مجلة الرسالة/العدد 581/الحب عند المتنبي
→ التحامق في العصر العباسي | مجلة الرسالة - العدد 581 الحب عند المتنبي [[مؤلف:|]] |
إلى الرجال والنساء ← |
بتاريخ: 21 - 08 - 1944 |
للأستاذ حسن الأمين
هل أحب المتنبي وهل أحس بلواعج الوجد وتباريح الغرام؟ هل استطاعت امرأة أن تخلب لبه وتفتن قلبه، فيشيد بها ويتغنى بجمالها ومحاسنها؟
إذا أردنا أن نتخذ شعر المتنبي دليلاً على ترجيح السلب أو الإيجاب، وإذا أردنا أن نرجع إلى ديوانه لندلي بالجواب؛ فإننا نستطيع أنه نقول بدون تردد إن المتنبي لم يعرف الحب ولم يعانه، فالذي يقول:
وما العشق إلا غرة وطماعة ... يعرض قلب نفسه فيصاب
وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للزجاج ركاب
إن الذي يقول هذا القول لا يمكن أن يكون من أهل الحب بل هو من الهازئين بالحب وأهله المشنعين عليهم الرامين لهم بالضعف، فالحب عنده غرة وطماعة، وليس من رأيه أن القلب يرمي من حيث لا يحتسب، بل من رأيه أن القلب هو الذي يعرض نفسه لهذه الغرة والطماعة فيصاب، ولو شاء هذا القلب ألا يصاب لما أصيب وهذا قلبه فإنه لم يشأ أن يصاب فلم يصب. ولم يسكت المتنبي عند هذا القول، بل ردده في مواضع شتى فقال:
مما أضر بأهل العشق أنهم ... هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهم دمعاً وأنفسهم ... في إثر كل قبيح وجهه حسن
فالذي يراه المحبون حسناً فتفنى عيونهم به وتذوب نفوسهم ليس إلا الوجوه فقط، وأما النفوس فإنها قبيحة لا خير فيها، ولو أنهم اطلعوا على ما وراء هذا الحسن الخادع لما أضر بهم عشقهم، ولكنهم أحبوا وعشقوا، دون أن يمنعوا في التأمل بحقائق الدنيا، فلم يعرفوا دخائل من أحبوا، ولم يفطنوا إلى ما ينطوي عليه من غدر ومخاتلة وخداع. وهذا الرأي القاتم متأت ولا شك عن نظرة المتنبي للناس عامة ذكوراً وإناثاً، فلا تحسب المرأة أن المتنبي من أعدائها وحدها، فهو ثائر على الكون ناقم على البشر جميعاً، لأنه يرى نفسه مهتضماً مغيظاً لا يبل له أوام ولا يجاب نداء، وهذا الرأي هو صدى لرأيه القائل:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
وبعد أن يعلن المتنبي رأيه بالعشق وأهل العشق يلتفت إلى الغانيات المغريات، فيجبهه بأعنف القول وأمر الكلام ويخاطبهن بقسوة وتهكم صارخاً بهن:
تحملوا حملتكم كل ناجية ... فكل بين على اليوم مؤتمن
فلا التهديد بالرحيل ولا الوعيد بالهجر، استطاع أن يلين قلبه ويميل به إلى الهوى، بل أعلن بأن البين لن يضيره، وأن النأي لن يزعجه. ولماذا يهتم ببعدهن ويشغل نفسه بهن، ولماذا يحزن لفراقهن ويأسى على رحيلهن ما دامت مهجته وحدها هي التي ستتحمل عبء ذلك كله، وما دام لن يجد لهذه المهجة إذا ذابت شوقاً وتلاشت حنيناً - لن يجد عوضاً عنها في الظعائن وثمناً لها في الهوادج!
ما في هوادجكم عن مهجتي عوض ... إن مت شوقاً ولا فيها لها ثمن
وإن الذي يقول:
وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعزة في مفرقي
والذي يقول عن نفسه وعن الناس:
ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
إن الذي يقول هذا القول لا يكون غريباً عليه أن يرى مهجته أسمى من أن يذيبها شوق لمخلوق، ونفسه أعظم من أن يقتلها حب لإنسان
وإذا كنا قلنا آنفاً إن المتنبي ناقم على الناس جميعاً وإن ثورته ليست على المرأة وحدها، فهذا لا يعني أن ليس له فيها نظرة خاصة. فقوله:
إذا عذرت حسناء وفت بعدها ... فمن عهدها أن لا يدوم لها عهد
وقوله:
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في مواطنه ظلام
إن هذا القول صراحة في تخصيصه إياها بالشطر الوافي من حملاته على بني الإنسان وصراحة رأيه السيئ بها، بل إن هذا القول يضعه في صف خصومها الألداء وأعدائها الأشداء، على أنه ربما كان أحسن وصفها كل الإحسان وأنصفها كل الإنصاف حين قال:
وإن عشقت كانت أشد صبابة ... وإن فركت فأذهب فما في فركها قصد وإن حقدت لم يبق في قلبها رضاً ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
ولكن المتنبي صاحب هذه الآراء القاسية في المرأة والغرام لم يستطع أن يجرد شعره من الغزل فقد افتتح كثيراً من قصائده بالغزل وتحدث عن الحب والنساء، وتظاهر بالهوى وشكوى النوى، وشارك العاشقين في بث الوجد وذكر الوصل والصد، حتى أنه أغرق في ذلك أحياناً إغراقاً حاول فيه أن يتسمى بالعاشق كل العاشق:
وما أنا إلا عاشق كل عاشق ... أعق خليليه الصفيين لائمه
وأن يجعل عشقه فوق كل عشق:
وطرف إن سقى العشاق كأساً ... بها نقص سقانيها دهاقا
وأن يكون شاعراً غزلاً:
