الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 583/على هامش النقد

مجلة الرسالة/العدد 583/على هامش النقد

بتاريخ: 04 - 09 - 1944


بقية في المعاني والظلال

للأستاذ سيد قطب

قلت في الكلمة الماضية: إن طريقة التصوير والتظليل هي الطريقة التي وردت فيها فرائد الشعر العربي التي تهيأت للشعراء على ممر الأجيال

وقلت: إن طريقة التصوير والتخييل هي قاعدة التعبير في القرآن الكريم، وأنه تفرد بطريقة التصوير - في هذا المستوى - بين الشعر الجاهلي قبله، والشعر الإسلامي بعده

وقلت: إن التعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلاً، يخاطب الحس والوجدان، ويطبع في النفس صورة من صنع الخيال، وأن هذه الطريقة أقرب إلى طبيعة الفنون من الطريقة الأخرى التي تعنى بإبراز المعاني في الأساليب الذهنية التجريدية

فلعله يكون من كمال البحث في هذا الموضوع أن نعرض نماذج أخرى من الشرق والغرب ومن القديم والحديث، غير القرآن الكريم - في مستواه الرفيع - وغير الشعر العربي في الجاهلية والإسلام

جاء في (العهد القديم) - التوراة - كلام عن لسان (الجامعة بن داود) قال:

(باطل الأباطيل. الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟ دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد. والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب، وتدور إلى الشمال. تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار، إلى هناك تذهب راجعة. كل الكلام يقصر، لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل، العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع. ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يصنع، فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال عنه: انظر هذا جديد، فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذِكرٌ للأولين. والآخرون أيضاً الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين يكونون بعدهم.

(أنا الجامعة. كنت ملكاً على إسرائيل في أورشليم. ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السموات. هو عناء رديء جعله الله لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس، فإذا الكل باطل وقبض الريح. الأعوج لا يمكن أن يقوّم، والنقص لا يمكن أن يجبر. أنا ناجيت قلبي قائلاً: هأنا قد عظُمتُ وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على أورشليم، وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة، ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة، ولمعرفة الحماقة والجهل. فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح. لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علماً، يزيد حزناً.

هذا كلام قديم، وترجمته ترجمة رديئة من حيث الأسلوب العربي. ولكن هذا لا يفقده طابعه الفني العالي.

هنا إنسان يغمره السأم والملال، ويطويه اليأس والقنوط ولكنه لا يقول: إنه ملول سأمان، ولا أنه يائس قانط، إنما يرسم لك صور الحياة والأشياء في نفسه، ويدعك ترى نفسه في هذه الصور والأشياء:

الكل باطل. وحركة الحياة مكرورة معادة، لا شيء جديد تتفتح له النفس، ويتطلع له القلب، الأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. والريح كذلك. تذهب دائرة وإلى مداراتها ترجع. والأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. . . فالطبيعة هنا - من خلال هذه النفس - يغشيها السأم والملال والتكرار العقيم.

ثم ماذا؟

ثم هذا هو الإنسان. تقصر كلماته عن التعبير عما في نفسه، والعين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع، فهو عبث كله ما يحاول من الكلام والنظر والسمع، وسائر ما تهم به الجوارح والوجدانات. على أنه ليس هناك جديد تحت الشمس، كل ما يكون فقد كان. ويزيد عبث المحاولة لأي شيء في هذه الدنيا أن ليس ذكر للأولين، وأن ليس ذكر للذين سيكونون، فالكل ينسى ويطوى في تيه النسيان. . .!

الكل باطل، والمحاولة عبث، فالأعوج لا يقوَّم، والنقص لا يُجبر. والحكمة عبث كذلك، فهي مصدر الغم، والذي يزيد علماً، يزيد حزناً

لا شيء إذن يستحق النظر. لا شيء يستحق المحاولة. وما على المرء إلا أن ينتظر في سأم وملل وضيق، حتى تنتهي هذه الأيام المكتوبة عليه، ثم يجرفه التيار فيمضي كأن لم يكن، ويطوى في زوايا الإهمال كالآخرين!

