الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 580/فساد الطريق

مجلة الرسالة/العدد 580/فساد الطريق

بتاريخ: 14 - 08 - 1944

3 - فساد الطريق

في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

سوء فهم

من عجيب عيوب الكتاب سوء فهم صاحبه لنصوص تعرض لها؛ فإن أقل ما ينتظر من أديب متخصص إلا يخطئ معنى نص إن عرض له في بحث؛ فإذا هو أخطأ كما أخطأ صاحب الكتاب كان ذلك دليل نقص في الفهم أو الفكر أو نقص في الإخلاص للحق الذي زعم أنه يبحث عنه. ونحن موردون لهذه الظاهرة في الكتاب أمثلة شتى تختلف في أهميتها وتتفق في دلالتها

وأول ما نذكر من ذلك موقفه من الآية الكريمة: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لأرتاب المبطلون)؛ فقد احتج بها لنفسه على المسيو مرسيه، كما سبق أن أشرنا في بعض ما سبق من الكلمات. المسيو مرسيه ينكر إنكاراً مطلقاً أن يكون في العصر الجاهلي نثر فني أو مؤلفات نثرية، وصاحب الكتاب يزعم أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية. وحجة المسيو مرسيه أنه لو كانت هناك مؤلفات نثرية لدونت وحفظت ونقلت إلينا كلها أو بعضها، كما هو الشأن في آثار الهند والفرس والروم. وحجة زكي مبارك أن فقدان تلك الآثار لا يكفي لإنكار أنها كانت موجودة، وأن القرآن يشير إلى أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية لم يطلع عليها النبي، فيتهم بتلفيق القرآن مما قرأ فيها (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لارتاب المبطلون) كما يستشهد صاحب الكتاب

والآية الكريمة لا تدل على شيء مما ذهب إليه زكي مبارك لأن الحجة فيها تصدق بأمية الرسول صلوات الله عليه مع عدم وجود الكتب، كما تصدق بأمية الرسول مع وجود بعض الكتب. ووجود بعض الكتب يصدق بوجود التوراة التي كان معروفاً أنها موجودة، وحاكم الرسول أهل الكتاب إليها في أكثر من حادثة. فاستشهاد صاحب النثر الفني بالآية على وجود كتب دينية وأدبية لعرب الجاهلية تعسف وتصيد للدليل. فهو قد جرى مع الهوى إن كان قد فهم الآية، وهو لم يفهم الآية إن كان لم يجر مع الهوى. وقد كان واجباً عليه إن كان يبحث للحق لا الهوى أن يقارن هذه الآية بأمثالها من القرآن ليفسر بعضها ببعض، ولينظر هل تنصره الآيات الأخرى فيما ذهب إليه؛ ولو فعل لواجهته آيات عدة كلها تشهد ضده: مثل قوله تعالى (أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون)

وقوله تعالى: (ايتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين)

وقوله تعالى: (أم لكم سلطان مبين. فائتوا بكتابكم إن كنتم صادقين)

وقوله تعالى: (أم لكم كتاب فيه تدرسون)

وقوله تعالى: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير)

فهذه كلها آيات تدل على عكس ما فهم زكي مبارك من الآية التي استشهد بها من سورة العنكبوت وأخطأ فذكر أنها من سورة القصص؛ والآيات التي أوردناها تتدرج في تعميم النفي، نفي ما ذهب إليه زكي مبارك حتى لا تدع الآيتان الأخيرتان منها عند المسترشد بالقرآن شكا في أن الجاهليين لم يكن لديهم كتب تدرس في الدين أو في الأدب. وهذا يتفق مع وصف الله إياهم بالأميين في قوله سبحانه من سورة الجمعة: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته وزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)؛ كما يتفق مع الحديث الصحيح: نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا. فهذه كلها نصوص تشهد على صاحب النثر الفني أنه لم يفهم آية سورة العنكبوت، وتتركه كالسفينة على اليبس ليس له إلى ما يريد من سبيل

هذا مثل من سوء فهم صاحب الكتاب وفساد طريقته، أو من عجزه حين يتطلب منه البحث شيئاً من التحقيق. ومثل آخر هو أعجب من هذا وأقبح، موقفه من آية أخرى، آية سورة هود. فإنه بعد أن أبدأ وأعاد في أن القرآن من جنس كلام العرب وجوهره ومعدنه، لا يمتاز - زعم - بالأسلوب ولكن بقوة المعنى وقوة الروح، أراد أن يفسر لماذا لم يأتوا بشيء من مثله فقال:

