
شغلت (فوز) شاعرنا فلم يندفع في ذلك التيار الجارف الذي اندفع فيه أولئك الشعراء و (فوز) كانت أمنيته الوحيدة في حياته، وشغله الشاغل عن كل ما يحيط به من صور العبث والمجون، فلنستمع إليه يقول:
يقولون لي واصل سواها لعلها ... تغار وإلا كان في ذاك ما يسلى
ووالله ما في القلب مثقال ذرة ... لأخرى سواها إن قلبي لفي شغل
إننا حين نقرأ شعر غيره من معاصريه لا نكاد نخرج من ضجيج سمار إلا ونأتي إلى عزف وقيان، وما نكاد نخرج من خان غص برائديه إلا وجدنا أنفسنا في لجب عصابة تطرق أبواب خمارة بعد هجمة من الليل، وقد فرغت أوانيها من الخمر والشراب
ونقرأ شعره فنجد أنفسنا في جو هادئ من الحب والظرف والجمال. في جو يختلف عن ذلك الجو اختلافاً كبيراً، وفي عالم كله لوعة صادقة وإحساس مرهف، وفي دنيا مترامية الأطراف من الأماني والأحلام. قلنا إنه انصرف عن جميع نواحي الشعر إلى ناحية الغزل، وقلما نجد بين الشعراء في مختلف العصور - والعصر العباسي خاصة - رجلا مثله انصرف عن أمور دنياه بتصوير عواطفه بأبدع الألوان، وتفصيل ما انطوت عليه نفسه الرفيعة في شعر سلس بليغ يستهوي القلوب، ويأخذ بمجامع الألباب، وآثاره تكاد أن تنطق بأنه أحرز سبق المتقدمين والمتأخرين في هذا المضمار. وقد شهد له بذلك أكثر المؤرخين والمفكرين، ومنهم الجاحظ. وقد قال: (لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاماً وخاطراً ما قدر أن يكثر في مذهب واحد من الشعر لا يجاوزه، لأنه لا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعراً لزم فنا واحدا لزومه فأحسن وأجاد. . .)
وقدمه (المبرد) في كتاب (الروضة) على نظرائه، وأطنب في وصفه، ومما قاله: (كان العباس من الظرفاء ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلاً ولم يكن فاجراً، وكان ظاهر النعمة شديد التظرف وذلك بين في شعره، وكان حلواً مقبولاً غزير الفكر واسع الكلام)
وهاهو ذا يستأذن أحبابه بالزيارة فيقول:
أتأذنون لصبّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به ... عفّ الضمير ولكن فاسق النظر
ويسترسل العباس في ظرفه بعد أن يشيع حبه وشغفه بفوز، وقد مرت به (سائلة) فقال:
ألم تر أن سائلة أتتني ... فقالت وهي في طلس بوالي
ألا صدق عليَّ بحق (فوز) ... فقلت لها خذي روحي ومالي
وتكتب إليه (فتاة) أن يصلها فيقول:
فقلت لها إليك هواك عني ... فأني عن هواك لذو انشغال
ومالي توبة إن خنت فوزا ... ولم تكن الخيانة من خصالي
إذا ذكر النساء بكل حال ... فهنّ لها الفدا في كل حال
وكان بينه وبينها مواعيد ورسائل ولقاء، وقد كانت تحدث بينهما بغضاء أحب إلى النفس من الصفاء، وقد شرح كل ذلك في شعره، فديوانه مرآة تنعكس عليها نفسيته الرفيعة، وأحاسيسه المرهفة فيما يقع بينهما من حوادث ومغامرات، فهو شاعر محزون في حالتي الرضا والجفاء. فلنستمع إلى قوله:
أبكي إذا سخطت حتى إذا رضيت ... بكيت عند الرضا خوفاً من الغضب
أنوب من سخطها خوفا إذا سخطت ... فإن سخطتُ تمادت ثم لم تتب
وهو الذي يقول:
سأهجر إلفي وهجراننا ... إذا ما التقينا صدود الخدود
كلانا محبّ ولكننا ... ندافع عن حبنا بالصدود
وابن الأحنف كلف بتسجيل حوادثه في شعره، وإني لأحسب ديوان شعره خير تاريخ له يستمد منه الباحث حياته التي كان يحياها، فمن ذلك ما كان يعترض حبه من مقاومة أهله وأهل (فوز) وفي ذلك يقول:
إلى الله أشكو أن فوزا بخيلة ... تعذبني بالوعد منها وبالمطل
وأني أرى أهلي جميعاً وأهلها ... يسرُّهم لو بأن حبلك من حبلي فيا رب لا تشمت بنا حاسداً لنا ... نراقبه من أهل فوز ولا أهلي
وأما حوادثه مع بعض النسوة اللاتي كن يضايقنه وما لهن غرض غير تعذيبه فكثيرة جدا وظريفة إلى حد بعيد، وربما بلغ به الوجد في بعض الأحايين أن يستعدي عليها أهلها، وما عرفنا شاعراً صنع قبله ذلك ولا قال:
أيا أهل فوز ألا تسمعون ألا ... تنظرون إلى ما لقينا؟!
