مجلة الرسالة/العدد 585/البريدُ الأدبي
→ بعد عامين. . . | مجلة الرسالة - العدد 585 البريدُ الأدبي [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 18 - 09 - 1944 |
إلى الأستاذ محمد أحمد الغمراوي
تعجبني مداعباتك الطريفة للدكتور زكي مبارك، ويدهشني حقاً كما يدهش الكثيرين أن يقف الدكتور - وهو الصوال بالمقدام - هذا الوقف السلبي الغريب بازاء نقد أوشك أن يهدم أكبر أثر له طالما اعتز به وفاخر. وما دام قد لاذ بالصمت وآثر عافية غير محمودة، فلا مندوحة لسواه من أن يسد مسده في التعقيب على ما يستحق التعقيب عليه من هذا النقد. وقد وقعت من ذلك على نقطتين في مقالك الرابع عن (فساد الطريقة في كتاب النثر الفني)
الأولى: أنك ذكرت أن سر تفاهة البيت:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
ليس في صدق هذا الكلام ومطابقته للواقع - كما زعم الدكتور في كتابه - وإنما هو في أن المشبه به في الشطر الثاني من البيت هو المشبه عينه الوارد في الشطر الأول مما أبطل التشبيه لعدم المغايرة بين طرفيه، فأصبح البيت من ناحية التشبيه بيتاً كذباً، ولو استبدل بحرف التشبيه حرف التوكيد لصدق البيت وارتفعت قيمته ارتفاعاً يجعله بمنجاة من أن يكون مثلاً مضروباً في السخرية والاستهزاء الخ. . .)
وأقول إن البيت - حتى بعد هذا التعديل المقترح - يظل تافهاً، بل غير صحيح من ناحية اللغة، وذلك لأنه يشترط في الخبر أن يفيد فائدة زائدة على المبتدأ، وفي ذلك يقول ابن مالك:
والخبر الجزء المتم الفائده ... كالله بر والأيادي شاهده
ولا معنى للخبر إن لم يكن كذلك. وما ورد فيه الخبر بلفظ المبتدأ لوحظت فيه مع ذلك فائدة زائدة على المبتدأ كما في قول القائل: أنا أبو النجم وشعري شعري. إذ عني بقوله (شعري شعري) أن شعره الحاضر هو من جنس شعره المعهود للمخاطبين من قبل. وعلى تقدير كهذا حمل قوله ﷺ: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) في حديث (إنما الأعمال): (وليس في الخبر الوارد في قول القائل: (كأننا والماء. . . الخ.) فائدة زائدة على المبتدأ ولا هو مما يحتمل تقدير شيء من ذلك.
الثانية: ذكرت ما أورده الدكتور زكي في كتاب النثر الفني نقلا عن الباقلاني من تعريف الأخير للسجع بأنه: (ما يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع)، وتقريره أن ما ورد في القرآن على هيئة السجع لا يدخل تحت هذا التعريف، (لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى). وأردفت ذلك بذكر عبارة الباقلاني التي أكد بها احتجاجه لرأيه المتقدم، وهي:
(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ: ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)
ثم زعمت أن هذه العبارة لا تستقيم مع رأي الباقلاني المتقدم، وأنه لا بد أن يكون قد وقع فيها تداخل عند طبع الأصل أو عند النسخ استغلق به المعنى على القارئ مما لم يفطن إليه الدكتور (فدل بذلك على تقصيره في فحص الكلام وتقليبه أو على قصوره في الفهم والتفكير الخ. . .)
والواقع أنه لا تداخل في العبارة ولا استغلاق في معناها الواضح كل الوضوح، فهي تعني أن الكلام الوارد على هيئة السجع على نوعين: أحدهما كلام منتظم في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه. فلا مناص من إيراد اللفظ الوارد على هيئة السجع، لأنه لا بد منه لإفادة هذا المعنى، ولا يمكن أن يحل غيره محله في إفادته، ويصبح المعنى في هذه الحالة مرتبطا بذلك كارتباط معاني غيره من الألفاظ التي لم ترد على هيئة السجع بهذه الألفاظ. فتكون إفادته كإفادتها، أي أنه لا يكون مستجلبا لغرض آخر غير إفادة المعنى. النوع الثاني كلام يكون معناه منتظما بغير اللفظ الوارد فيه على هيئة السجع، فلا يكون هذا المعنى مرتبطا بهذا اللفظ، لأنه يمكن الاستعاضة عنه بلفظ آخر يفيد هذا المعنى أيضاً، وعلى ذلك يكون الإتيان في هذه الحالة بخصوص اللفظ الوارد على هيئة السجع قد قصد به إلى غرض آخر غير إفادة المعنى، ألا وهو تجنيس الكلام. والنوع الثاني هو السجع الحقيقي، والنوع الأول - وهو وحده الوارد في القرآن على ما يرى الباقلاني - ليس بسجع حقيقي وإن جاء على هيئته
ومعنى العبارة على الوجه المتقدم هو المستقيم تماماً مع رأي الباقلاني السابق في تعريف النوعين. فالأول - وهو ما ورد على هيئة السجع وليس بسجع حقيقي - يتبع اللفظ فيه المعنى، لأنه إنما أتى باللفظ للتعبير عن ذلك المعنى المقصود بعد التثبت من إفادته التامة له. أما الثاني - وهو السجع الحقيقي - فيتبع المعنى فيه اللفظ الذي لم يؤت به بخصوصه لإفادة المعنى وإنما لغرض آخر هو تجنيس الكلام، أفاد المعنى المقصود بتمامه أو لم يفد. ومن ثم استهجن التزام السجع لأنه إنما يكون على حساب المعنى
هذا وتستطيع بعد الإيضاح المتقدم أن تتبين بأدنى تأمل ما في عبارتك التي أوردتها تصحيحاً لعبارة الباقلاني من مناقضة لحقيقة رأيه ومجانبة للصواب
وأعود فأكرر إعجابي بمجهودك الموفق في نقد كتاب النثر الفني.
