2 - سيوة
مجلة الرسالة/العدد 58/سيوة باني سيوة إذا تسامحت كثيراً يمكنني أن أقول إن سيوة في مبانيها ومنازلها وصوامعها تعادل في تفصيلها وشكلها أحقر قرية من قرى وادي النيل. فالمنازل في تلك الواحة تبنى بقطع من الملح والطين بغير نظام في البناء أو حفر لوضع الأساس في الأرض، بل إن البنّاء و (أسميه بناء على سبيل المجاز) إذا أراد أن يبنى منزلاً فانه يضع قطعة من الحبل يحدد بها أربع حوائط المنزل، ثم يبني بعد ذلك فوق سطح الأرض بقطع من الملح والطين بارتفاع متراً آخر وينتظر أسبوعاً ثانياً ثم يكمل البناء لسقف المنزل. وفي العادة أن الحجرات في سيوة لا يزيد ارتفاع سقفها على مترين ونصف متر أو ثلاثة أمتار، والحوائط يكون سمكها في نهاية ارتفاعها أقل كثيراً منه وهي قريبة من سطح الأرض، وتتكون الأسقف بعد ذلك من خشب النخيل، وطريقة ذلك أن يشقوا بالطول خشب بعض النخلات المتينة ثم يضعوا أنصاف النخيل فوق الحوائط ويسمونها (قناطر) ثم يضعون فوقها ألواحاً يقطعونها من النخيل أيضاً ثم يغطون هذه الألواح بالطين. ولبعد الواحة وصعوبة المواصلات إليها لا يمكن للسكان أن يحصلوا على أخشاب ليصنعوا منها أبوابًا ونوافذ المنازل، ولذا فنوافذ المنازل الصغيرة، لا يزيد اتساع إحداها على نصف متر مربع، ويصنعون النافذة نفسها من خشب صناديق البنزين التي تحملها سيارات النقل معها، ولذا فالنافذة الصغيرة تعمل من أربعة مصاريع رغم صغير حجمها، وتتكون المنازل عادة من طابقين، وبعض الأغنياء يقيمون أمام منازلهم مظلات يجلسون تحت وقت الحر الشديد، لأنه من الصعب أن يتعرض إنسان لحرارة الشمس في سيوة مدة الصيف، إذ تصل درجة الحرارة فيها إلى 48 سنتجراد، وتمتاز سيوة بدروبها الضيقة وحواريها المتعرجة المتلوية، حتى ارتبك مأمور البلدة كيف يضع أحد مصابيح الإنارة في إحدى الجهات لأنه وجد أن المصباح لن ينير إلا الموضع الذي هو فيه لكثيرة الالتواء والانحناء، ولأن المنازل متنافرة غير منسجمة الوضع. وعدا ذلك فان جزءاً من القرية وهو الجزء الغربي مبني على صخرة ترتفع تدريجياً عن باقي القرية، ولذا تجد منزلين متقاربين يرتفع أحدهما عما يجاوره بما يقرب من ثمانية أمتار. ومن الظواهر الواضحة في سيوة أن الزائر لها يرى وهو في وسط سوق صخرة مرتفعة تشرف على ميدان السوق وقد علتها منازل من الملح والطين ونزعت سقوفها وتهدمت جدرانها، وظهرت بشكل بشع مخيف، وليست تلك المنازل إلا سيوة القديمة هجرها أهلها من فوق الجبل بأمر الحكومة من زمن غير بعيد وأقطعتهم أراضي في سفح الجبل وفي الأرض الواطئة المجاورة له فبنوا منزلهم الحالية. وكان الأهالي يقطنون فوق الجبل في تلك المنازل المتلاصقة، وقد أحاطوا منازلهم بسور مرتفع يضم القرية كلها، وفتحوا في ذلك السور فتحات صغيرة كفتحات الحصون الكبيرة التي تعملها الجيوش لرؤية العدو ولإطلاق النار منها، ووصل ارتفاع هذا السور في بعض الجهات إلى نحو خمسين متراً، وصنعوا في ذلك السور عدة أبواب ضخمة من خشب النخيل كانت تقفل أثناء الليل حينما يأوى سكان الواحة إلى منازلهم. وقد سألت عن الغرض من سكنى السيويين في الماضي في مثل هذا الحصن فوق الجبل، فعلمت أنهم إنما فعلوا ذلك حفظاً لأنفسهم من هجوم أعراب الصحراء الغربية، إذ أنهم كانوا يحضرون بالليل لنهب سيوة وسبلها. وبدأت منازل سيوة القديمة فوق الجبل متجاورة كالمعتاد في كل القرى، ولكن لما زاد عدد سكان الواحة بنوا منازل أخرى فوق المنازل القديمة حتى لا يخرجوا على السور الخارجي الذي هو حصن لهم، ولذا فبدلا من أن تسع رقعة الواحة كلما ازداد سكانها بدأت ترتفع أبنيتها وهي في نفس المساحة الضيقة التي ابتدأت فيها. وهكذا استمر الحال وبمرور الزمن ازدحمت الأبنية فوق بعضها، وضاقت أزقتها وشوارعها وتعرجت منافذها حتى أصبحت أشبه شيء بخلية النحل، بل وصل الأمر ببعض المنازل أن أصبحت وهي داخل السور أكثر ارتفاعا من السور نفسه وأصبحت الشوارع لاتسع رجلين يسيران متجاورين فيها، وأظلمت جميع أنحاء القرية من ارتفاع المنازل وضيق المنافذ التي توصل الضوء إلى فتحاتهم الصغيرة التي كانوا يفتحونها على أنها نوافذ، وأصبح السائر فيها يحتاج في الواقع إلى مصباح يحمله معه أثناء النهار لينير له الطريق. على أن