مجلة الرسالة/العدد 580/على هامش ذكرى المعري
→ أحمد رامي | مجلة الرسالة - العدد 580 على هامش ذكرى المعري [[مؤلف:|]] |
حول بعث القديم ← |
بتاريخ: 14 - 08 - 1944 |
(داعي الدعاة) مناظر المعري
للدكتور محمد كامل حسين
- 4 -
لخصت في مقالاتي السابقة شيئاً من حياة المؤيد داعي الدعاة، وتحدثت عن شيء من نشاطه في الحياة السياسية، ولم أشأ أن أدخل في تفصيلات لا تتحملها الصحف السيارة، والآن أتحدث عن أثر المؤيد في الحياة العلمية والأدبية. فقد كان المؤيد عظيم الأثر في معاصريه، واستطاع أن يسحرهم بفصاحته ويبهرهم بقوة حججه فانقاد له خلق كثير، واستطاع كذلك أن يجعل من تلاميذه مدرسة لها طابعه، تتحدث بآرائه وتبشر بتعاليمه، كما وضع عدة كتب لا تزال إلى الآن من أمهات الكتب التي لا يقر بها إلا شيوخ الدعوة الطيبية في الهند واليمن، (أي طائفة البهرة)، وقد سرد عبد الله بن المجدوع في رسائله أسماء الكتب التي وضعها المؤيد في الدين، وهي تبلغ نحو ثلاثة عشر كتاباً. منها كتاب واحد بالفارسية هو كتاب أساس التأويل، وقال إن المؤيد ترجم الكتاب عن العربية عن كتاب (أساس التأويل) لأبي حنيفة النعمان بن حيون المغربي. وقدر لي أن أطلع على هذا الكتاب بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن؛ فإذا هو يبحث في تأويل قصص الأنبياء بعد أن قدم في عدة صفحات قليلة بوجوب تأويل القرآن الكريم تأويلاً باطنياً، ووجوب معرفة الظاهر والباطن
ولعل أكبر أثر تركه المؤيد هو كتاب (المجالس المؤيدية)، وهو مجموعة محاضراته التي ألقاها في مجالس الدعوة، وتجمع كل مذهب الفاطميين. فلم يترك المؤيد شيئاً من مذهبه دون الحديث عنه في هذه المحاضرات التي بلغت الثمانمائة محاضرة، ولا أدري تماماً متى جمعت هذه المحاضرات ومن الذي أطلق عليها هذا الاسم، ولكن الذي لا شك فيه أن الداعي اليمني حاتم بن إبراهيم المتوفى سنة 596 رتب هذه المحاضرات حسب ونشرها باسم (جامع الحقائق) فأدى بذلك خدمة جليلة لمن يبحث في المجالس المؤيدية
قسم حاتم بن إبراهيم المجالس المؤيدية إلى ثمانية عشر باباً، جمع في الباب الأو المؤيد عن التوحيد، وفي الباب الثاني ما اختص بالإبداع والمبدع الأول، وفي الباب الثالث ما ذكر عن النبي ﷺ، وفي الباب الرابع عن النبي (ص) وعلي بن أبي طالب، وافرد الباب الخامس لعلي بن أبي طالب، وجمع في الباب السادس ما قيل في إثبات الإمامة في ولد علي، وأن الإمامة تنتقل من والد إلى مولود لا تنقطع إلى يوم القيامة، وفي الباب السابع حديث عن الأشباح الروحانية وفضلهم، وفي الباب الثامن ما قيل في المادة والتأييد والوحي المتصل بالأنبياء، وحديث عن الأنبياء والأوصياء، وفي البابين التاسع والعاشر وجوب أخذ العهد على المستجيبين للدعوة، ووجوب التأويل وصحته، وفي الباب الحادي عشر نجد رد المؤيد على غلاة الشيعة وعلى القائلين بالتناسخ، وفي الباب الثاني عشر رد المؤيد على الفلاسفة والمعطلة والمنجمين، وفي الباب الثالث عشر رسائل المؤيد إلى أبي المعري، ورد المؤيد على المعتزلة وعلماء أهل السنة واليهود ورده على ابن الراوندي صاحب كتاب الزمردة الذي يحتج فيه على الرسل، ويحاول أن يبرهن على إبطال الرسالة، وفي الباب الرابع عشر تحدث المؤيد عن أضداد الأنبياء والأوصياء منذ عهد آدم، وفي الباب الخامس عشر جمع بعض مناجاة المؤيد وخطبه ومواعظه، وجعل في الباب السادس عشر في ذكر فضل المهدي المنتظر، أو بحسب اصطلاحهم (قائم القيامة) والباب السابع عشر عن المعاد والثواب وذكر أهل العذاب، وختم كتابه بالباب الثامن عشر وهو خاص بأهل العذاب
