مجلة الرسالة/العدد 584/حول فلسفة نيتشه
→ بحث نفسي علمي | مجلة الرسالة - العدد 584 حول فلسفة نيتشه [[مؤلف:|]] |
مستقبل رومانيا ← |
بتاريخ: 11 - 09 - 1944 |
رسالة نبي الوثنية!
للأستاذ زكريا إبراهيم
اعتقد نيتشه في نفسه أن عليه رسالة لا بد أن يبلغها للإنسانية، فلم يكن له بد من أن ينتقي لنفسه نبياً يتكلم على لسانه. وقد وضع نيتشه رسالته هذه على لسان نبيه زرادشت، فجاءت وحياً ليس له نظير في عالم الفلسفة. والواقع أن كتاب (هكذا قال زرادشت) هو طُرفة فنية رائعة لا نجد لها مثيلاً في الأدب الألماني الحديث، بل لعلها تكون أروع ما عرفه النثر الأدبي في ألمانيا كلها. ولكن الذي يعنينا من أمر هذا الكتاب هو أن نعرف السبب الذي من أجله اختار نيتشه (زرادشت) لكي يكون المعبر عن آرائه. وقد تكفل نيتشه نفسه بالجواب عن هذه المسألة فقال: (إن أحداً من الناس لم يسائلني - وكان الظن بهم أن يسألوا - عن المعنى الذي أقصده حينما أُجري اسم (زرادشت) على لساني، أنا (اللاأخلاقي) الأول؛ فإن ما كان يميز هذا الفيلسوف من غيره، هو على وجه التحقيق، تعارضه المطلق مع اللاأخلاقي. والواقع أن زرادشت كان أول من وجد في الصراع بين الخير والشر، المحور الأساسي الذي تدور حوله كل الأشياء، فهو أول من حول الأخلاق إلى مجال الميتافيزيقا، وجعل منها قوة أو علة أو غاية في ذاتها. ولكن هذا عينه هو السبب في اختياري له: فإن زرادشت هو الذي استحدث ذلك الخطأ الجسيم الذي هو (الأخلاق) وإذن فإن من الواجب أن يكون هو أيضاً أول من يفطن إلى ذلك الخطأ؛ لا لأن اختباره للمسألة كان أطول وأعظم من اختبار غيره من المفكرين (فإن التاريخ مُفعم بالأدلة التجريبية والبراهين العملية التي تنقض النظرية المزعومة عن وجود نظام أخلاقي للأشياء بل لأن زرادشت كان أكثر أمانة وتوخياً للصدق من غيره من المفكرين.)
ولكن ما هو هذا الوحي الذي نزل على زرادشت من سماء إلهه نيتشه؟ لقد جاء هذا النبي الجديد بديانة معارضة للمسيحية، مناهضة للأخلاق؛ وهذه الديانة مُودَعة في تضاعيف شعر فني ساحر يرن في السمع كما ترن الآيات القصار. فلم يَصُغْ نيتشه إذن أفكاره في ألفاظ وعبارات، بل صاغها في لمع ولمحات. وهذه الأفكار كثيراً ما يَعذُب وقعها في السمع، بغض النظر عن المعاني التي تنطوي عليها، فهي أفكار لا تنحصر قيمتها في ذاتها، ب صورتها الشعرية الرائعة التي تنساب سحرها في النفس خفياً لا تكاد تلحق به المعاني! وليس من شك في أن هذه الصورة الشعرية ذات الموسيقى العذبة، كان من شأنها أن تصرف النظر عن التأمل في المعنى الذي تخبئه الألفاظ، ومن هنا فإن أقوال زرادشت كثيراً ما تتخطى الأسماع إلى القلوب، فتعمل في النفس بما لا تعمله الأفكار والمعاني. وهل يمكن للفلسفة أن تؤثر في النفس كما يؤثر الشعر؟
