مجلة الرسالة/العدد 583/فساد الطريقة
→ كتاب المصايد والمطارد | مجلة الرسالة - العدد 583 فساد الطريقة [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 04 - 09 - 1944 |
4 - فساد الطريقة
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
سوء الفهم أيضاً
ليس الغريب أن يخطئ صاحب الكتاب ذلك الخطأ الشنيع في فهم الواضح من آيات القرآن الكريم كآية سورة هود التي حللنا فهمه إياها في كلمتنا السالفة، فإن خطأه ذلك إن هو إلا نتيجة لرأيه في القرآن، ومصداقاً لقوله تعالى: (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) لكن الغريب أن يخطئ في فهم نصوص ذكرها من كلام الناس نذكر لك الآن منه صنوفاً
أراد صاحب الكتاب أن يبين أن صحة المعنى لا تكفي لبلاغة الكلام؛ فزعم أنه (لا يوجد أصدق من قول من قال:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
وتساءل: ولكن من الذي يقيم وزناً لصدق هذا الكلام؟ إن هذا الصدق هو التفاهة بعينها)
والتفاهة ليست في صدق البيت ولكن في الفهم الذي لا يدرك أن سر تفاهته هو في الخلف الذي بين شطريه. ذلك أن البيت في صميمه بيت تشبيه، والتشبيه يتطلب مشبهاً به مغايراً للمشبه، والقارئ يتوقع هذه المغايرة إذا قرأ الشطر الأول؛ فإذا وجد الشطر الثاني قد كذب هذا التوقع بجعله المشبه به عين المشبه بطل التشبيه عنده، وهزئ بالقائل الذي لا يعرف ما هو التشبيه، وبالبيت الذي يكذب شطر منه شطراً
فالبيت من ناحية التشبيه بيت كاذب: يعد القارئ في شطره الأول بشيء يخلفه إياه في شطره الثاني. وهذا الخلف والتضاد بين شطري البيت هو سر تفاهته. فلو حذفت منه حرف التشبيه ووضعت مكانه حرف التوكيد لزال من البيت الخلف الذي هو نوع من الكذب، ولحل محله الصدق، ولارتفعت قيمة البيت ارتفاعاً يجعله بمنجاة من أن يكون مثلاً مضروباً في السخرية والاستهزاء، لكن صاحب الكتاب غبى عليه أن التفاهة التي يحسها في البيت راجعة إلى هذا النوع من الكذب فيه، وتصور أن البيت قد بلغ من الصدق الغاية، فدل بذلك على أنه في الحقيقة لم يفهم البيت ونص آخر وقف صاحب الكتاب عنده موقف العاجز عن الفهم. قول للباقلاني في كتابه إعجاز القرآن يحتج به لما يراه من أن ما جاء في القرآن على هيئة السجع ليس بسجع (لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى) وهذا كلام للباقلاني واضح، يحدد السجع في رأيه كما يعرفه في كلام المستكثرين منه، ويرى سجع القرآن يمتاز منه بمخالفة هذا الحد والفصل الذي ذكر؛ فلم يجعله من قبيله، وافقته على ذلك أو خالفته. وقد أراد الباقلاني أن يؤكد احتجاجه لرأيه ذلك فقال كما روي صاحب الكتاب، وهذا هو محل الاستشهاد:
(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)
نقل صاحب الكتاب هذا الكلام، ودل في الهامش على موضعه من كتاب الباقلاني، ومضى يلخص الفكرة فيه من غير أن يلحظ أن الكلام في الأصل، وكما نقله غير مستقيم مع رأي الباقلاني لتداخل وقع فيه عند طبع الأصل أو عند النسخ استغلق به المعنى على القارئ، من غير أن يدرك ذلك صاحب الكتاب فيزيل منه التداخل قبل التعليق عليه أو تلخيص الفكرة فيه. والتأمل يبين أن وجه الكلام هو كما يأتي بعد نقل كلمة واحدة مكان كلمة، وجملة واحدة مكان جملة:
(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون اللفظ منتظماً دون المعنى. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره)
وقد تكون الفقرة الأخيرة كما يأتي إذا كان التبادل وقع بين فعلي الشرطيتين لا بين جوابيهما:
(ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)
فهذان وجهان للكلام لا بد أن يكون واحد منهما هو ما كتب الباقلاني في كتابه، إذ لا يتضح معناه بغير ذلك. لكن صاحب الكتاب لم يفطن إلى ما في الكلام الذي نقله من تداخل، ولم يحاول أن يناقش حجة الباقلاني التي استغلقت عليه بذلك التداخل، وقصر تلخيصه للفكرة على المعنى المتضح من كلام الباقلاني الذي نقلناه أولا، موهماً أنه قد لخص المعنى في الكلام كله؛ فدل بذلك على تقصيره في فحص الكلام وتقليبه؛ أو على قصوره في الفهم والتفكير
