مجلة الرسالة/العدد 577/موضوعات الكتب
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 577 موضوعات الكتب [[مؤلف:|]] |
أحمد رامي ← |
بتاريخ: 24 - 07 - 1944 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتبت منذ أسابيع مقالاً بمجلة (آخر ساعة) عنوانه (أريد من هؤلاء) قلت فيه:
(أريد من زعمائنا أن يشغلوا أوقات فراغهم، لأن الذي لا يحسن تدبير الفراغ لا يحسن تدبير الأعمال)
ثم قلت: (وندع رجال السياسة والأعمال، ونلتفت بعض الالتفات إلى طائفة من كبرائنا لها في العصر الحاضر عمل لا يغني عنه عمل الآخرين
(إن العصر الحاضر عصر حرب، وإن مصر قد أصيبت من هذه الحرب ووجب أن تعرف على التحقيق كيف تتعرض لها وكيف يكون الدفاع عنها. وقد ظهر عن معارك العلمين وطرابلس وأفريقية الشمالية ما لا يقل عن خمسين كتاباً في اللغة الإنجليزية ولم يظهر كتاب واحد من رجالنا المختصين بشئون الحرب في هذا الموضوع. وعندنا طائفة غير قليلة العدد من كبار ضباطنا المحالين إلى المعاش، فلماذا لا يكتبون لنا رأيهم في معركة العلمين وفي خطط القتال الذي دار بين أوكفلك ومنتغمري وروميل وجرازياني وسائر القواد والضباط؟)
وقد عقب على مقالنا هذا الأستاذ عبد الخالق يوسف المحامي فقال إنه يوافقنا على رأينا ولكن (ذلك لا يمنع من الإشارة إلى المؤلفات التي وضعت في هذا الموضوع والتي كتبها الأديب الملازم الأول السيد فرج). . . وهي تناول حرب الصحراء المصرية وأفريقيا الشمالية، وأحاديث أخرى عن الحرب من وجهة عامة
ونحن، والحق يقال، قد فاتنا أن نطلع على المؤلفات التي أشار إليها الأستاذ عبد الخالق يوسف حين صدورها، ثم اطلعنا على بعضها بعد أن نبهنا إليها قراؤها المعجبون بها فألفيناها من الموجزات الوافية بمقاصدها في هذا الموضوع، وصح أن يقال إن مؤلفها الفاضل قد قام بما يسميه الفقهاء (فرض كفاية) عن الكتاب العسكريين في مصر، أو الذين كانوا ينبغي أن يحسبوا في مقدمة الكتاب العسكريين
فكتابه عن حرب الصحراء المصرية ملم بمقدمات هذه الحرب وأطوارها واختلاف عوامل النصر والهزيمة فيها، وقلما اتصلت بهذه الحرب مسألة من المسائل التي تعني العسكريين إلا كان له إلمام بطرف من أطرافها
كذلك اطلعت في مجلة الجيش على بحوث كثيرة عن الحرب في جميع ميادينها وأطوارها يضارع بعضها أحسن ما نقرأه لخبراء هذه الموضوعات في المجلات الأوربية والأمريكية
ولكننا نرى بعد هذا أن ملاحظتنا الأولى لا تزال قائمة في مكانها، لأنها متجهة إلى زعمائنا العسكريين وغير العسكريين ليشغلوا أوقات فراغهم بدراسة الموضوعات التي لا يغنى فيها غيرهم، وليس ظهور الكتب والفصول في هذا الصدد مما ينفي عن زعمائنا في مختلف ميادين الحياة أنهم متى فرغوا من العمل لم يشغلوا هذا الفراغ كما يشغله أمثالهم في البلاد الأخرى
ولا تزال ملاحظتنا الأولى قائمة من وجه آخر وهو الابتداع والإنشاء في درس شئون الحرب التي تمس البلاد المصرية من قريب
فالصحراء الغربية مصرية قبل كل شئ
ومن الواجب أن يكون علم المصريين بها وتعقيبهم على أساليب الدفاع والهجوم فيها هو العلم الأصيل الذي يرجع إليه الخبراء من أمم العالم بأسره، وأن يكون بين أيدينا اليوم كتب شتى عن الغزوات التي تعرضت لها مصر غرباً من بداية التاريخ إلى هذه الأيام، وأن تدرس هذه الغزوات دراسة عصرية كما يدرس الأوربيون غزوات هانيبال وأتيلا في بلادهم ليعلموا منها عوامل الضعف والقوة في الدفاع والهجوم على حسب اختلاف العصر والخطة والسلاح
فأين هو الكتاب المصري الذي يحقق لنا غزوات الليبيين لحدودنا الغربية؟ أو غزوات قواد الرومان ثم الفاطميين لتلك الحدود؟
وأين هو الكتاب المصري الأصيل الذي يحقق لنا المصادفات والمفاجآت والعوارض المنتظرة وغير المنتظرة مما حدث في أرضنا وتخومنا ونحن أحق الناس أن نعرف كل صغيرة وكبيرة عن تلك الأرض وتلك التخوم؟
