الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 58/مجهولو الأبطال

مجلة الرسالة/العدد 58/مجهولو الأبطال

مجلة الرسالة - العدد 58
مجهولو الأبطال
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 08 - 1934


ابنا النقيب

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

أرأيت التاريخ اتسع يوماً لذكر الألوف المؤلفة ممن سيروا حوادث الدهر، ودفعوا تيارات الزمان نحو مستقرها؟ قد يذكر التاريخ عظيما أو بعض عظماء، وهؤلاء قد يكونون من قادة الحرب وزعماء أرباب السيف، وقد يكونون من أهل السياسة وأصحاب الدهاء والكياسة، الذين تألفوا الناس وحركوا الأحزاب، وقد يكونون من أهل القلم، لا بل قد يكونون من أصحاب العلم الذي أضاءوا للناس سبلهم في الحياة. ولكن كم يكون هؤلاء الذين يذكرهم التاريخ؟ أيكونون بضع مئات في كل عصر؟ أم لعلهم يبلغون بضعة ألوف؟ وأين يقع هؤلاء من ذلك التيار الأتيَّ الذي تزدحم به الأيام والليالي من الناس؟

قد يزعم زاعم أن الأفذاذ كانوا أبداً قليلي العدد، وأن التاريخ لا يذكر إلا هؤلاء الأفذاذ. وذلك زعم أكِل الحكم فيه لكل من وقعت عينه على هذه الكلمات، فإني لا أخال فيهم الكثيرين ممن بلغت بهم الأنانية إلى تطلع لذكر التاريخ والخلود في صحائفه. فإذا كان أكثرنا لا يطمع في ذكر التاريخ والخلود فيه، أأيأ] أيأينبتيسنبتيمسبتيسننيستبيسبينبتيسنبتيسبسأيكون ذلك مُخَذلاً لنا عن القيام بما يجب علينا؟ إن من الناس من يعطي المسكين أمام أعين الناس. حتى يشتهر بينهم بالأفضال والاحسان، وإن منهم من يرفع رأسه بكلمة الحق، وهو على مسمع من قوم يطمع أن يقولوا عنه إنه حر أبي كريم النفس، وإن منهم من تدفعه الحمية وهو على مرأى من الناس إلى أن يخوض الأخطار في سبيل المكارم، لتكون له بذلك ذكرى بينهم وحسن أحدوثة. وهذا الحق لا بأس على الناس ان يأتوه، فان الخير لا يضره أن يكون من ورائه منفعة لمن يقدمه. غير أن تلك المرتبة في المحل الثاني من المكارم، وأما المحل الأول فقد سبق إليه من يواسي في الخفاء، وهو لا يطمع في شكر من يواسيه، ولا يتطلع إلى إعجاب من حوله من الناس، ومن يصدع بالحق لا يبتغي من وراء ذلك إلا أن يقوم بواجبه أمام نفسه، ومن يصنع الخير للناس لا ليجازوه بالاجلال، ولا ليفوز منهم بالإعجاب. بل لأنه يطيع طبيعته في ذلك وينطل على سجيته. ومن ثم كان الأولى بشكر الإنسانية من يقوم على المكرمات، ويمضي في الخير، وهو في غمار الناس لا يستشرفه أحد من الناس، ولا يشرئب هو بعنقه إليهم. فإذا نحن رضينا بذلك كان انتدابنا إلى أداء الواجب من تلقاء أنفسنا غاية ما يحرص عليه أماثلنا، ولم يكن إعجاب الناس ولا ثناؤهم بما يطمع فيه الكرام أو تطمع فيه الكرام أو تطمح إليه النفوس العالية.

ولقد كان في مصر في مختلف العصور جماعات كثيرة، بلغت من سمو النفس أنها أدت واجبها، ولم تعبأ بأن يتخلف عنها في التاريخ ذكر. ومضى التاريخ بذكرياته وأسمائه، فلم يذكر من هؤلاء إلا النزر اليسير. ونحن اليوم موردون ذكر اثنين من هؤلاء أبى الله إلا أن يحفظ لنا اسميهما لتكون تلك آية دالة على أن فيمن مضى جماعات لا عد لأفرادها أدوا واجبهم، ومضوا في ثنايا ضباب الماضي، ولم يعبأوا بأن يلتفتوا التفاتة واحدة إلى الناس يطلبون منهم شكراً ولا ثناء. وتلك هي مكارم الأخلاق ومروءة الحياة.

كان في مصر جماعة الأمراء المصريين الذين يظلمهم التاريخ بأن يطلق عليهم اسم (المماليك)، وكانوا يسمون أنفسهم الأمراء المصريين. ومهما يكن من محامدهم أو مساوئهم، فقد كانوا معتزين في كل الأحوال بمصريتهم يحبون هذه البلاد كأعظم ما يحب الرجل بلاده.

وكان من هؤلاء الأمراء من استقل بمصر استقلالاً تاماً وأحاط ذلك الاستقلال بسياج من قوة قلبه وحماسة نفسه. ثم عدت على ذلك الاستقلال العوادي فآثر أن يبذل دمه قبل أن يبصر صرحه ينهار، وقضى قتيلاً في دفاعه كما يموت الأسد وهو يدفع عن عرينه. وكان أحد هؤلاء أمير مصر الأشهر على بك بلوط قبن المعروف بعلي الكبير. وقد كان في أيام هذا الأمير كثيرون من الأفاضل الأمجاد، منهم أخوان من نسل هاشمي حسيني: أحدهما اسمه السيد علي بن موسى الحسيني الأزهري المصري، والآخر اسمه بدر الدين الحسيني المصري. ويعرف كل منهما بابن النقيب، لأنهما من سلالة بيت كان منه نقباء في بيت المقدس. وكانا عالمين، نالا من العلم أقصى ما ينال من زمانهما. وبلغا من ذلك مرتبة التدريس، فكان أكبرهما (على) يدرس في المشهد الحسيني التفسير والفقه والحديث، وتبعه أخوه الأصغر بعد موته في إملاء الحديث في المشهد الحسيني نفسه. وكانا مع ذلك كاتبين مبرزين، فكان السيد على يتبع في النثر طريقة طريفة (لا يتكلف السجع، وإذا سئل من مسئلة كتب عليها الجواب أحسن من الروض جاده الغمام).