والآن ننتقل إلى مثل ثالث يتعلق لا بسجع القرآن، ولكن بالسجع في القرن الثالث
ذلك أن صاحب الكتاب نقل في صفحة 84 من الجزء الأول من كتابه نصاً من الجزء الأول من كتاب ضحى الإسلام هو: (ونحن نعلم أن هذا العصر - عصر الجاحظ - لم يتكلف فيه سجع، ولم تؤلف فيه كتب مسجوعة كلها؛ وإن تكلف فيه سجع ففقرة أو فقرتان. فأما كتاب كله سجع فهذا ما لا نعرفه في هذا العصر)
وواضح أن الإنكار الذي في هذا النص منصب في صميمه على أن يكون في عصر الجاحظ كتاب كله سجع، لكن صاحب النثر الفني غفل عن هذا أو تغافل عنه في المناسبات الثلاث التي أشار فيها إلى رأي الأستاذ أحمد أمين
ففي المناسبة الأولى وهي التي دعته إلى ذكر ذلك النص لتخطئته استشهد على إمكان وجود كتاب مسجوع لرجل من كتاب القرن الثالث بحرص (ابن داود على وضع عناوين الفصول مسجوعة في كتاب الزهرة) وواضح أن القرن الثالث يمتد بعد عصر الجاحظ بنحو نصف قرن، فلو وجد فيه كتاب مسجوع لما استلزم أن يكون حتماً في عصر الجاحظ. كذلك من الواضح أن عناوين فصول كتاب ليست هي نفس الكتاب، فوجود العناوين كلها مسجوعة ليس معناه أن الكتاب نفسه مسجوع كله. لكن ذلك هو مبلغ فهم صاحب النثر الفني للنص الذي أورده لصاحب ضحى الإسلام ومبلغ تفنيده إياه
وفي المناسبة الثانية يشير صاحب الكتاب إلى رأي الأستاذ أحمد أمين بقوله من صفحة 86: (لا ينبغي أن نستبعد - كما استبعد الأستاذ أحمد أمين - أن توجد مؤلفات مسجوعة في القرن الثالث؛ فان عصرنا الحاضر ينكر السجع على المؤلفين أشد الإنكار ويراه ضرباً من التكلف الممقوت، ومع هذا وجدت في عصرنا مؤلفات مسجوعة، مثل: (صهاريج اللؤلؤ) و (حديث عيسى بن هشام) وأبواب من (ليالي سطيح). وقد وقع صاحب هذا الكلام في نفس الخطأ الذي وقع فيه آنفاً، إذ جعل القرن الثالث هو وعصر الجاحظ سواء، ونسب بذلك إلى أحمد أمين قولاً لم يقله في النص الذي رواه له، وإن كان أكبر الظن أن القرن الثالث لم يشهد بالفعل كتاباً مسجوعاً كله، إن لم يكن هناك على عكس ذلك إلا أدلة صاحب الكتاب. ألا ترى أنه لا يفرق بين عصرنا هذا الذي يستنكر فيه التزام السجع والعصر الذي عاش فيه البكري والمويلحي؟ أفكان السجع يستنكر التزامه قبل نصف قرن حين كتب ذانك ابان، كما يستنكر ذلك الآن حتى يجعل صاحب النثر الفني السطرين واحداً، ويستدل بوجود الكتابين على وجود الضدين في هذا العصر؟ أم كان التزام السجع مستحسناً كل الاستحسان حين كتب ذانك الكتابان فلا يكون لصاحب النثر الفني فيهما إذن دليل أو برهان؟
ويقول صاحب الكتاب في مناسبة ثالثة في صفحة 96: (والقرن الثالث يسميه صديقنا الأستاذ أحمد أمين (عصر الجاحظ) وينفي عنه السجع، مع أن الجاحظ يسجع ولا يخرج من السجع إلا إلى الازدواج). أقرأت هذا ووعيته، وأدركت الفرق بين ما ينسبه صاحب النثر الفني إلى صاحب ضحى الإسلام هنا، وبين النص الذي يرويه له هناك؟ صديقه الأستاذ أحمد أمين يسمي القرن الثالث عصر الجاحظ، وصديقه الأستاذ أحمد أمين ينفي عن القرن الثالث السجع! وهكذا يصح في فهم صاحب الكتاب أن يمتد عصر الجاحظ إلى سنة 300هـ، لأن الجاحظ مات سنة 255هـ.، وأن ينفي مؤرخ السجع عن القرن الثالث لأنه نفى وجود كتاب كله سجع في ذلك القرن، أو في النصف الأول من ذلك القرن!
فقد رأيت الآن ثلاثة أوجه لفهم دكتورنا البحاثة لنص واحد لمؤلف معاصر، ورأيت كيف يحوره ويدوره حتى صيره إلى ما رأيت وما ترى. والأمر إليك الآن في تسمية هذا النوع من التفكير بحثاً أو تسميته عبثاً، وفي تسمية هذه النوع من التصوير تصريفاً أو تحريفاً، ومن النقل مسخاً أو نسخاً، ثم في تسميته هذا كله عجزاً عن الفهم أو اقتداراً عليه، وصلاحاً في الطريقة أو فساداً؛ فإن الأمر جل عن التلاحي، أو قل كما تشاء أن تقول
محمد أحمد الغمراوي