هذه هي الموضوعات التي تحدث عنها المؤيد في مجالسه، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن المؤيد كان واسع الاطلاع عالماً بمذهبه وبآراء جميع الفرق الإسلامية الأخرى، وبما نقل إلى العربية من مذاهب الفلاسفة الأقدمين. والمؤيد في كثير من مجالسه كان يأخذ آية من القرآن الكريم، أو قولاً مأثوراً عن النبي ﷺ، أو عن أحد أئمة الفاطميين ويشرحه شرحاً يتفق مع ما كان يدعو إليه. فهي مجالس تأويل إن صح أن نسميها بهذا الاسم، وهنا تتجلى لنا شخصية المؤيد، إذ أن داعي الدعاة الأكبر أو الحجة هو صاحب التأويل في عصره، ولهذا نرى شيئاً من الاختلاف بين الدعاة في تأويل بعض الآيات القرآنية الكريمة. فالتأويل شخصي يختلف باختلاف الدعاة وباختلاف العصور، فتأويل النعمان بن حيون يختلف عن تأويل جعفر بن منصور اليمني صاحب كتاب الكشف، وكتاب سرائر النطقاء، وكتاب أسرار النطقاء، وهما يختلفان عن تأويل المؤيد في مجالسه. وهم جميعاً يختلفون عن تأويل دعاة اليمن، وهذا عجيب من قوم يدعون أن التأويل من عند الله سبحانه وتعالى!
كان المؤيد يبدأ مجالسه بمقدمة يحمد فيها الله ويثني بالصلاة على النبي وعلى وصيه، ثم يخاطب السامعين بقوله: (معشر المؤمنين). . . معلوم أن. . . كما كان يختم كل مجلس بالدعاء لسامعيه، ثم يعقبها بحمد الله والصلاة على النبي والوصي والأئمة. وكان إذا أراد التحدث عن نفسه في مجالسه يقول: وقع في أيدي أحد دعاتنا. . . أو (سئل العالم) (قال العالم)، لأنه كان يستر نفسه موهماً جمهور المستمعين أن هذه المجالس إنما هي صادرة عن الإمام نفسه
وهاكم نص المجلس الثاني من المجالس المؤيدية في موضوع الشرع والعقل بعد حذف المقدمة لطولها (معلوم أن المسلمين يشهدون بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام ضرورة من حيث أن القرآن الكريم مشحون بذكرهما وقصصهما. وهم (المسلمون) خصوم أمتيهما اللتين هما اليهود والنصارى، وشهادة الخصم لا يحتاج إلى بينة، وهم ينكرون النبي ﷺ، ولا بينة للمسلمين غير القرآن الذي لا يقبلونه ويقولون ما هو بلغتنا ولا يلزمنا فيه حكم إعجاز، والأخبار التي يأثرونها في إعجاز النبي (ص) هم يردونها ولا يقبلونها. فكيف الحيلة في إثبات نبوته عليهم، من حيث لا يستطيعون ردها!
المناظر من المسلمين إذا ناظرهم قال إن كان موسى الذي دل عليه نبينا (ص) ونطق به القرآن الذي هو كتابه؛ فقد لزمتكم نبوة صاحبنا كما لزمتنا نبوة صاحبكم، وإلا لم نعرف صاحبكم كما لا تعرفون صاحبنا. وعنده أنه دقق بالمناظرة وأحسن وجّود، ولم يعلم أنه قابل كفراً بكفر؛ فكان كما قال الله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وإنما الطريق عليهم أن يسألوا عن برهان سبقهم وأحدهم وأضاع دينهم من حيث العقل فيوافقوا على كون اليهودية والنصرانية عندهم لفظاً بلا معنى وأن معاني ذلك محصورة في دين الإسلام الذي أتى به محمد (ص) فيتعين على من طلب النجاة منهم؛ فلم يمل ميل الهوى الإيمان به وقول آخر: معلوم أن النبي (ص) مبعوث إلى الكافة كما قال الله تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) وأن معجزة القرآن الذي هو كلام عربي يختص بلسان العرب، فإنه يستحيل أن يكلف الرومي والهندي والتركي أن يقبلوا القرآن معجزاً ويؤمنوا به وبمن أتى به، فما حجة نبوة محمد (ص) على هذه الأمم كلها إلا أن يقام عليهم من صورهم وتراكيبهم حجج عقلية هي موجودة في معاني القرآن دون ظاهر لفظة عند الراسخين في العلم يقوم منها برهان نبوة النبي (ص) وإلا فلا برهان.
