الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 575/مسألة الجنسين

مجلة الرسالة/العدد 575/مسألة الجنسين

مجلة الرسالة - العدد 575
مسألة الجنسين
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 07 - 1944


للأستاذ عباس محمود العقاد

في مقالنا الماضي عرضنا لقرار الحكومة الروسية الذي أمرت فيه بفصل الصبيان والبنات في بعض مراحل التعليم، لأن الذكور والإناث يختلفون في استعداد النمو ما بين العاشرة والسابعة عشرة، فيبطئ تكوين الذكور ما بين العاشرة والرابعة عشرة ويسرع تكوين الإناث، ثم يبطئ تكوين الإناث ما بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة ويسرع تكوين الذكور

وهذا مع اختلاف الإعداد للمستقبل بعد انتهاء الدراسة. فالذكور يعدون للجندية والإناث يعددن للأمومة، وكلتا الوظيفتين تدعو إلى تعليم خاص لا يشترك فيه الجنس الآخر ولا يفيده أو يفيد الأمة أن يشترك فيه

وقد قلنا في التمهيد لذلك: (إن الفارق إذا وجد في البنية لا يوجد في زمن ويختفي بعد ذلك أو قبل ذلك في أزمان. بل هو موجود في دخائل البنية وأعماقها، وإن تفاوتت درجات ظهوره بين حين وحين)

وهذا الذي نريد أن نتوسع فيه بعض التوسع في هذا المقال. لأن الاختلاف بين العاشرة والسابعة عشرة ما كان ليظهر في هذه السن لو لم يكن هناك اختلاف مستقر في أجزاء البنية جميعاً من ساعة الميلاد بل من قبل ساعة الميلاد. فالبنية قبل العاشرة كانت مختلفة في خلاياها ودقائقها ما في ذلك أقل ريب، ولولا ذلك لما نشأ الاختلاف في الاستعداد حين نشأت دواعي ظهوره

كذلك يظل الاستعداد العقلي والجسدي مختلفاً بعد السابعة عشرة وإن تواري بعض التواري في بقية أدوار الحياة. لأنه لا يختلف عبثاً ومصادفة بل يختلف لغرض باق هو المقصود لا شك بالاختلاف في مدى تلك السنوات

وهذه حقيقة يستطيع العلم أن يفسرها ولكنه لا يستطيع أن ينفيها ويمنعها بحال من الأحوال. لأن نفيها أو منعها من وراء سلطان العلم والعلماء

فالاختلاف بين الجنسين في الطاقة والملكة موجود من زمن قديم، ونتائج هذا الاختلاف في الحياة العامة والحياة الخاصة موجودة كذلك منذ زمن قديم، وغاية ما ينتظر من العلم أن يفسر لنا أسباب هذا الاختلاف أو يفسر لنا دلالاته ومعانيه، ولكنه ينقض نفسه حين ينف وجوده أو يعترف بوجوده ثم ينفي دلالته في الماضي ووجهته في المستقبل، فليس للعلم ولا للعلماء هذا السلطان

على أن اختلاف الجنسين في الطاقة والملكة سابق لاختلافهما في نوع الإنسان. فلا مساواة في الحيوانات العليا بين الذكور والإناث، وليست حقوق الإناث مساوية لحقوق الذكور في تلك الحيوانات، إن صح التعبير هنا بكلمة الحقوق. ولم تشاهد قط جماعة من الحيوانات الاجتماعية تقودها أنثى أو تحتل منها محل الزعامة كما تفعل الذكور، ولم تشاهد قط أنثى تستتبع لها طائفة من الذكور، لتختار منها ما تشاء حين تشاء

والعلم لا يستطيع أن ينكر هذا ولا يستطيع أن يجرده من الدلالة، ولا يستطيع بعد هذا وذاك أن يزعم أن الحيوان يحتاج إلى التنوع في وظيفة الجنسين ولا يحتاج إليها الإنسان.