هنا صورة نفس، تلقي ظلها على الحياة والأشياء، فتطبعها بطابعها؛ يراها الرائي فتؤثر في حسه، وتنطبع في نفسه، لأنها نفس إنسان، لا تركيبة ذهن. وهنا تشترك طريقة الإحساس مع طريقة التعبير، في التصوير والتظليل، وفي إبراز نفس إنسانية من وراء الألفاظ، ومن بين السطور، على الطريقة التي فصلناها في كلمات سابقات

في ظل هذه الصورة نقرأ قطعة لتوماس هاردي الشاعر الإنكليزي الحديث: (ترجمة الأستاذ العقاد في ساعات بين الكتب)

(إذ طلع الفجر، ونظرت إلى الطبيعة المصبحة، جدولاً وحقلاً وقطيعاً وشجراً موحشاً، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص إليَّ. وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه، فبردت حرارتها، ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس بسؤال كان مسموعاً، ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاء: عجباً! عجباً لا انقضاء له أبد الزمان. ما بالنا نحن نقوم في هذا المكان؟ أتراها حماقة جليلة قادرة على التكوين ولكنها غير قادرة على القصد والترسيم. خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافاً لما تجيء به الصروف؟ أم تراها آلة لا تفقه ما نحن فيه من الألم والشعور؟ أم ترانا بقية من حياة إلهية قديمة تموت، فقد ذهب منها البصر والضمير؟ أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول، ونحن في جيشها (فرقة الفداء) والغلبة المقدورة للخير على الشر مقصدها الأخير؟

(كذلك يسألني من حولي ولست أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام والآلام كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى جانب أفراح الحياة)

ونحن نكتفي هنا بتعليق الأستاذ العقاد على هذه القطعة، ففيه أقصى ما نبلغ أن نقول:

(إننا نضرب المثل الأعلى للبلاغة الشعرية بهذه القطعة التي تلوح له (يعني القارئ الذي تهمه المعاني لا الصور النفسية) هزيلة ضامرة لا تساوي بيتاً من ابن نباتة، ولا شطرة من صفي الدين! لأننا نعلم أن الشاعر أراد أن يمثل بها (حالة نفسية) تحيك بنفسه، فمثلّها لنا أحسن تمثيل. أراد أن يصور لنا ملالة النفس العارفة بأسرار الحياة ونواميس الوجود، فصورها في سكون لا ادعاء فيه، وإيجاز لا خلل فيه، وبساطة يخطها الجاهل فيحسبها من غثاثة الفضول. فهو رجل نظر في عبث العواطف وعبث الحوادث وعبث النواميس، فتولاه الضجر، ونفرت نفسه، ثم ثابت إلى السكينة والتسليم - فيم يحزن الحزين، ويفرح الفرحان، وفيم ينخدع الناس لهذه الآمال الكاذبة، ثم لا يزالون ينخدعون بها، وهم يعلمون أنهم مخدوعون؟ في لا شيء!. . . الخ)

وهذا نموذج من التصوير والتظليل، الذي تتراءى من خلاله (حالة نفسية) تشترك في رسمها طريقة الإحساس، وطريقة التعبير

ونرجع إلى (العهد القديم) فنختار مقطوعة من (نشيد الإنشاد) المشهور:

تقول (شولميت) بطلة هذا النشيد:

(كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي، أدخلني إلى بيت الخمر وعَلَمَهُ فوقي محبة. اسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة حباً. شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني. أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول: ألا توقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء

(صوت حبيبي. هو ذا آت طافراً على الجبال، قافزاً على التلال. حبيبي هو شبيه بالظبي أو بغفر الأيائل. هو ذا واقف وراء حائطنا، يتطلع من الكوى، يوصوص من الشبابيك. أجاب حبيبي وقال لي قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي. لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرَّ وزال. الزهور ظهرت في الأرض. بلغ أوان القضب. وصوتُ اليمامةُ سُمع في أرضنا. التينة أخرجت فجها، وقُعال الكروم رائحتها. قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل، أريني وجهك، أسمعيني صوتك. لأن صوتك لطيف ووجهك جميل

(خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة للكروم، لأن كرومنا قد أقعلت

(حبيبي لي، وأنا له. الراعي بين السوسن إلى أن يفيح النهار، وتنهزم الظلال، أرجع وأشبِهْ يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة

ويقول حبيبها الراعي في مقطوعة أخرى من النشيد:

(ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات. قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد. قلت: إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها، وتكون ثدياك كعناقيد الكرم، ورائحة أنفك كالتفاح، وحنكك كأجود الخمر، السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين! (أنا لحبيبي وإليَّ اشتياقه. تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل. ولنبت في القرى. لِنبكرن إلى الكروم، لننظر: هل أزهر الكرم؟ هل تفتح العقال؟ هل نوَّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي. اللقاح يفوح رائحة، وعند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي)

فهنا صورة للحب الفطري، كأنما هو قطعة من حب الطبيعة، يتفتح حين تتفتح، ويفوح حين تفوح، الحبيب فتى يقفز من فوق التلال المشعبة كالأيّل، والحبيبة كالنخلة وثدياها كالعناقيد. وهما يبرزان للطبيعة ويتواريان فيها كأنهما من كرومها الفائحة المتفتحة، أو ظبائها وأيائلها الطافرة. أو يمامها في محاجيء الصخر وستر المعاقل. ثم:

(لننظر هل أزهر الكرم؟ هل تفتح العقال؟ هل نوَّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي؟ اللقاح يفوح رائحة. وعند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبتي)

وهذا منتهى الإحساس بحيوية الطبيعة، والاستجابة، كما تستجيب الطبيعة، وفي إبانها المناسب وأوانها المعلوم. وكل هذا من خلال الصورة والظلال التي يرسمها التعبير للطبيعة وللنفس الإنسانية على السواء. وهي أعلى في آفاق الفن من كل دعاء بالغزل على طريقة المعاني الذهنية التي تكاد تكون الوسيلة الوحيدة للتعبير في شعر العذريين وغير العذريين، فيما عدا الفلتات التي لا تكون القاعدة، وإنما تكون الاستثناء القليل

وفي ظل هذه المقطوعات القديمة نتملى قطعة الشاعرة الإنجليزية المعاصرة المرموز لها (لورانس هوب) التي نقلناها في مقالة سابقة تحت عنوان (في غير هذه الليلة) وقد جاء فيها:

لا. حين تشتهي استجابة الحب الكبرى

أقبل علي والصباح يرتع في الأنوار

والبلابل من حولنا مشوقة تصدح بالغناء

بين الورود من حمر وبيض

وبقيتها في (عرائس وشياطين) وفي عدد الرسالة (579) وقد قلنا في التعليق عليها هناك:

هذه شاعرة وامرأة، يبدو في مقطوعاتها طريقة إحساسها بفرح الطبيعة وحزنها، وتتبين الوشائج الحية بينها وبين هذه الأم الكبيرة

عنينا باستعراض قطعة هاردي في ظل قطعة (الجامعة) وقطعة (لورنس هوب)، في ظل قطعة (شولميت) لغرض خاص، هو بيان مدى تأثر الشعر الأوربي وانتفاعه بكتابهم المقدس، وهو تأثر واضح في هذه القطع جميعاً. في طريقة الإحساس وفي طريقة التعبير على السواء.

ونحن نجد القرآن بين أيدينا، وهو يتبع في التعبير طريقة التصوير الحي، الذي يزيد مساحة المعنى النفسية، ويحيله صورة حية، حتى في الأغراض الدينية البحتة

بين أيدينا هذا الكتاب المقدس يتحدث بأبرع طريقة فنية في الأداء، فلا ننتفع بها، ونرجع إلى اقتباس طرق تعبيرنا إلى الشعر العربي ولا سيما في العصر العباسي، حينما تأثر الشعر بالفلسفة والمنطق، وبرزت فيه المعاني الذهنية بروزاً واضحاً؛ ولولا أصالة الطبع في بضعة شعراء في هذا الوقت، لقضت الطريقة الذهنية في الأداء على الطابع الفني تمام القضاء

إنني أدعو إلى تملي طريقة القرآن في التصوير والتظليل فهي أعلى طريقة فنية للأداء. وإذا كانت وجهة القرآن الدينية، قد جعلت هذه الطريقة خاصة بأغراض الدعوة الإسلامية. فإن نقلها إلى عالم الأدب خليق بأن يرفع هذا الأدب إلى آفاق رفيعة، لم تصل إليها حتى الآن. فهلموا إلى ذلك النبع الأصيل. نبع القرآن.

سيد قطب