(القرآن نفسه فصَل في هذه المسالة حين قال (فائتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). فلتتأمل جيداً عبارة (إن كنتم صادقين) ففيها الجواب كل الجواب. وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعاً أنبياء حتى يصلوا إلى ما وصل إليه مواطنهم وزعيمهم وسيدهم محمد بن عبد الله الذي صدقت كلمتهم فيه قبل نبوته حيث لقبوه بالصادق الأمين؟)

وهذا الكلام من صاحب الكتاب فيه أكثر من عجيبة واحدة فإن قوله: (زعيمهم وسيدهم الخ) خلط بين حال النبي بعد فتح مكة وحاله قبل فتحها، قبل الهجرة؛ فإن الآية التي ذكر من سورة هود، وسورة هود مكية أي نزلت قبل الهجرة. ولم يكن عدد المسلمين قبل الهجرة يزيد على بضع مئات إن كان بلغها، فلم يكن للنبي صلى الله عليه زعامة على أهل مكة بله العرب إذ ذاك ولا سيادة. فصاحب الكتاب إما أن يكون على جهل بالآية متى نزلت، وإما أن يكون أراد اتقاء التهمة عند الناس

وفي قوله: (وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعاً أنبياء حتى يصلوا إلى ما وصل إليه مواطنهم الخ) عجيبة أخرى، لأن فيه إشارة خفية أو ظاهرة إلى أن محمداً وصل إلى القرآن من نفسه بصدقه الذي عرفوه فيه قبل نبوته، ولما لم يكونوا مثله في الصدق لم يستطيعوا أن يأتوا بقرآن كقرآنه، ولو كانوا مثله في الصدق لاستطاعوا. وإذا كان العرب جميعاً لم يكونوا على مثل صدق محمد قبل نبوته، فليس من الممتنع عقلاً أن يكون بعضهم كان على مثل صدقه ذلك. فكلام صاحب الكتاب هذا يترك الباب مفتوحاً لإمكان إتيان بعض العرب بمثل القرآن، من غير أن يفسر لماذا لم يأت ذلك البعض بمثله

ولا يتبين ما وراء هذا الكلام لصاحب الكتاب إلا إذا قورن بقوله من مناظرة له في كلية الآداب: (فيكم من قرأ القرآن وفيكم من قرأ التوراة وفيكم من قرأ الإنجيل. . . وهل فيكم من ينكر أن من أعظم الجوانب في تلك الكتب هي الجوانب الخاصة بالتشريع؟ ولمن توضع قواعد التشريع إذا اطمأن الأنبياء إلى أن المجتمع في أمان من شر الفساد والانحلال) وفي قوله: (إذا اطمأن الأنبياء) الدليل كل الدليل إلى رأي صاحب الكتاب في قواعد التشريع في القرآن والتوراة والإنجيل هل هي من وضع الأنبياء أو من عند الله. ومن هنا يتبين ماذا أراد بقوله: (وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعاً أنبياء) إلى آخر ما قال تفسيراً لعدم استطاعتهم الإتيان بمثل القرآن

على أن همنا الآن ليس هو العودة إلى تبيان رأي صاحب الكتاب في القرآن لمن هو؛ فهذا إنما جاء عرضاً، ولولا ما جاء متعلقاً به في الشاهد الذي أوردناه من كلام صاحب الكتاب ما عرجنا عليه. إنما همنا أن ندل على عجيب سوء فهم صاحب الكتاب للآية التي أورد بعضها من سورة هود. وسوء فهمه يتجلى في حَمله (إن كنتم صادقين) في الآية الكريمة على الصدق الخلقي لا على الصدق الإخباري في قول خاص قد قالوه، كما يتجلى في زعمه أن في هذه الكلمات الثلاث، بهذا المعنى وعلى هذا الوجه، الجواب كل الجواب على سؤال السائل: لماذا لم يأت العرب بمثل القرآن وهو من جنس كلامهم، لا يمتاز عنه بأسلوب، ولكن بقوة المعنى والروح. ونعفي الامتياز في الأسلوب يستلزم طبعاً نفي الامتياز بقوة الروح، كما أن إثبات قوة الروح يستلزم إثبات قوة الأسلوب لو كان صاحب الكتاب يعرف مظهر قوة الروح في الكلام. لكنه مشغول عن كل هذا بظنه أن المسألة مسألة صدق معنوي روحي فحسب، فلو صدق العرب مثل صدق محمد لجاءوا بمثل القرآن. وهذا طبعاً يترك الباب مفتوحاً للإنسانية في مستقبل الزمن وحاضره أن تأتي بمثل القرآن إذا وجد فيها من يبلغ من الصدق المبلغ المطلوب!