ألا تعجبون لفوز التي؟! ... تميل وتصغي إلى الكاشحينا
قد عجب الناس من أمرنا ... وأنساهم قصص الأولينا
وصرنا حديثا لمن بعدنا ... يحدث عنه القرون القرونا
وقوله هذا يذكرني ببعض أبيات لشاعر شاب جنّ في هواه فأسموه (مجنون بهية) أذكر منها:
شكتني بالأمس إلى أمها ... ما أعظم الخطب وما أسهله!
يا أمها لا تسمعي قولها ... فحبها للقلب قد زلزله
كوني شفيعي في الهوى عندها ... فأنت لي سيدة مفضله
ولعل هذا الشاب المسكين - وقد قرأت شعره كله - قد ارتبط بما ارتبط به شاعرنا من حوادث وآلام، فإني قد رأيت في شعره صوراً من صور العباس بن الأحنف، ولو كنت ممن يؤمنون بتناسخ الأرواح لم أشك في أن روح إبن الأحنف قد حلت في هذا الشاب المسكين. أقول هذا لأضرب مثلا على أن الكثيرين من الذين صدقوا في هواهم قد اتصلوا اتصالاً مباشراً بروح شاعرنا الظريفة
دون هذا الشاعر حوادثه في شعره إلى جانب تصوير عواطفه فأصبح ديوانه مجموعة فريدة من أخبار ظريفة محببة إلى النفس وعواطف صادقة لم تشبها شائبة من التكلف والصنعة، فأي لوعة أصدق من هذه اللوعة؟!
أتذهب نفسي لم أقل منك نائلاً ... ولم أتعلل منك يوماً بموعد؟!
فإن جاء مني بعض ما تكرهينه ... فعن خطأ والله لا عن تعمّد
وقوله:
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق وأكثر في شعره شكواه من تأخير كتب (فوز) والرد على رسائله، وله في ذلك مذهب لطيف يفيض رقة وجمالا:
أيا من لا يجيب إذا كتبنا ... ولا هو يبتدينا بالكتاب
أما في حق حرمتنا لديكم ... وحق إخائنا رد الجواب؟!
وقوله في قصيدة ثانية:
وكنت إذا كتبت إليك أشكو ... ظلمت وقلت ليس له جواب!
فعشت أقوت نفسي بالأماني ... أقول لكل جامحة غياب
وأن الود ليس بكاد يبقى ... إذا كثر التجني والعتاب
خفضت لمن يلوذ بكم جناحي ... وتلقوني كأنكم غضاب
وللمؤرخين وسائر أئمة الأدب العربي القديم آراء حسنة في هذا الشاعر المجيد، فقد سئل (الأصمعي) عن أحسن ما يحفظ للمحدثين فقال. قول العباس بن الأحنف:
لو كنت عاتبة لسكن روعتي ... أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة ... صد الملول خلاف صد العاتب
وكان (الواثق) يتمثل بقوله:
عدل من الله أبكاني وأضحكا ... فالحمد لله عدل كل ما صنعا
وقال (احمد بن إبراهيم) رأيت (سلمة بن عاصم) ومعه شعر العباس وقلت: مثلك - أعزك الله - يحمل هذا فقال ألا أحمل شعر الذي يقول:
أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظن بالناس
يقلقني الشوق فآتيكم ... والقلب مملوء من اليأس
وقال (الواثق) ذات يوم لجلسائه: أريد أن أصنع شعرا معناه أن الإنسان كائن من كان لا يستطيع الاحتراس من عدوه فهل تعرفون؟ فأنشدوه ضروبا من الشعر فقال: ما جئتم بشيء مثل قول العباس:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
وقال (ابن المعتز): لو قيل لي ما أحسن شيء تعرفه لقلت قول العباس إذ يقول: قد سحّب الناس أذيال الظنون بنا ... وقسم الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمي بالحب غيركم ... وصادق ليس يدري إنه صدقا
وكان (الرشيد) يعجب بشعره ويستأنس لحديثه، وصادف مرة أن خرج إلى (خراسان) فأمر بخروج العباس في موكب الخلافة، وطال مقامه في خراسان وشخص منها إلى (أرمينيا) والعباس معه، فهزه الشوق إلى (بغداد) وطن صبواته، فاعترض أمير المؤمنين وأنشده:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
ما أقدر الله أن يدني - على شحط - سكان (دجلة) من سكان (جيحانا)؟!
ليت الذي نتمنى عند خلوتنا ... إذا خلا خلوة يوماً تمنانا؟
فأذن له (الرشيد) بالرجوع
ومات العباس بن الأحنف، وإبراهيم الموصلي، والكسائي في يوم واحد. فرفع ذلك إلى الرشيد فأذن للمأمون أن يصلي عليهم بالناس فبدأ بالصلاة على العباس ولما انتهت مراسيم الدفن تقدم من المأمون أحد رجال حاشيته واستخبره عن سبب ذلك. فقال المأمون:
كيف لا أبدأ بالصلاة عليه وهو الذي يقول:
سمّاك لي قوم وقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد
وكانت وفاته سنة (192هـ) وكان له من العمر (60) سنة ودفن في بغداد.
(بغداد)
محمود المعروف