ليس لي شأن بالمسائل العسكرية في ناحيتها الفنية، ولكني أعلم أن نيابتي عن الصحراء الغربية كلفتني أن أراجع كل ما تيسرت لي مراجعته عن تاريخها وتاريخ الغزوات الأجنبية فيها، وكان الشائع أن النفاذ منها في جميع وجهاتها مستحيل أو قريب من المستحيل، ولكنني تبينت أن الاطمئنان إلى هذا الرأي باب من أبواب الخطر الشديد وكتبت في هذا المعنى منذ ثلاث سنوات رداً على المؤكدين لهذه الطمأنينة أقول إن الحيطة واجبة في الشواطئ المصرية وإلا فالنفاذ منها ليس بالمستحيل، وإن كان عسيراً بالغاً في العسر أقصاه. وبيان هذا من رجال عسكريين أدعى إلى الثقة ووضوح الحقيقة بالحجة الفنية التي تموز الغرباء عن هذه الفنون
وقد كان هذا النقص في خاطري يوم أردت من زعمائنا العسكريين أن يتداركوه وأن يسقطوا عن كاهلهم هذه الفريضة التي لا تلقى قبلهم على كاهل أحد من الناس
والذي نرجوه أن يتحول فرض الكفاية الذي قام به بعض ضباطنا الشبان إلى (فرض عين) يقوم به كل قادر عليه، وهل ينبغي أن يقدر عليه أحد قبل ضباطنا العظماء؟
ويستطرد بنا الكلام عن الكتب وموضوعاتها إلى بدعة مضحكة تروج على بعض الألسنة التي لا تمل الاقتراح ولا تقترح إلا غير ما تراه، وخلاصة هذه البدعة أن الكتابة عن أبطال التاريخ ممنوعة وأن الأدباء يجب أن ينحصروا في الحاضر الذي هم فيه
وقد رد صديقنا الأستاذ المازني على هذه البدعة في مقال له بالبلاغ عن كتابنا (عبقرية خالد) فقال: (هل يراد ترك القديم جملة؟ إن تاريخ الأمم كالذاكرة للفرد ولا ندري كيف يعيش إنسان بغير ذاكرة ولا كيف تحيا أمة تجهل ماضيها وترى أن تدفنه وتهيل عليه التراب)
ثم اطلعنا في مجلة الاثنين على كلمة بعنوان (المستقبل لا الماضي) يعيب فيها كاتبها الأديب أن يتكلم الناس عن علي وعثمان وموقف أبي موسى الأشعري من التحكيم، ثم يقول إنه لا يريد هذا (ولكنا نريد أن نعرف ما عسى أن يصنع 17 مليون مصري 95 % منهم فقراء معدمون نريد أن نعرف ما هو مستقبل الوطنية الصحيحة في مصر وما هو مركز الاستقلال الحقيقي في هذا البلد. نريد أن نعرف هل الأفضل لمصر أن تبقى زراعية فتعيش في الذل والاستعباد أم تجمع بين الزراعة والصناعة ليرتفع مستوى الحياة فيها ويسمو. . .)
إلى آخر ما يريد أو يريدون
والظريف أن يصدر هذا من محرر (الاثنين) وهو يعلم أن العالم ينطوي وقد استنفدت المطابع من صحف المجلات عشرة آلاف صفحة في توافه المتبطلين والمتبطلات من رواد المراقص والمحافل وميادين السباق، ثم يستكثر بعد هذا بضع مئات من الصفحات على سيرة خالد بن الوليد أو عثمان بن عفان أو إنسان من ذوي الذكر كائناً من كان!
ويظن الكاتب الظريف أن (التقاليع) الأمريكية تنفع هنا كما تنفع في أخبار المجالس والأندية وما وراء الستار وما أمام الستار
والتقاليع الأمريكية لا تنفع في هذا الباب
لأنه يصح أن يذكر أن انتشار الزراعة أو الصناعة وما شابه ذلك من نظم الثروة وتوزيعها أمور فنية لها قوم مختصون بها، هم الاقتصاديون والزراعيون وخبراء المال والنقد والمصارف والشركات، ودخول الأدباء في هذه المباحث افتيات على (وظيفة) أصحابها وتعطيل لعملهم الذي هم أحق الناس أن يلتفتوا إليه
ويصح أن يذكر أننا تناولنا من مسائل العصر الحاضر أهمها وأولاها بالالتفات والتحقيق وهي مسألة النهاية التي تصير إليها الحرب الهتلرية، كما أوضحنا حقيقتها في كتابنا (هتلر في الميزان). ولم تكن هذه المسألة غريبة عن مستقبل الوطنية في مصر ولا عن مركز الاستقلال الحقيقي فيه، ولكنها غريبة عن عقول طمسها الله، فحملت من التبعات التي تجهل مداها ما تنوء به كواهل الأجيال
ويصح أن يسأل نفسه بعد هذا سؤالين وهما: ما هو الوقت الذي يسقط فيه حق التأليف بمضي المدة؟ أهو خمسون سنة أو مائة، أو عشرة أسابيع أو عشرة شهور؟
وأين هي الأمة التي ليس لها حاضر ولا مستقبل؟ ولماذا لم توجد أمة قط تركت الكتابة عن الماضي ولها حاضرها ومستقبلها في كل دقيقة من الزمان!
