مجلة الرسالة/العدد 576/الشيخ عبده وطريقته في التفسير
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 576 الشيخ عبده وطريقته في التفسير [[مؤلف:|]] |
العلم والعلماء ← |
بتاريخ: 17 - 07 - 1944 |
للأستاذ محمود شلتوت
من المعروف أن البيئة تؤثر في الإنسان تأثيراً كبيراً فهي تطبعه بطابعها وتنشئه على أخلاقها وتحمله بقوتها وسلطانها على أن يكون عضواً فيها، يعيش كما تعيش، ويفكر كما تفكر، وينزل على إرادتها وحكمها مطمئن القلب راضى النفس ولكن مع هذا قد يظهر في الأمة أو الجماعة من الحين بعد الحين أفراد يجعل الله منهم مظهر رسالة خاصة إلى الأمة أو الجماعة، فيصنعهم على عينه ويعصمهم من التأثير ببيئاتهم، فينشأ الواحد منهم برأسه أو أمة في نفسه، لا يتأثر بجماعته، ولا يتقيد بقيودها، ولا يزن الأشياء بميزانها بل بالعكس يؤثر هو فيها ويقتحم عليها حصونها، ويعيش معها ما عاش في كفاح وجلاد وهو في كل يوم يفتح فتحاً جديداً ويدك حصناً عنيداً، ويتعهد من وراء ذلك بذوره التي يضعها حتى ترسخ أصولها، وتسمق فروعها، وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها
أولئك هم المصلحون في كل زمان ومكان: منهم رسل الله المبلغون عنه، المؤيدون بوحيه، ومنهم دون ذلك من عباقرة الأمم وأفذاذ التاريخ
ولقد كان الشيخ عبده من هؤلاء العباقرة الذين عصمهم الله من التأثير ببيئاتهم ومكنهم من التأثير فيها
كانت بيئة الشيخ عبده هي البيئة الأزهرية التي تكونت في أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة. وكان طابعها الركود الفكري، والتعصب المذهبي، والتقديس للآراء والإفهام والسمو بها عن النقد ومحاربة كل رأي جديد، وقد وصل الأمر بهذه البيئة إلى أن أوجبت التقليد في دين الله وحرمت الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية وقاومت من حاول الخروج عليها في ذلك زماناً طويلاً. وكانت أكبر جناية لهذه النزعة جنايتها على القرآن فقد صورته كتاباً عزيز المنال بعيداً عن الإفهام لا يدركه إلا الراسخون الذين مضوا وقد درسوا واستنبطوا منه جميع ما يلزم المسلمين فليس لأحد بعدهم أن ينظر فيه كما نظروا ولا أن يستنبط منه كما استنبطوا، ولا أن يفسره بغير ما فسروا
ظل القرآن في ظل هذه النزعة يدرس دراسة أساسها الإسراف في المناقشات اللفظية لعبارات المفسرين، والاعتماد في قصصه على الروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة وفي تشريعه على المذاهب الفقهية وفي عقائده على الآراء الكلامية. وقد صار القرآن بهذا كأنه تابع لا متبوع ومحكوم عليه لا حاكم
ولقد تهيب الناس بهذا الوضع كتاب الله وصاروا لا يعرفون من مزاياه سوى أنه كتاب يتعبد بتلاوته ويتبرك به وتستمطر به الرحمة على الموتى ويستشفي به من الأمراض والعلل الجسمية
في هذه البيئة نبت الشيخ عبده كما ينبت الورد بين الأشواك أو كما ينبع الماء الصافي من بين الصخور. فكان بحق مجدداً لأمر هذه الأمة وكان بحق نوراً انبثق من أفق الأزهر انتفع به من انتفع وازور عنه من ازور، وبقي على ذلك قوياً وهاجاً يجذب إليه أنظار المؤمنين وينفذ إلى بصائر المخلصين
زلزل رحمه الله على الجامدين حصونهم، ودمدم عليها بالحجج، والبراهين، وكشف الحجاب الذي أسدله الجمود والتعصب على الدين شرعة وعقيدة، فبدا منه ما كان خافياً وعاد إليه بهاؤه الأول وجلاله القديم، وبدد الغبار الذي عقد حول كتاب الله وأنقذه من شر هذه النزعة التي جعلته وراء الظهور، وآثرت عليه قول فلان وفلان