الذي يقف فوق تلك المنازل يرى أمامه الواحة بحقولها الخضراء وحدائقها اليانعة بأشجار الزيتون والليمون، ونخيلها الهادئ الساكن، فيأخذه هذا المنظر الجذاب، ويرجع بذاكرته إلى تلك المواقف البهيجة التي أكثر عمر الخيام من وصفها في رباعياته. وطبيعي أن الحرارة تكون شديدة في منازل القرية، لأن الشمس شديدة التأثير بينما التهوية تكاد تكون معدومة. وفي وسط القرية في مكان متسع قليلاً بين هذه المنازل المرتفعة المظلمة توجد بئر منحوتة في الصخور بها ماء عذب، لأن في أسفل الصخر عين ماء تتغذى تلك البئر، وأيضاً تغذى بئرين صغيرتين مجاورتين للبئر السالفة. عند قاعدة هذا الجبل بنى الأهالي منازلهم الحديثة بعد أن تركوا تلك القرية التي كانت مزدحمة بهم وهم الآن آمنون من الهجوم، بل إن هذه الفكرة لا تتطرق إلى مخيلتهم، فالحكومة مسيطرة على الصحراء بإعرابها وقبائلها جميعاً، وقد فضل كثير من السكان أن يبنوا منازلهم وسط حدائقهم وحقولهم في ناحيتي السبوخا والمنشية، وللأغنياء منهم منازل للشتاء حيث يرجون الدفء وسط القرية، ومنازل للصيف وسط الحدائق المتسعة يقضون فيها فصل الصيف حينما تشتد حرارة الشمس وتصبح غير محتملة، وتمتاز منازل المشايخ والأغنياء بطلاء جزء منها بالجير الأبيض من الخارج، ولذا فانهم يغضبون إذا حاول أحد الفقراء أن يطلي منزله بالجير تشبهاً بهم، بل إن معظم الفقراء لا يفكرون في ذلك تلافياً لغضب مشايخهم عليهم، وبهذه المناسبة فان كل الأضرحة للأتقياء منهم تمتاز بطلائها بالجير إكباراً لشأنها وشأن أصحابها. وهذا الدهان يكون عادة من تبرعات يدفعها السكان تبركاً بصاحب الضريح. توجد بسيوة ثلاثة أسواق كبيرة لبيع البلح والزيتون تسمى بالمساطيح، والمسطاح مكان متسع تكتنفه حائط يبلغ ارتفاعها مترين، وهذه الحوائط تخالف في بنائها حوائط المنازل، إذ أنهم رغبة منهم في توفير العمل صنعوها من جريد النخيل، ثم أحاطوا الجريد من الوجهين بقطع من الملح والطين، فإذا جف الطين تماسك بسعف الجريد وهي في الحقيقة فكرة قديمة للخرسانة المسلحة ورغبة منهم في الإقلال من سمك الحائط، وضعوا الجريد رأسياً وهو يعادل أسياخ الصلب في الخرسانة. وأحد هذه المساطيح للسكان الغربيين من الواحة، والثاني للسكان الشرقيين، والثالث هو أكبرهم وأعمهم لجميع سكان الواحة. ويقطن رجل سوداني أو كفري (نسبة إلى واحة الكفرة) منزلاً صغيراً عند مدخل المسطاح ليحرس بلح الناس وزيتونهم طول العام نظير هبات يعطونها إياه من الشعير والبلح والزيت، ويحضر الأعراب عادة في فصل الخريف من وادي النيل ومن الصحراء ليشتروا البلح من سيوة، ثم ينقلونه على الجمال لوادي النيل حيث يباع في الأسواق بثمن معتدل وحول هذه المساطيح أقام بعض الأعراب الذين يتاجرون بالبلح حظائر لجمالهم ومنازل لهم، وفي فصل الخريف ترى مئات من هؤلاء الأعراب بأرديتهم البيضاء يجوبون أنحاء المساطيح بين أكوام البلح ذات الألوان المختلفة من أحمر إلى أصفر إلى داكن بين الحمرة والسود يساومون أصحابها في أثمانها على حين تنتظر جمالهم خارج المساطيح مجلجلة بأصواتها كأنما تنادي أصحابها في الداخل، وتزيد الحركة ببعض العبيد وهم يحملون البلح المشتري مكبوساً داخل (مقاطف) كبيرة من الخوص ليحملوه على الجمال. وما أجمل منظر الناقة تحمل حملها وتسير وسط السوق تشق طريقها بين الناس كأنها باخرة تشق طريقها في الماء، أضف إلى ذلك صهيل خيول الأعراب ونهيق الحمير ونباح الكلاب، منظر يدل على أن في البلد حركة كبيرة، ولا شك فان البلح والزيتون هما عماد الثروة في واحة سيوة. ويقضي العرف بين الناس بالسماح لكل من يشاء أن يأكل ما شاء من البلح في المساطيح من غير مقابل، غير أنه ممنوع أن يأخذ معه شيئاً خارج المسطاح، ولذا ينتهز الشحاذون من الأعراب فرصة هذا الموسم ويدخلون المساطيح سائلين أصحاب البلح أكلة منه ليفوزوا بالشبع. وبيع (العجوة) شائع في السوق أكثر من غيره، وبعض الناس يبيعونها من غير (نوى)؛ وفي عرض البلح للبيع بهذه الطريقة خطورة كبيرة: فالذباب يملأ المساطيح، والناس يطأون البلح بأقدام قذرة، ويعبئونه بأيد لا يفكر أصحابها في نظافتها. ولو أن العناية تصل إلى تنظيم طريقة البيع لكان في ذلك أمان وطمأنينة لمن يأكلونه. (يتبع) كابتن