فسنة 1944 ليست هي الحاضر الوحيد الذي خلقه الله، وسنة 1944 ليست هي السنة الوحيدة التي اشتغل فيها الناس بمعيشتهم وبحثوا عن أسعار الخبز واللحم والقمح والقطن والشعير
سنة 1944 في هذا كسنة 944 وكسنة 94 وكسنة 94 وسنة 1944 قبل الميلاد
كل سنة من هذه السنين يا أخانا هي وقت حاضر، وهي سنة يأكل فيها الناس ويشربون ويهتمون بأسعار اللحم والخضر وبمسائل الفقر والغنى، وبمستقبل الصناعة والزراعة، أو ما شابه الصناعة والزراعة من مصادر الأرزاق
ومع هذا لم ينقض (عصر حاضر) قط حرمت فيه الكتابة عن الماضي البعيد أو الماضي القريب
ولم ينقض عصر حاضر قط شغل فيه الأدباء بواجب الخبراء الاقتصاديين والماليين والزراعيين، مع أنهم لم يبلغوا من قبل ما بلغوه الآن من الكثرة والافتنان والتوسع في الاختصاص. . . فلماذا يمتنع على الأدباء في سنة 1944 وحدها أن يكتبوا في الأدب والتاريخ، ويجب عليهم أن ينازعوا المختصين في الشؤون الاقتصادية وهم كثيرون أكفاء ميسر لهم سبيل البحث في هذه الشؤون؟
إن المعرفة الإنسانية يا أخانا ليس لها زمان
وإن النفس الإنسانية يا أخانا ليس لها زمان، وليست هي من (مودل) سنة 1944 دون ما تقدمها من السنين
فإذا كشف الكاتب حقائق المعرفة الإنسانية أو حقائق النفس الإنسانية في سيرة خالد بن الوليد؛ فهو قد كشف الحقيقة التي تبقى ألف سنة وألفي سنة بعد اليوم، بل تبقى ما بقي الإنسان ونفس الإنسان، يوم تكون مساحة الأرض الزراعية وعدد الآلات الصناعية في سنة 1944 عدماً فانياً، كأنه لم يخلقها الله قط في عالم الوجود
يصح أن يذكر الكاتب الظريف هذا كله، ويصح أن يذكر معه أن إحياء الروح العربي والقومية العربية في عصرنا هذا موضوع لا يجئ اليوم في غير موعد ولا على غير أوان
إنجلترا والولايات المتحدة تتحدث بالجامعة السكسونية، وهي القوية الغنية عن الجامعات
والروح العربي لازم جداً في هذا العصر، لأن المذاهب الهدامة التي تهدد مستقبل الآدمية كلها تأبى أن تكون للأمم نخوة قومية، أو نخوة لغوية، أو نخوة دينية، ولا تريد من الناس إلا أن يكونوا نقابة أجراء تشتغل بأسعار السوق وأحاديث الخضر واللحوم
ولهذا نحن نكتب عن خالد بن الوليد وعلي بن أبو طالب وعمرو بن العاص، وكل بطل من أبطال التاريخ
وإذا فرغنا من كتبنا التي ندرسها الآن فأحب شئ إلينا أن نبحث عن بطل مضت عليه خمسة آلاف سنة لنخصه بالتقديم والتفضيل، ونعتقد أن تقديمه وتفضيله أعون على التعريف بنفس الإنسان من أبطال العصر الحاضر، لأن الناس يستغربون ما مضى من الأجيال؛ فإذا رفعنا عنهم الغرابة كان هذا أدعى إلى التعريف بحقائق الإنسان
سنكتب عن هذا وأمثاله ما شئنا نحن أن نكتب فيه، وشئ واحد لن نكتب عنه طال عليه الزمان أو قصر، وهو الموضوع الذي يمليه علينا أعدائنا الماركسيون مستترين أو مصرحين، وهم فاهمون ونحن فاهمون
عباس محمود العقاد