وليس من الممكن أن نبسط آثار هذا المجدد العظيم في كل ناحية من النواحي، ولكننا نعرض في اختصار إلى موقفه من القرآن؛ فإنه كان يراه أصلاً للدعوة الفكرية الإصلاحية مهما تشعبت فروعها، وكان ينظر إليه على أنه أساس القوة ومصدر العزة للدولة الإسلامية والمسلمين جميعاً. فأستقبله على أنه - كما أنزله الله - كتاب هداية وتشريع وأخلاق، ونهى عن اتخاذه لغير ذلك من الأغراض المادية التي لا تليق بجلاله، والتي تصرف المسلمين عن الانتفاع بهديه وإرشاده، ونبه المسلمين عامة وأهل العلم خاصة إلى مركز القرآن، وأنه المسيطر على كل ما سواه في العلميات والعمليات، يجب أن يتحاكم إليه المختلفون، وأن يخضعوا لحكمه وأن يتركوا جميع الأقوال لقوله؛ فليس أمام حكمه حنفي ولا شافعي ولا سني ولا معتزلي
وقد عني رحمه الله أشد العناية بتجريده التفسير من كل ما لا ثقة به من الروايات والإسرائيليات، وأوجب الوقوف عند الحد الذي قصه القرآن من أحوال الماضي أو أخبر به من شئون المستقبل ولم يكن رحمه الله ذا اهتمام كبير بأسباب النزول، بل كان يعتمد في فهم المعنى وربط الآيات على ما يفيده الموضوع وترشد إليه الألفاظ والأساليب، حسب المعهود من اللسان العربي المبين
هذه هي طريقة الشيخ عبده في تفسير القرآن، عرفناها واضحة جلية مما كتبه بنفسه كتفسيره لجزء (عم يتساءلون)، الذي فرغ منه كما يقول في آخره - منتصف الساعة السادسة بعد الظهر من يوم الأحد 23 أغسطس سنة 1903 في مدينة جنيف من بلاد سويسرا، وكتفسيره لآيات خاصة تفنيداً لشبه أثارتها، عند خصوم الإسلام، مكانة الجمود والرواية من التفسير. وما دونه عنه تلميذه البار السيد رشيد رضا، وهو من أول القرآن إلى قوله تعالى في سورة النساء: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن)
لم يكن الشيخ عبده من هؤلاء الذين يقترحون ويدعون إلى ما اقترحوا دون أن يكون منهم أسوة عملية تشق للناس طريق ما يقترحون، بل كان رحمه الله عملياً قبل كل شيء، فلم يدع فرصة في حضره أو سفره تمر حتى يلقي فيها دروس التفسير على طريقته ومنهاجه. وقد واظب على ذلك في دروس متتابعة ظل يلقيها بالأزهر نحو سبع سنين، وكان يحضرها كثير من علماء الأزهر والنابهين من طلابه، ويحضرها الكبراء من رجال الدولة والتفكير، حتى أحدث في الأزهر حركة فكرية حادة لفتت أنظار العلماء والمشتغلين بالمسائل الإسلامية في الشرق والغرب إلى الأزهر وإلى الإسلام
بهذا مما ذكرنا وبغيره مما لم نذكر كان الشيخ عبده هو المجدد الإسلامي العظيم للقرن الرابع عشر من الهجرة، له نمطه المعروف وفكرته الواضحة التي أسهر لها ليله وأضنى بها جسمه، وتعرض في سبيلها لحقد الحاقدين وكيد الكائدين، ثم لبى دعوة ربه معتزاً بما لم يترك سواه من علم وإصلاح
وإذا كانت تعاليم الشيخ عبده قد أثرت من نصف قرن مضى في التفكير الإسلامي تأثيراً قوياً؛ فإن المخلصين للأزهر لا يزالون إلى الآن يرجون أن يسرع الأزهر في الاقتراب من هذه التعاليم، وأن يجعلها من أسس دراسته وأساليب تفكيره ولا بد أن يقترب الأزهر - وهو معقل الدين - من طريقة الشيخ عبده مهما طال الأمد. لأنها طريقة السلف الصالح التي فهم بها الدين وعز جانبه، وآخر هذا الدين لا يصلح إلا بما صلح به أوله أيها السادة: هذه ناحية من نواحي عظمة الشيخ عبده وأحب ألا أغادر موقفي هذا حتى أسجل أن عظمة الشيخ عبده لم تكن ترجع فقط إلى علمه الواسع وإحاطته بأساليب الحياة الصحيحة، ولكنها في الواقع ترجع إلى صفات صيغ بها وطبع عليها؛ فقد كان مؤمناً قوي الإيمان، كان مخلصاً لفكرته، كان شجاعاً في الحق لا يعرف التردد ولا المجاملة، كان متجرداً عن الأهواء والمطامع، ليس مشغولاً إلا بفكرته ولا معنياً إلا بنجاح دعوته، كان معتمداً على الله وعلى قوة الحق وعلى الصراحة والوضوح، وما كان يعرف ركناً يأوي إليه سوى هذه الصفات
وكان بكل هذا شخصية مهيبة يحيط بها الوقار ويحفها الجلال، ويشع منها نور الحق وروعة الصدق فتجذب إليه الناس فيملك عليهم السمع والبصر والفؤاد
ذلكم هو المصلح وذلكم هو الإمام رحم الله الإمام وأسبغ عليه رضوانه:
محمود شلتوت