مجلة الرسالة/العدد 582/نقد رامي
→ العمالية الفكرية | مجلة الرسالة - العدد 582 نقد رامي [[مؤلف:|]] |
هاهو ذا الإنسان ← |
بتاريخ: 28 - 08 - 1944 |
6 - نقد رامي
للأستاذ دريني خشبة
لا نحسب أننا فرغنا من محاسن رامي حتى نخلص إلى معايبه. . . إن كانت له معايب تزري بنبله الجم، وشاعريته الرقيقة، وروحه الذي ظل للعالم العربي كله برداً وسلاماً وروحاً ونشوة أكثر من عشرين عاماً مباركاً يسكب في آذاننا شدو قلبه النابض، وغناء وجدانه الفياض، وأنات نفسه الجريحة الدامية
1 - وأول ما يلفت النظر في حياة رامي وإنتاجه الأدبي هو انصرافه العجيب المفاجئ عن قرض الشعر، واقتصاره على توشية أغانيه المصرية الساحرة، وذلك منذ أن دخلت في حياته الآنسة أم كلثوم!. . . لماذا؟ لماذا يا ترى رضى الشاعر الإنساني أن يكون بلبلاً فحسب؟! حقيقة إنه نظم ثلاثين أو أربعين أو خمسين مقطوعة. . . ولا نقول قصيدة. . . لكنها جميعاً من ذلك النوع الذي ذكرنا آنفاً أنه يصح تسميته (خطابات منظومة) كان الشاعر يضمنها بعض بثه إلى المخلوق السعيد الذي أعاد الحياة إلى قلبه، والإيمان إلى روحه، وإن تكن حياة كلها شكوى وشك وغيرة، وإن يكن إيماناً قلقاً مزعزعاً ينضح بالدموع والآلام
لقد ذكر رامي لصديقي الشاعر الذي سفر بيني وبينه تمهيداً لكتابة هذه الفصول أن لديه مجموعة كبيرة من الشعر الذي نظمه في خلال هذه الحقبة الطويلة من عمره ولم ينشره؛ وقد حاولت أن أطلع على هذه المجموعة ولكني لم أشهدها لأن السفر أعجلني عن ذلك. . . ومهما يكن من أمر هذه المجموعة، فرامي مقصر ولا شك، وثروة الشعر العربي لن تفتأ تطالبه بعشرة أجزاء من ديوانيه الخالد الذي كان يصدره بمعدل جزء عن كل عامين؛ ونحن لا نشك في أن إنتاجه الشعري قد أصبح قلة في جانب إنتاجه الغنائي، وإن يكن قد أودع أغانيه كل ما كان يودع شعره من قطع قلبه وروحه ودموعه. . . ويسرنا أن نسجل أن شعر رامي القليل الذي نظمه في الشطر الأخير من عمره المبارك (الطويل إن شاء الله) أحسن ديباجة وأرق نسجاً، وأحفل بالموسيقى الداخلية من جميع شعره القديم الذي شملته دواوينه الثلاثة؛ ونحن نعنى بالموسيقى الداخلية ذلك التوافق الصوتي الجميل الخلاب، الذي اكتسبه رامي بلا شك من طوال اختلاطه بالموسيقيين والملحنين والمطربين. . .
ولعل القطعة التالية التي شدا بها فؤاده من أجل ولده، والتي تذكرنا في رامي بشاعر الإنسانية، هي خير ما نقدمه دليلاً على استنتاجنا:
يا بُنيْ! ما أُحَيْلي يا بُنيْ ... أنت ظل مده الله عليّ
نعمة العمر وتذكار الصبى ... والأمانيَّ التي عزَّتْ لديّ
لست أنساك جنيناً خافياً ... في ضمير الغيب أدعوك إليّ
أتمناك لعيني قرة ... حين ألقاك وليداً في يديّ
أرقب اليوم الذي تبسم لي ... وترى آي الرضى في مقلتيّ
فأناجيك بألحان الهوى ... سابقات خاطري في شفتي
كلمات هي لا معنى لها ... غير أن تسمع مني أي شيِّء
فتراعيني ولا تقوى على ... غض أجفانك عني يا بُنيَّ!