وقول آخر مختصر شاف: أن العقل صنع الله سبحانه في باطن الإنسان يرى به مبصرات الآخرة ككون العين صنعه في ظاهره يرى بها مبصرات الدنيا، وقد يشرك الحيوان الإنسان في العين، ولا يشركه في العقل؛ فما يقال فيمن أعمي عينه بيده فحجب عنها ضياء العالم ونوره؟ وهل يحكم على من فعل ذلك بعين يشركه الحيوان فيها إلا بضعف الرأي وسوء الاختيار؟ أفلا يحكم على من أعمى العين المطموح بها إلى دار القرار بالشقوة والخسار وحلول جهنم دار البوار نعوذ بالله من ذلك. وجملة ما يقال في قضية قولهم إن الشرع غير موضوع على العقل إن ولي أفاقه من قصر أن يكون بجناح البرهان فيها طائر فرأى أنه إن أثبت لكل شيء برهاناً ودليلاً، واقع خطباً طويلاً، وبدل تصحيح جسم رياسته تعليلاً فأبى أن يسلك في هذا القول مضيقاً، وآثر أن يقتصر على نفسه طريقاً، ونفى أن بين الشرع والعقل صحبة أو قربة وسن بقوله هذا سنة أبقت على دين الإسلام سبة. الخ)
هذا نص المجلس الثاني من المجالس المؤيدية بعد حذف الابتداء والانتهاء وهو يدل على مقدار حذق المؤيد وقوة حجته وتهكمه بخصوم مذهبه. ومن الطريف أني قرأت في الأسبوع الماضي مقالاً للأستاذ الجليل عزيز بك خانجي يتحدث فيه عما سمعه من المرحوم الشيخ محمد عبده في تفسير سورة (والتين والزيتون) وأضيف الآن أن المؤيد داعي الدعاة أشار إلى هذه السورة في ديوانه بقوله:
ففكروا في التين والزيتون ... واستكشفوا عن سره المكنون
ولم أتى من ربنا به القسم ... كما أتى بالنون أيضاً والقلم
أما في المجالس المؤيدية فقد أوَّل هذا القسم بنفس التفسير الذي سمعه الأستاذ خانجي من الشيخ محمد عبده. فقال المؤيد: (وقعت الكناية عن آدم بالتين وعن نوح بالزيتون لأن كل ثمرة يتقدمها ورق ونوار، والتين ينشق عنه أعواد الشجر وكل حي يسبقه حبل وولادة، وآدم استخلصه الله من أديم الأرض من غير حبل وولادة فمن أجل ذلك مثله بالتين، وخلاصة الزيتون هي الزيت المأخوذ عنه كأنه الغرض من الزيتون وكمثل ذلك. فخلاصة نوح إبراهيم المستخلص من ذريته حتى كأن الغرض من نوح إبراهيم فهو مضمر في نفس القسم من الله سبحانه. أما معنى (طور سينين) فالرمز لموسى عليه السلام، وطور سينين هو موضوع مناجاته ومكان فضيلته، وفيه إضمار وهو المسيح (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت الدهن وصبغ للآكلين) فالمسيح هو الشجرة الخارجة من طور سيناء النابت من منبعة ملة موسى فشرفه الله ورفعه. وهذا البلد الأمين كناية عن محمد ﷺ، هناك قبلة الله الناسخة للقبل، بيتها أو بنيان بني على وجه الأرض، كما قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) لآخر ساكن من أولي العزم من الرسل قال الله سبحانه وتعالى: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد)
فتوارد الخواطر بين المؤيد والإمام الشيخ محمد عبده في تفسير هذه السورة أوضح من أن يحتاج إلى شرح فإني أشك في أن الإمام الشيخ محمد عبده قد اطلع على تفسير المؤيد، فسايره في تفسيره الذي ورد في المجالس المؤيدية التي اعتبرها من الكنوز التي تركها علماء المذهب الفاطمي، والتي لا غنى عنها لمن يدرس تاريخ وعقائد الدولة الفاطمية.
(يتبع)
دكتور
محمد كامل حسين
بكلية الآداب بالقاهرة