على أن العلم قد أخذ منذ سنوات قليلة في كشف هذه الحقيقة من مكامنها الأولى التي تبين لنا أن الاختلاف في القدرة الإنشائية كان من أبدأ البداءات بين خلايا التذكير وخلايا التأنيث، ونحسب أن العلماء واصلون إلى فصل الخطاب في هذا الباب بعد بضع سنوات، فيبطل يومئذ محال الدعاة الذين يعمون أو يتعلمون عن المحسوس لأنهم يسخرون حقائق الحياة لمذاهبهم العوجاء، بدلاً من تسخيرهم هذه المذاهب لحقائق الحياة

وحسبنا أن نقرر هنا ما أثبته الباحثون في (فزيولوجية الجنس) من تجارب الخلايا في كلا الجنسين. فهذه التجارب تثبت أن عوامل الذكورة إنشائية، وأن عوامل الأنوثة سلبية تابعة أو هي على وجه من الوجوه بمثابة اختفاء عوامل الذكورة. فالجزء الذي تستأصل منه خصيته يضمر ولا تنبعث فيه دواعي النماء، ولا يحدث مثل هذا في أنثاه إذا نزع منها المبيض ولو من أوائل الطفولة، لأن نموها الأنثوي لا يحتاج إلى عامل مضاف من عوامل الإنشاء

ومع هذا لا نحسب أن الأمر يلجئنا إلى الميكرسكوب والخلايا لنعلم أن طبيعة الذكورة تقتضي الإرادة الإيجابية وأن طبيعة الأنوثة تقتضي المطاوعة والمتابعة وما يمتزج بهما من الخلائق والنزعات

فالذكور في جميع الحيوانات هي المجتهدة الطالبة والإناث في جميع الحيوانات هي الملبية المطلوبة، وإن اشترك الجنسان في رغبة التناسل واستبقاء النوع وقد خلق الذكور، نفوساً وأجساماً، بحيث يريدون تحقيق رغباتهم الجنسية ويستطيعون تحقيقها كرهاً إذا بدا لهم الإكراه، ولم تخلق هذه المزية للأنثى في نوع من الأنواع، وليس إمكانها بمعقول

ولا عبث في هذه التفرقة بين مزية الجنسين، لأن الأنثى ليست بها ولا بالنوع حاجة إلى تسليط إرادتها بعد الحمل الذي يشغلها عدة شهور. فمن العبث أن تعطي الإرادة لتعطل وظائف الذكور في خلال هذه الشهور، ومن مصلحة النوع أن تكون مزية الإرادة والسيطرة للرجل ومزية الطاعة والتلبية للمرأة. وهكذا شاءت حكمة الخليقة سواء عندها من يشاء من اللاغطين ومن لا يشاءون

وكما قضت حكمة الخليقة بالإرادة والسيطرة للرجال قضت بفارق آخر بين الجنسين يجعل التدبير وبعد النظر خاصة للرجال لا يرزقها النساء

فكثيرا ما تلام المرأة، لأنها أسيرة لميولها الحاضرة، تندفع معها ولا تفكر في عواقب الأمور ولا يفلح معها الإقناع ولا الوعيد في تحويلها عن تلك الميول

ويفوت اللائمين أن نسيان العواقب ضرورة فزيولوجية لتحقيق فريضة النوع من جانب النساء، فلو كان من طبع المرأة أن تبالي بالعواقب وتوازن بينها وبين الميول الحاضرة لتعاظمت أمامها متاعب الحمل والولادة والحضانة وما فيها من أخطار قد تودي بالحياة ومن منغصات قد تبغض الإنسان في أقدس الواجبات

فهذه ضرورات الخلقة التي لا كلام فيها لعلم عالم ولا لتحليل محلل قد ميزت الرجل بالسيطرة والإرادة في صميم الفارق بين الذكورة والأنوثة، وقد جعلت وظيفة الرجل وظيفة لا يناقضها التدبير والنظر البعيد، كما يناقضان وظيفة المرأة