وتشبه هذه القطعة في موسيقاها الداخلية قطعة (القمرية) المنشورة بعدها في مجموعة مكتبة النهضة (1942)
إن رامي يستطيع فيما نعتقد أن يعدل في إنتاجه بين أغانيه المصرية وبين شعره هذا الجميل الرائع العذب. . . ولولا أنني أوثر ألا أنزلق إلى الخوض في قضية العربية والعامية الآن، لأشرت على رامي بإيداع معانيه (البكر)، التي لفتت نظر حافظ من قبل، والتي ضمنها أغانيه المصرية، حينما طغت هذه الأغاني على أشعار رامي،. . . لأشرت عليه بإيداعها بعض قصائده، ليكسب بها الشعر العربي ثروة ثمينة خالدة. . . ولكن. . . هل هذا مستطاع
2 - ولن نعرف الرحمة ولا (الذوق!) ونحن نأخذ على رامي جنايته على الغناء المصري، أو الغناء العربي الحديث، بتركه تلك الفرصة الذهبية النادرة التي أتاحها الله له ليجدد لنا غناءنا تجديداً كاملاً شاملاً، ولتوسيع آفاق أغانينا بإدخال الأوبرا والأوبريت، اللتين لا بد أنه يعرفهما معرفة جيدة، ويزن الفائدة الجليلة البعيدة الأثر التي كانت تعود على الموسيقا العربية ـ أقصد المصرية - والغناء المصري، لو أنه استغل هذا (التخت) العظيم الذي عاش أكثر من عشرين عاماً (يجتر) أغانيه ويرددها ويسندها ويبدأ ويعيد فيها. . . لقد أساء رامي استغلال هذا (التخت) العظيم، كما أساء استغلال دخول الآنسة أم كلثوم - في حياته، فلم يوجه فيها أغانينا التوجيه الصالح الواسع الأفق، الذي يخرج بتلك الأغاني من (دنيا التخت) إلى دنيا المسرح، وإلى دنيا الأوركسترا الراقصة الطروب اللعوب. . . وقد يُعترض على هذا بأنه ليس من عمل الشاعر الذي ينظم لحساب غيره. . . ونحن نرد على ذلك بأنه كلام لا يصح أن يعتذر به لرامي المثقف الذي يعرف من فنون الثقافة الشعرية الأوربية أزهى ألوانها وأبدع ضروبها، ويعرف أن الأغنية التي ترسلها أم كلثوم على التخت، غير تلك الأغنية ذاتها إذا أرسلتها وهي تؤدي دورها في مأساة أو ملهاة أو درامة أخلاقية، لأن الأغنية حينئذ يكون لها جمالها الخارجي الذي يضيفه عليها الموضوع، لا جمالها الداخلي الذي تكسبه من ذاتها فحسب. . . ورب معترض يقول إن رامي قد صنع هذا الذي نطالبه به في أغنياته الكثيرة التي نظمها للأشرطة السينمائية الإثني عشر التي طلب إليه نظم أغانيها كلها أو بعضها. . . وأنه مؤلف (وداد ودنانير). . . ونحن نوافق على أن هذا صحيح وجميل، إلا أنه شيء آخر غير الذي نطالب به رامياً. . . إننا محرومون إلى اليوم من الرواية التمثيلية الغنائية الكاملة أو التي يصل أغانيها وكثيراً من حوارها النثر الخفيف، وهذه الرواية التمثيلية الغنائية شيء عظيم بارع في آداب أوربا وموسيقاها وهو غير موجود إطلاقاً في أدبنا أو في موسيقانا. . . فمن من شعرائنا جميعاً - غير رامي - هيأ الله له تلك الفرصة الذهبية النادرة من حيث اتصاله بالموسيقيين والملحنين والمطربين ثم أساء استغلالها كما أساء استغلالها رامي، فلم ينتفع بها في إحداث تلك الثورة التي سوف تظل أغانينا ناقصة معيبة شوهاء ما لم يجرفها تيارها، وما لم تحترق في نارها فتخرج زكية سنية ذات روح وذات لألاء وذات جوهر نقي مُصفى
3 - ولعل غلطة رامي في ذلك - أنه قصر صداقته الفنية على أبطال موسيقي (التخت) - وهم - مع إجلالنا لهم وإعجابنا بهم والإشادة بذكرهم في غير مناسبة، قوم أميون في ثقافتهم الفنية، فهم لا يفهمون ما الأوبرا وما الأوبريت، ومن الخبال أن نطالبهم في ذلك الميدان بشيء هو ضد طبائعهم، وعكس سلائقهم الفنية، التي لا تزيد كثيراً على تكرير الغناء وتسنيده أو التمهيد له - ولذلك فنحن نستحثهم أن ينتفعوا بفرصة معهد الموسيقى والغناء المسرحي، فلا يدعوها تفلت منهم، لأن في إفلاتها القضاء عليهم. . . وهذا موضوع آخر له حينه ومقامه إن شاء الله نريد أن نعيب على رامي عدم انتفاعه بأحد ممن ثقفوا الموسيقى الغربية ومرنوا فيها، بل برزوا في التأليف بها. . . والمؤلم أنه يعرف الكثيرين منهم، وأن الكثيرين منهم يعرفونه. والرجل الذي تضعه المقادير في المكان الذي يهيئ له القيام بثورة إصلاحية ثم ينكص على عقبيه، فلا ينتهز الفرصة التي هيأتها له هذه المقادير هو رجل مقصر بلا ريب، إن لم يكن شيئاً آخر لا نؤثر التعبير به