غير أن هذين الأخوين لم تقنع نفساهما بما بلغتا من مرتبة العلم، إذ رأيا أن دونهما واجبا عاما يجب عليهما أن يضطلعا به، وذلك أنهما رأيا الحياة العامة محتاجة إلى كثير من التقويم والتهذيب، فكان الأخ الأكبر يخرج في دروسه عن التلقين المجرد (إلى الرد العنيف على أرباب الأموال والأكابر وملوك الزمان) حتى انه اضطر للهجرة في سبيل الحق من مصر إلى بلاد السلطنة العثمانية، ثم اضطر مرة أخرى إلى أن يهاجر إلى مصر هارباً من حكومة السلطان لأنه لم يرضها ولم ترضه.

وكان الأمراء يعرفون له إخلاصه، ويقدرون له صراحته في الحق، فان الأمير محمد بك أبا الذهب الذي آل إليه الأمر بعد علي بك الكبير سأله مرة على سبيل المباسطة فقال له: (كيف رأيت أهل اسلامبول؟) فقال له: (لم يبق باسلامبول ولا بمصر خير) فلم يغضب الأمير من شدة رده، بل قضى ديونه وأعانه بما يتصدق به على الفقراء.

وكان السيد على فارساً شهما (لا يخلوا (اصطلبه) من الخيل، ويضمرها ويعتني بأحوالها، ويرغب في شرائها لمعرفته بالفروسية في رمي السهام واستعمال السلاح واللعب بالرماح وغير ذلك) فكان مقصد اللاجئين من الناس، وموئل المظلومين من العامة، ومكان الإجلال من أهل الحكم، يقضون ما يأتي فيه شافعا، ويخشون نقده ويكرمون نصحه. ثم مات السيد علي وتبعه أخوه الأصغر السيد بدر الدين. فسار على منهج أخيه من (التردد إلى الأعيان والأمراء، والسعي في حوائج الناس، والتصدي لأهل جهته وخطته في دعاويهم، وفصل خصوماتهم وضلحهم، والذب عنهم، ومدافعة المعتدي عليهم، ولو من الأمراء والحكام)، وصارت له مكانة كبرى في البلاد وعند الأمراء) يخشون جانبه وصولته) ثم ذهبت أيام هؤلاء الأمراء المصريين وهبطت على مصر كارثة الأجنبي، إذ دخل الفرنسيون مصر، فدمروا وهدموا وغيروا، وأبوا إلا أن تكون مصر على مثل خطتهم ومدنيتهم. فغضب كرام المصريين لذلك، ورأوا في تلك المحاولة قضاء على شخصيتهم وازدراء لمدنيتهم الموروثة التليدة. فانتهزوا الفرصة وثاروا على الفرنسيين، وكان السيد بدر الدين من زعما الثوار. (فجمع جموعه من أهل الحسينية والجهات البرانية، وانتبذ لمحاربة الفرنج ومقاتلهم وبذل جهده في ذلك) غير أن الثورة لم تنجح كما هو معروف، فخرج السيد بدر الدين من مصر منذ رآها غير صالحة لمقامه فيها. وأي مقام للحر الكريم المجاهد في بلاد الضيم وبلاد الله واسعة يستطيع أن يهاجر فيها؟ واتبعه غضب الفرنسيين في داخل البلاد وفي خارجها، وانتقموا منه بهدم ما ترك في مصر من أبنية، وسلب ما خلف فيها من أموال، غير أنه لم يبال شيء من ذلك، ولم يكن مثل بدر الدين ليعبأ بما يصيبه في المال من خسارة، ومازال في خارج مصر يجاهد مع المجاهدين حتى عاد النصر كما أنه لم يضعف في أيام المحنة من الخيبة والخذلان، ولما عاد إلى مصر استأنف السعي في خير المجموع وهو قرير العين بما نال من توفيق، وكان مما يزيد قلبه اطمئناناً وسلاماً أن يذكر ما أصابه من الألم في جهاده.

ولم يكن ابنا النقيب سوى درتين من عقد أبطال سمى التاريخ بعضهم ونسى البعض، ورحم الله من سمى ومن لم يسم. لقد طوى الماضي في بطون الثرى ألوف الألوف من الأجداد، وقد يكون منا من يتهم هؤلاء الجدود ببعض التهم، وجدير بنا أن نفكر مرتين قبل أن نجرؤ على ذلك الاتهام.

لقد كان من الماضين من هم أقوى منا مروءة في حياتهم وجهادهم وسعيهم إلى الخير، منذ كانوا يؤدون أمانتهم غير طامعين في أن يعرف الأحفاد عنهم ما صنعوا. وحري بنا أن نتسامى إلى مثل هذا الكرم فنسعى إلى أداء الأمانة، ونحن في ستر الخفاء لا يطلع علينا إلا الله، ولا ترقبنا بعد الله سوى عين الضمير.

محمد فريد أبو حديد