وحكمة الخليقة هنا يؤيدها المشاهد المحسوس، فإذا علمنا أن تكوين النساء لا يتيح لهن جملة أن يساوين الرجال في مزايا الإرادة والعزيمة والتدبير والنظر البعيد؛ فكل كلام عن تشابه الملكات بعد ذلك محض هراء

نعم تعرف للمرأة مزاياها التي لا يشابهها فيها الرجال، وهي مزايا يفيد فيها التخصيص والتوزيع، ولا مناص فيها كما قدمنا من التباين والافتراق في مراحل التعليم وفي مراحل العمل والمعيشة، هذا الذي نعنيه ونخشى أن يغفل عنه المتعجلون والمغربون في انتحال المذاهب واتباع الدعوات

ونعيد هنا ما قدمناه في مقالنا السابق حيث نقول: (إن المسألة التي نحن بصددها ليست مسألة تقدير للمنازل والمراتب في ديوان من دواوين التشريفات، ولكنها مسألة القيام بأعمال الرجال وأعمال النساء على الوجه الصالح لكل من الجنسين)

فلا يضير الناس أن يقال ما يقال عن تساوي الأقدار وتعادل المراتب بين النساء والرجال ما فهموا حقيقة الاختلاف بين استعداد هؤلاء وهؤلاء، وما وكلوا لكل منهما عمله الذي يحسنه ولا يعطل فيه ملكاته التي توارثها من أول عهد التاريخ، بل من أول عهد الأحياء بالاختلاف بين التذكير والتأنيث

وهذه مسألة تثار الآن كما تثار جميع المسائل في أوقات الحروب والثورات. فإن كلمة حقي وحقك وحقوقهم وحقوقنا هي أول ما يسمع في الدنيا عندما يتسع فيها ميدان النزاع والتنافس والمغالبة على حظوظ الحياة، وقد سمعنا الكثير عن حقوق العمال وحقوق الجنود وحقوق الشيوخ والأطفال، وسمعنا الكثير عن حقوق الضعفاء المحكومين وحقوق الأقوياء الحاكمين، وسنسمع الكثير غير هذا حين تقترب ساعة الفصل بين جميع هذه الحقوق. فلا عجب أن تتردد بيننا وبين الأمم الأخرى كلمات الداعين والداعيات إلى حق المرأة في كل شئ حتى ما ثبت للرجال كل الحق فيه

لا عجب في ذلك ولا مدعاة فيه للتشاؤم والإنكار. إذ لا شك أن التنبه الخاطئ بغير فهم وسداد أنفع من الجمود الخاطئ بغير فهم وسداد، وقد جمدت المرأة زمناً طويلا؛ فلها اليوم أن تأخذ كفايتها من اليقظة كما أخذت كفايتها من الجمود، ولها في هذه اليقظة أن تخطئ ثم تخطئ حتى تصيب طائعة أو ترد إلى الصواب بحكم الحوادث التي تنفرد أبدا بالحكم الأخير

والذي نحن على يقين منه أن المرأة ستظفر بكل حق هي قادرة عليه ومحتاجة إليه، أو هي به في حدود الأنوثة التي أقيمت لها حدودها قبل المذاهب والقوانين، وستبقى لها حدودها بعد المذاهب والقوانين

ستظفر المرأة كل حق من هذه الحقوق، ولكنها ستعدل بمشيئتها عن تلك المطالب التي لا تريدها لأنها قادرة عليها أو محتاجة إليها، بل تريدها لأنها (زي جديد) كتلك الأزياء الجدد التي يشغف بها بنات حواء

وسيأتي اليوم الذي يصبح فيه هذا الزي الجديد قديماً؛ فإذا هو منبوذ غير مطلوب، وفوات المدة هو كل ما يلزم لمناقشة هذه الدعاوي وتنفيذ تلك الآراء. إن صح أنها آراء

عباس محمود العقاد