مجلة الرسالة/العدد 581/أحمد رامي
→ مسائل في وحدة الوجود | مجلة الرسالة - العدد 581 أحمد رامي [[مؤلف:|]] |
على هامش النقد ← |
بتاريخ: 21 - 08 - 1944 |
5 - أحمد رامي
(في أغانيه)
للأستاذ دريني خشبة
منذ أن أخذ رامي في نظم أغانيه للمطربة الآنسة أم كلثوم والثورة على أشدها في عالم الغناء المصري، بل عالم الغناء العربي كله. لقد كانت أغاني رامي حرباً بين القديم والجديد. انتهت بفوز الوجهة الجديدة التي وجه رامي أذواقنا إليها، وإن وجد كثيرون من عشاق المذهب القديم لا يزالون يحنون إليه ويؤثرونه على هذا التجديد الذي لا يروقهم
وأغاني رامي - من حيث اللغة نوعان. . . نوع ألتزم فيه اللغة الفصحى، واختار له الديباجة المشرقة الناعمة السهلة، والألفاظ العذبة الموسيقية التي لا تتضمن لفظة واحدة يصعب فهمها على الشخص العادي. . . ونوع التزم فيه العامية المصرية القاهرية الساحرة التي يفهمها العالم العربي كله، ويستعملها لحسن الحظ
وأغانيه - من حيث الكَيْف. . . أو من حيث الروح - نوعان كذلك: نوع نلمس فيه قلب رامي، ونحس فيه داءه القديم، وحزنه الممض المقيم؛ ومعظمه مما نظم للآنسة أم كلثوم. . . ونوع نلحظ فيه بيان رامي، وفنه، ومقدرته الكبيرة المأثورة على التلوين والتظليل والتخطيط، وإن لم نحس فيه نبضة واحدة من نبضات قلبه المحترق، ولا طرقةً مفردة من طرفات جفنه المؤرق، ومعظمه مما نظم لسائر المطربين غير الآنسة أم كلثوم، وسبب ذلك واضح معلوم، فقد كان صوت أم كلثوم الملهم الأكبر الذي أعاد إلى قلب رامي حياته الأولى:
حسبي من الشعر ومن نظمه ... صوتك يسري في مدى مسمعي
سلوى من الدنيا تعزّى بها ... قلب شديد الخفق في أضلعي
سمعته فأنساب في خاطري ... للشعر عين ثرّة المنبع
وما ذروة المجد التي امتد دَرْبها ... على حرّةٍ حَزن ووعر جبل
سوى روحنة الأشعار وشّع سَرْحها ... أفانين أفكاري وزهر خيالي
وأنت بهذا الروض بلبه الذي ... يرجّع في مغناه عذب مقالي
بعثتِ فنون الشعر فيّ فصغتُها ... وغنيتِها لحن الهوى فحلالي! ونستطيع أن نسمي النوع الأول (أغاني الطبع) والنوع الثاني (أغاني الصنعة) ونقول إن معظم ما نظم رامي لأم كلثوم هو من أغاني الطبع، ولا نقول كله لأنه نظم لها كثيراً من (أغاني الصنعة) التي طلب إليه نظمها من أجل أشرطتها السينمائية، وعلى ذكر الأشرطة السينمائية نلاحظ أن رامياً قد عوض حرارة أغانيه فيها بفنه الرفيع، وبيانه الرائع، ومقدرته على التلوين والتظليل والتخطيط كما قدمنا، ثم باستغراقه، في مناسبات بديعة، في تصوير الطبيعة المصرية الفاتنة الساكنة، والتعبير عنها ذلك التعبير الهيّن الليّن الذي تنعكس فيه أروع لوحات تلك الطبيعة الممتازة المليئة بالمفاتن. وليس معنى هذا أنه قصر تصوير تلك اللوحات على غير أغاني أم كلثوم، ولكن معناه أنه خص الكثرة الغالبة من أغاني غيرها بأروع تلك اللوحات، وإن أودع بعض أغانيها شيئاً ثميناً قميناً بالملاحظة من تلك اللوحات
من منا لم يردد في نفسه ألف مرة (لحن الكروان) الذي نظمه رامي لشريط (دموع الحي)؟ والذي مطلعه:
ياللى بتنادي أليفك ... والفؤاد حيران عليه
ومن منا لم تأخذه مقدرة رامي الفنية في تصوير الليالي المصرية المقمرة التي ينسكب فيها تغريد الكروان العاشق فيزيدها بهاء وروعة؟!
كروان حيران ... سابح في نور القمر
والصوت رنَّان ... ملا الفضا وانحدر
والكون نعسان ... حتى الطيور ع الشجر
. . . . . . . . .
هايم ينادي حبيبه ... من غير ما يعرف فين
وإن كان ح يسمع نحيبه ... تحتار تشوفه العين
وتتجلى في هذا اللحن الخالد مقدرة رامي في الانتقال من تصوير الطبيعة إلى بث الهوى وشكوى الهيام
أو هذا اللحن الذي مطلعه:
ما أحلى الحبيب بين الميّه ... وبين الأغصان والذي يقول فيه:
آدي النسيم يشكي غرامه ... والغصن يسمع منه يميل
والطير يغني وكلامه ... يخلي دمع الزهر يسيل
أسمع لُغَى الطير الشادي لما يغني
اسمع حفيف الغصون ... تبكي بدمع الغمام
لما شجاها النسيم ... باحت بسر الغرام
والموج في حضن الموج نايم ... على شط النيل
إن نبهه الطير العايم ... يشبع تقبيل
كل الوجود حب وشجن ... في السر يشكي والعَلَن
تعالي واسي فؤادي ... أسقيك من كاس حناني
وأسمْعك لحن حبي ... ونطير في جو الأماني!!