إبراهيم زكي الدين بدوي
الأستاذ بدار العلوم العليا ببغداد سابقاً
حول (الحب عند المتنبي)
تساءل الأستاذ حسن الأمين: هل أحب المتنبي وهل أحس بلواعج الغرام؟
وأراد في جوابه أن يقول، إنه لم يحب، ولم يحس بلواعج الغرام، واستشهد بشيء من شعر المتنبي. وأريد أن أقول إن حب المتنبي يكاد يكون لغزاً مستعصياً على الحل. ولست الآن بصدد إثباته أو نفيه، غير أني أريد أن أستأذن الأستاذ حسن الأمين في ألا أوافقه في أن ما استشهد به من شعر المتنبي يؤدي إلى النتيجة التي وصل إليها. بل في بعض ما يدل على خلاف رأي الأستاذ. وهاكم البيان
1 - فهم الأستاذ من قول المتنبي:
تحملوا حملتكم كل ناحية ... فكل بين على (اليوم) مؤتمن
فهم أنه (لا التهديد بالرحيل، ولا الوعيد بالهجر استطاع أن يلين قلبه ويميل به إلى الهوى)
وكلمة اليوم في البيت التي وضعتها بين قوسين تدل بوضوح على أن المتنبي كان يحب، وأنه يريد بإصرار وقوة أن يتوب من هذا الحب. فيقول. انتهى عهد الحب واليوم أصبح مؤتمنا على لا يؤثر سقماً ولا هما
2 - وإن قال المتنبي (محب كنى بالبيض الخ) إلا أن قوله عدمت فؤاداً لم تبت فيه (فضلة) ... لغير الثنايا الغر والحدق النجل
يدل على أنه يريد أن لا يكون قلبه قاصراً على حب النساء، بل يجب أن يكون فيه (فضله) لغير حب النساء. فظاهر من هذا أن المقام الأول هو لحبهن، والفضلة لغيرهن
3 - قول المتنبي (وما العشق إلا غرة وطماعه) وقوله: (مما أضر بأهل العشق أنهم)، وأمثاله، لا يدل على أنه غير عاشق. بل هو أقرب إلى أن يدل على أنه عاشق برح به العشق وكوى كبده، وذاق حلوه ومره، لكنه رجل غلب عليه العقل وقوة الإرادة، فهو يريد أن يداوي نفسه من عشقه بمثل هذه الأقوال، وكثير ممن جربوا الحب وخابوا فيه أو لم يصلوا إلى نتيجة رجعوا على أنفسهم باللوم وعلى الحب بالتنقيص
4 - وأما الأبيات التي ادعى فيها العشق؛ فأنا أفرض مع الأستاذ أنها لا تدل على العشق، كما يقول المتنبي نفسه (أكل فصيح قال شعراً متيم؟) إلا أنني لا أستطيع أن أمر بأشعاره المشتملة على العاطفة الصحيحة من مثل قوله: (ما لاح برق أو ترنم طائر) إلى آخر ما ذكره الأستاذ في هذا الصدد. أقول لا أستطيع أن أمر بهذا، دون أن أشعر بأن المتنبي كان محباً صادقاً
5 - الحب عاطفة إنسانية أصيلة لا يحرمها إلا من مسخ قلبه، ولا يكون المتنبي - وهو من هو - كذلك، فهذا وحده كاف للتدليل على أن المتنبي أحب، وأنه أحس بلواعج الوجد، وتباريح الغرام. والآن آن أن أقول إن اللغز في حب المتنبي، ليس هو الحب نفسه، ولكن من هو الشخص الذي أحبه المتنبي. وقد أجاب عن ذلك الأستاذ محمود محمد شاكر. ببحث فيه مجال للبحث.
(اللد - فلسطين)
داود حمدان