أحيا وأيسر ما عانيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا
فهو يتحدث عن حب قاتل يعجب معه كيف يبقى حياً، ويتحدث عن بين جار عليه فلم ينصف ضعفه. ولا يقتصر على هذا الحديث الإجمالي عن الحب بل يعود فيخاطب حبيبة بعينها فيتضرع لها تضرع الولهان:
بما بجفنيك من سحر صلى دنفاً ... يهوى الحياة وأما إن صددت فلا
ثم يسهب بوصف عواطفه الغامضة في عدة أبيات يصل بعدها إلى ما أراده من مدح أحد الناس وينتهي الأمر. وهكذا يبدو غزله بوجه عام، فهو إما أن يرتفع قليلاً عن هذا المستوى أو ينحط عنه قليلاً أو كثيراً، ومهما ارتفع أو انحط فهو غزل لا طائل تحته، ولا عاطفة تذكيه ولا شعور يوريه ويسف أحياناً كل الإسفاف فيقول:
أوه بديل من قولتي واها ... لمن تأت والبديل ذكراها
أوه لمن لا أرى محاسنها ... واصل واهاً وأوه مرآها
والمتنبي نفسه يعلن رأيه في هذا الغزل الفاشي في بعض قصائده ولا يحجم عن أن يقول إنه سير على سنن غيره من الشعراء، وأن طريقة الشعر قد اقتضت هذا، وأن افتتاح القصائد بالغزل ليس دليلاً على الحب والغرام:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعراً متيم
وكأن المتنبي صاحب الدعوة ضد الحب والمرأة قد خشي أن يؤخذ عليه غزله وأن يعتبر تناقضاً مع آرائه الصريحة فاعتذر عن هذا الغزل وأعلن حقيقته، وأنه ليس في الواقع الغزل الذي عرفه الناس ونظمه الشعراء، بل هو غزل رمزي يخفي تحته شعوراً غير شعور الغرام، وحباً لغير المرأة، وشغفاً بغير ثناياها الغر وأحداقها النجل، فبعد أن افتتح قصيدة بالغزل المألوف عاد يقول:
محب كني بالبيض عن مرهفاته ... وبالحسن في أجسامهن عن الصقل
وبالسمر عن سمر القنا غير أنني ... خباها أحبائي وأطرافها أسلى
عدمت فؤاداً لم تبت فيه فضلة ... لغير الثنايا الغر والحدق النجل
فما حرمت حسناء بالهجر غبطة ... ولا بلغتها من شكي الهجر بالوصل
وهو في بيته الثالث عنيف متشدد وفي بيته الأخير مستهزئ بلذائذ الوصال مستهتر بالهجر لا يرى أن غضب الحسناء وهجرها يمكن أن يحرم المرء أية غبطة ولا أن وصلها يمكن أن يجلب أية سعادة وهذه أقسى مظهر من مظاهر آرائه الصلبة. على أننا لا نستطيع أن نجرد جميع غزله من العاطفة والشعور فلا شك أن في القليل من بعضه عاطفة جياشة وحساً نابضاً ولكن ليس الحب وليست المرأة هي مصدر ذلك، بل هي ذكريات أيام سوالف وأشواق إلى منازلة نائية وأهل بعيدين كأن يقول:
ما لاح برق أو ترنم طائر ... إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
أو يقول:
وكيف التذاذي بالأصائل والضحى ... إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا
فيا شوق ما أبقى ويالي من النوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى
أو يقول:
ليالي بعد الظاعنين شكول ... طوال وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه سبيل
وما عشت من بعد الأحبة سلوة ... ولكنني للنائبات حمول
إذا كان شم الروح أدنى إليكم ... فلا برحتني روضة وقبول
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الحبيب نزول
وما أدرانا أن لا يكون وهو يرسل هذا الشعر وأمثاله إنما يذكر تلك العجوز الذي رأينا إشفاقه عليها وشغفه بها في رثائه لها، وأنه يذكر أيام صباه الماضية في بلده بين أهله وقومه:
أما الأحبة فالبيداء دونهم ... فليت دونك بيد دونها بيد
ولا بد لنا ونحن في الحديث عن غزله من أن نلم بالأبيات الجميلة التي تغزل فيها بالأعرابيات وعرض بالحضريات:
ما أوجه الحضر المستحسنات بها ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة ... وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدي ظباء فلان ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركت لون مشيبي غير مخضوب
ولا شك أن هذا الغزل البدوي، والتظاهر بالشغف بالأعرابيات إنما هو أثر من آثار النقمة على المرأة فقد اتخذ من بساطة البدويات وسيلة للحملة على غادات المدن وانشغالهن بالزينة والتطرية والتجميل فتهكم على أصباغهن ومساحيقهن، وهزأ بمضغهن الكلام وشبههن بالمعزى، وعاب عليهن تمويه الحقائق وجردهن من كل محمدة وحسن، ومع ذلك ومع أنه اتخذ الأعرابيات ترساً بتواري وراءه في الهجوم على الحضريات فإن سجيته أبت إلا أن تتغلب عليه فلم يستطع أن يترك ثناءه على نساء البدو خالصاً لا شائبة فيه، بل عاوده داؤه المزمن في الغضب على الجنس البشري والنقمة على بني الإنسان فغمز من البادية وأهل البادية غمزة قاسية:
فؤاد كل محب في بيوتهم ... ومال كل أخيذ المال محروب
حسن الأمين