وليس أسلوب نيتشه وحده هو المجازى الرمزي، بل إن فكره أيضاً رمزي كذلك. فلسنا نجد لدى زرادشت تحديدات دقيقة أو براهين ثابتة، بل نجد خليطاً من الآراء والأقوال، يمكن أن نجد فيها لكل شيء جواباً بالسلب وجواباً بالإيجاب، ويمكن أن نجد فيها أيضاً مجالاً للاختيار بين عشرة أو أكثر من التأويلات المختلفة. وهذا كله من شأنه أن يجعل المؤلف في منجى من الاعتراضات التي يمكن أن يوجهها إليه الناقدون، لأن الناقد لن يجد لديه شيئاً ثابتاً يمكن أن يأخذه عليه -. ومثل هذا الأسلوب في الكتابة، أليس هو قبيل التخلي عن الفلسفة الحقيقية، على حساب هوًى ميتافيزيقي خاص، أو نزعة توكيدية شخصية استحالت إلى إيمان ثابت أو عقيدة راسخة؟ إذن فما أصدق نيتشه نفسه إذ يقول على لسان نبيه زرادشت: (تسألونني لماذا؟ أنا لست ممن يُسألون حين يعملون لماذا؟). وهل كان نيتشه فيلسوفاً يأخذ بالعقل ويخضع للمنطق، حتى يقدّم حجة على ما يقول، أو برهاناً على ما يدعي؟. . . إن زرادشت نبي ملهم، فليس له إلا أن يملي على الناس أحكامه، وليس على هؤلاء الناس إلا أن يرهفوا له السمع!
أما الرسالة الجديدة التي جاء بها هذا النبي الملهم، فهي في جوهرها ردّ فعل عنيف ضدّ الأخلاق المسيحية المغالية، والمذاهب العاطفية المتطرّفة، مما نجده في العصر الحديث لدى أصحاب (ديانة الألم الإنساني) وقد استعان نيتشه في سبيل القضاء على هذه الأخلاق، بكثير من آثار ذلك النقد الألماني العنيف للديانات والفلسفات. ولكن هذا النقد قد اتخذ عنده صورة التجديفات العنيفة واللعنات المتواصلة، فجاءت حملته على الديانات ضرباً من الإنكار الهائج الذي تشيع فيه صورة الجنون. بيد أن هذا الإنكار تعقبه تأكيدات مفعمة بالحماسة والحمية، بقدر ما هي خالية من كل برهنة أو إثبات. وهذه التأكيدات نفسها قد لقيت نجاحاً كبيراً، لهذا السبب عينه وهو انعدام البراهين منها: فإن انعدام البرهنة كان من شأنه أن يخلع على تلك التوكيدات الإنكارية (إن صح هذا التعبير) قوة ووجاهة؛ ومن ثَمَّ فقد سيطرت على الناس وأثرت في عقولهم تأثيراً كبيراً. فهؤلاء الذين يؤخذون بسحر العبارة وموسيقية اللفظ، قد وجدوا في عبارات نيتشه التوكيدية الحاسمة، لذة كبرى لا عهد لهم بها في كتب الفلاسفة. وهؤلاء الذين يولعون بالغريب الشاذ، ويعشقون النادر غير المألوف، قد وجدوا في كتب نيتشه ما لا حصر له من الغرائب التي تستثير الإعجاب وتبعث على الدهشة. ولكن هذا وحده لم يكن السبب الوحيد في إقبال كثير من الناس على قراءة كتب نيتشة (التي أخذت تنتشر ويعاد طبعها) بل إن ثمة سبباً آخر أعمق من ذلك، وهو أن نيتشه قد نادى بمذهب فردي أرستقراطي، أراد به أن يهدم كل أخلاق وكل دين. فالروح الإنكارية التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن، قد وجدت في نيتشه تعبيراً قوياً عن الحاجة التي تشعر بها. وهل كانت رسالة زرادشت في الحقيقة، إلا دعوة صريحة مؤدّاها (العودة إلى الوثنية الأرستقراطية): وهل كان نيتشة إلا (بكال الوثنية) كما قال هافلوك إليس بحقّ؟
زكريا إبراهيم