فهل رأيت هذا التمهيد الطويل من وصف الطبيعة المصرية لينتهي اللحن بهذا الرجاء الجميل في البيتين الأخيرين
وأسمعك لحن حبي ... ونطير في جو الأماني؟!
ثم ذاك اللحن البديع الذي يصف الشاطئ المصري في جنة المصيف:
يا ما أرق النسيم ... لما يداعب خيالي
خلاني وحدي أهيم ... واسبح في وادي آمالي
الجو رايق وصافي ... والبحر موجه يوافي
طال به الحنين للبر ... والبر عنه بعيد
فِضِل يهيم في البحر ... والشوق ف قلبه يزيد
ولما جا الشط الهادي ... ريّح جنبه
ووشوش الرمل النادي ... وشكى غلبه
والشمس عند الأصيل ... راخيه شعور الذهب
تسبي العيون
والغيم بلونه الجميل ... خلاني وحدي أهيم واسبح ف وادي الأماني
وهكذا نجد أن اللحن كله أغنية عذبة تغمغم بها مصر المفتان على شاطئ البحر الأبيض. وإذا صح أن من كلام الشاعر كلمات تدل على شاعريته، فكل كلمة من كلمات تلك الأغنية طابع قوي تشهد لرامي بالشاعرية الفريدة الفذة. . . وحسبك أن تتخيل ذلك الموج الهائم في البحر، حتى إذا وصل إلى الشاطئ:
ريّح جنبه. . . ووشوش الرمل النادي!
ومن الصور القلية البارعة التي ضمنها رامي إحدى أغانيه لأم كلثوم، صورة الليل المصري المقمر في أغنية (أبات أناجي خيالك). . . كما نسمع الطبيعة المصرية بحقولها وأشجارها وأطيارها وأنهارها تنادينا أعذب النداء وأرقه في أغنيات: يا ما نديت. . . و. . . فاكر. . . و. . . بكرة السفر، وفرحة القلب، وليالي القمر، ووداع،. . . ولكنها صور عارضة لا تستغرق الأغاني كلها، كما نلاحظ في الأغاني التي نظمت لغير أم كلثوم
ومن الصور الجيدة في أغاني رامي تلك التي يبرر لنا فيها القلب الإنساني في شتى انفعالاته الغرامية، وفي مواساته هوله، كأنه صديقه الأول. . . من ذلك تلك الصور الرائعة في أغنيات: يا طول عذابي، وما لك يا قلبي، وإن كنت أسامح، وسكت ليه يا لساني. . . ثم في أغنية، عنيّة فيها الدموع:
عنيّه فيها الدموع ... والجو ساكن وصافْي
والقلب بين الضلوع ... حيران على خل وافي
طاير يهفهف جناحه ... عدم في عشه الأمان
لا حد واسى جراحه ... ولا سقاه الحنان
لو كان مهنّى ... لبات يغّني
لكن حزين ... شدوه أنين
ينوح على الأغصان وحده ... ويشتكي لليل وجده
. . . الخ. . .
وأغاني رامي. . . مثل شعره. . . مليئة بالمعاني البكر التي لا نعرف أن أحداً سبقه إليها، وهو مع ذاك يؤديها في عذوبة ورقة متناهيتين. . . من ذلك قوله في أبدع أغانيه (ميعاد): حرمت عيني الليل م النوم ... لأجل النهار ما يطمنّي
صعب عليّ أنام ... أحسن أشوف في المنام
غير اللي يتمناه قلبي
سهرت أستناه ... واسمع كلامي معاه
وأشوف خياله ... قاعد جنبي
من كتر شوقي ... سبقت عمري!!
وشفت بكره ... والوقت بدري!!
وإيه يفيد الزمن ... من اللي عايش في الخيال. . . الخ
والأغنية كلها - على طولها - معان جديدة مبتكرة، وإن لف الشعراء حولها أحياناً وداروا. . .
وأعجب العجب في أغاني رامي أن بينها وبين ملحنها من فنانين الأماثل وشائج تشبه وشائج القربى الروحية. إنهم جميعاً يفرحون بتلحينها لأن الشاعر الرقيق يفسح لهم فيها، ويلونها لهم تلويناً يغازل عبقريتهم الموسيقية. ويتنقل بهم في كل منها من الضرب العروضي الكامل، إلى المشطور البديع المتألق، ومن بحر إلى بحر، ومن أوزان يخترعها اختراعا
وأعجب من هذا كله ذلك التجاوب التام المنتظم بين روح رامي وشعره، وبين الذين يتغنونه من كبار مطربينا. فلقد يخيل للإنسان أن مؤلف شعر رامي وأغانيه ليس رامي وحده، بل هم أولئك المطربون والمطربات والموسيقيون والملحنون جميعاً. إنه مجد كامل يحار الإنسان في تعيين بانيه، ولكن الذي شك فيه أن رامياً هو واضع حجر الأساس في ذلك البنيان المنيف الذي يتألف منه الغناء المصري الحديث.
دريني خشبة