4 - ويزيد في أسفنا - بهذه المناسبة - إعراض رامي عن التأليف للمسرح في دائرة اختصاص مواهبه الشعرية: ولعل الذين لا يعرفون ماضي رامي المسرحي يسألون: وما بال رامي، وما بال مطالبته بشيء لم يدرسه، أو لم يألفه؟ فعلى هؤلاء أن يعلموا أن رامياً قد خدم الثقافة المسرحية في مصر خدمة طيبة سيذكرها له الذاكرون دائماً؛ فقد أخذ نفسه بترجمة مجموعة كبيرة من أشهر الروايات مثلت جميعاً على المسرح المصري، وخلبت الباب نظارتها بجمال أسلوبها وحسن اختيارها ومرونة ترجمتها حتى تلائم المتوسط العام لجمهور مسرحنا، ومن هذه الروايات هملت ويوليوس قيصر والعاصفة والنسر الصغير، ويهوديت وفي سبيل التاج وجان دارك وشالون كورداي وسميراميس. . . ومجرد ذكر أسماء هذه الروايات يذكرنا بماضيها المسرحي الناجح في المسرح المصري. ولست أدري كيف يبلغ رامي هذه الدرجة من المجد الشعري، وكيف يبذل كل هذا المجهود في دنيا المسرح ولا يفكر مطلقاً في نظم الدرامة المسرحية. . . ماذا نسمي هذا التقصير الذي يحدث هوة سحيقة في مجد رامي؟ وما سبب هذا التقصير يا ترى؟ هل سببه أنه كان يخضع لمقتضيات البيئة الفنية التي كان يعمل لحسابها؟! تلك البيئة التي صرفته - أو أوشكت أن تصرفه - عن قول الشعر، وعن التفكير في نظم الأوبرا أو الأوبريت، لقد حاول رامي مرة أن ينظم الدرامة المسرحية، وكانت محاولته جيدة ناجحة، وذلك حينما نظم (غرام الشعراء) التي نشرها (في الرسالة) (على ما اذكر)، والتي مثلتها إحدى الفرق المصرية ولا تزال محطة الإذاعة الحكومية تعيد إذاعتها بين الفينة والفينة. فماذا وقر في ذهن رامي بعد هذه المحاولة؟
5 - ومما يؤخذ على رامي أنه وقف بتجديده في الأغاني المصرية عند حد الابتعاد بها عن الابتذال القديم، وتوسيع افقها بتضمينها تصوير الطبيعة المصرية والإفاضة في تحليل العواطف الإنسانية مما أشرنا إليه من قبل، ومما شكرناه لرامي الشكر الذي يستحقه؛ وقد كنا نطمع من رامي أن يذهب في التجديد إلى أبعد من هذا الحد، فكان يحاول مثلاً نظم الأغاني القصصية التي ُحرم منها الشعر المصري الحديث ذلك الحرمان المزري المعيب، فعسى أن يتحفنا الشاعر الذي عمر حياتنا بأعذب ألحانه وأرق أغانيه بهذا اللون المفقود في غنائنا المصري. . . القديم والحديث
6 - كان أن رامي موفقاً في معظم أناشيده. . . إلا أنها وا أسفاه جاءت كلها أناشيد غنائية يصعب على الجماعة أداؤها. وليس ذلك لطبيعة تلحينها كما يتبادر إلى الذهن أول الأمر، ولكن لطبيعة تأليفها دخل كبير في ذلك. . . ومن السخف أن نطالب رامي بنشيد قومي. . . ولكن من الواجب أن نطالبه بأناشيد مصرية متنوعة يسجل فيها رامي بأسلوبه الساحر وتصويره الشاعر ونظمه العذب الدقيق: مصر الحديثة الناهضة، مصر الفلاحة العاملة. مصر التي تذهب كل صباح إلى الكتاتيب والمدارس والجامعات. . . مصر المتضامنة التي تأبى أن تتخلف عن قافلة المدنية. . . تلك القافلة التي جد بها المسير
7 - أما لغة رامي، وموسيقى شعره الخارجية. . . أعني أوزانه وبحوره وقوافيه. . . فالنقد الذي يعنى بالناحية الجدية يستحيى أن نقول فيها شيئاً. . . عاش رامي حياة طويلة طيبة، تنبض بالحب في قلب مصر الحديثة، وعاش لمصر والشرق يملأهما شدواً وغناء وتجديداً. . .
دريني خشبة