ولسنا ندري كيف خفي على الرجل أن الصدق على هذا الوجه يفسد النص الذي ذكره من الآية الكريمة، ويدخل عليه من الخلل والتناقض ما لا يخطر ببال، إذ يصير معنى ما اقتضب من الآية هو: فائتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كان خلقكم الصدق في القول والعمل! وواضح أن فعل الشرط هو مدار التعجيز لعدم توفره فيهم، ولو توفر لاستطاعوا أن يأتوا بما طلب منهم أن يأتوا به. فيكون المعنى على فهم صاحب الكتاب أنهم لو كانوا على خلق من الصدق، وطبع من محبة الحق والبصر به، لاستطاعوا أن يفتروا عشر سور من مثل القرآن! وما دام الصدق المشروط قد توفر في محمد إلى حد لم يتوفر فيهم، فمحمد استطاع أن يفتري كل القرآن على فهم صاحب الكتاب. ونعوذ بالله من الخذلان!

طبعاً لم يفصل القرآن في الموضوع هذا الفصل المطابق لفهم زكي مبارك أو الموافق لوحي شيطانه. وإن فهماً يخرج المحكم من القول عن إحكامه هذا الإخراج لهو فهم مختل بالغ الاختلال. وإذا قرأت الآية تامة، لا كما ابتسرها لك زكي مبارك لغرض في نفسه وجدت المعنى نيراً واضحاً لا عوج فيه، والحجة مستقيمة ملزمة لا خلل فيها

إن الآية هي: (أم يقولون افتراه، قل فائتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). والتلميذ المبتدئ إذا قرأ الآية تامة هكذا يدرك حالاً أن (إن كنتم صادقين) معناها إن كنتم صادقين في قولكم إن محمداً افتراه، لا كما زعم هذا الباحث المتخصص من أن معناها إن كنتم مثل محمد مطبوعين على الصدق مفطورين على محبة الحق

والفرق بين المعنيين هو الفرق بين الحق والباطل، وبين النور والظلمات. ألا ترى أن ظاهر الآية الذي لا يمكن أن يخفى حتى على المبتدئين هو أن صدقهم في دعواهم يستلزم قدرتهم على الإتيان بمثل القرآن، فإذا لم يقدروا فهم كاذبون في رميهم النبي بافتراء القرآن على الله؛ في حين أن ما فهمه زكي مبارك الأديب البحاثة مؤداه أن تخلقهم بالصدق يستلزم مقدرتهم على الإتيان بمثل القرآن، فإذا لم يقدروا فهم مفطورون على الكذب. كأن خلق الكذب والعجز عن افتراء القرآن متلازمان، كما أن خلق الصدق والقدرة على افترائه متلازمان كذلك! وقد شهد صاحب الكتاب للنبي بالصدق فطرة وسجية، فقد شهد له إذن بالقدرة على مثل القرآن، أو بالأحرى شهد عليه - حاشاه صلى الله عليه - أنه افترى القرآن على الله كما هو لازم منطق الآية في فهم صاحب الكتاب!

لقد جئنا بالآية مثلاً على النقص البالغ في مقدرة صاحب الكتاب على الفهم، فإذا بالتحليل المنطقي لفهم صاحب الكتاب للآية يؤدي إلى أن صدق محمد يقتضي في رأي صاحب الكتاب أن يكون القرآن لمحمد افتراه على الله. وخسئ صاحب الكتاب وخسر أي الوجهين فضل أو أي النتيجتين اختار

هذا عجب من سوء فهم صاحب الكتاب لآيتين من كلام الله، وسترى عجباً من سوء فهمه لبعض كلام الناس

محمد أحمد الغمراوي