مجلة الرسالة/العدد 575/بضاعة القلم
→ القرآن الكريم | مجلة الرسالة - العدد 575 بضاعة القلم [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 10 - 07 - 1944 |
للأستاذ توفيق حسن الشرتوني
لا جدال أن بضاعة القلم هي البضاعة التي تصدر خاماً من منجم الدماغ الإنساني، وتتحول إلى مصنع الحافظة للقيام بمهمة فرزها وضروب حياكتها. وما مصنع الحافظة سوى مستودع يعج بمفردات اللغة وشواردها، ومسبك يصب ألفاظها وتعابيرها. والملهمون وحدهم يحسنون خلق هذه البضاعة وإبداع نسجها، لأنها فريدة صعبة المراس، تقدر بالجودة لا بالكثرة.
فكم فص من الماس لا يساويه ألف فص، وكم قلادة من قلائد اليراع لا يعادلها ألف قلادة. فالثرثرة إذاً ليست أدباً، وحوشي اللفظ ليس بياناً، وانتحال أفكار الغير لا يعد نتاجاً، واجترار أقوالهم لا يعتبر فناً. إنما الأدب والبيان والفن نتاج يرتكز على دعائم الابتكار في المعنى، والبلاغة في المبني، والجزالة في الأسلوب، والإيجاز في التعبير
أما الابتكار في المعنى وهو بيت القصيد، فلا يبدعه غير الموهوبين. والموهوبون أنفسهم لا ينتجونه طريقاً إذا لم يستثمروا مناجم أدمغتهم، ويغرزوا في أعماق تلافيفها ومطاوي أغوارها معاول تفكيرهم ومهاميز جهادهم ليكشفوا عن مستغلق أرواحهم، وعن كل ما تلبد في مستودع أذهانهم، وتستر في مكنون طباعهم وخفايا غرائزهم. وأدباء العربية أحوج الأمم في هذا العصر إلى استغلال مناجم أدمغتهم. فهي ما تزال بكراً لم يستثمر منها غير اليسير الذي لا يروي غلة ولا يبل ظمأ
ومن العار أن تظل حياتنا الأدبية والعلمية مقصورة على معارف الجدود، أو مستمدة من نتاج أدمغة الغربيين نأخذ منهم ولا نعطيهم، ونتمتع بمستحدثاتهم العلمية وروائعهم الأدبية والفنية، ولا نبادلهم علماً يستحق الذكر، أو أدباً جديراً بالتقدير، أو فناً خليقاً بالإعجاب
إن العاجز يمثل دور الطفيلي ويعيش عيلاً على غيره. أما نحن فلسنا بالعاجزين. نحن أبناء أمة عريقة، لنا من ماضيها الزاخر بغرر الفكر، ومن تاريخها الحافل بجليل المآثر، ما يؤهلنا لمماشاة أرقى الأمم حضارة وعلماً، وما يذكي فينا روح المساهمة الواجبة علينا إزاء العالم، في حلبة الإبداع والتجدد.
وليس يعوزنا غير التضلع في العلوم والفنون والصناعات، والاطلاع على طارفها وتالدها، والتعمق في درسها وتمحيصها لاستجلاء كنوزها. ثم التمرن على أشغال الذهن ومواصلة التفكير لبعث ملكة الاستنباط الراقدة في حنايا أدمغتنا البكر، وهذا كله في متناول أيدينا. فجامعاتنا ومدارسنا ومكتباتنا كلها تزخر بمختلف المعارف الإنسانية، ينهل منها الطالب ما يشاء، ويثقف نفسه ما شاء لها من التثقيف.
ولكن هل من السهل إجهاد الذهن لاستخراج ما فيه من الدرر واللآلئ؟ إنه لعمري إجهاد عنيف لا يضاهيه إجهاد الغواص لاستخراج لآلئ البحر، يتطلب علماً وجلداً وخبرة في الحياة، ويستدعي جهداً خارقاً في التفكير، ورهفاً دقيقاً في الملاحظة، وإنعاماً خالصاً في الروية، تتعاون كلها على بعث اليقظة في الحواشي والوعي في البصيرة. والحواشي المستيقظة والبصيرة الواعية مصراعا الدماغ، لا ينفذ إلى دخائله دونهما، ولا تستخرج درره الكامنة في أغواره إلا بهما.
فلا شئ في هذا الكون يجني عفو الخاطر، بل بشق النفس وإجهاد الجسم والعقل
فالعلم الذي نستوعبه بحول، هو نتاج كفاح الأجيال. والكتاب الذي نتصفحه بساعة هو نتيجة جهاد الأعوام. والصناعات التي نتمتع بأدواتها المدهشة، قد صرف مبدعوها العمر كله لإيجادها. والأدوية الناجعة التي نفزع إليها عند الحاجة، ونتناولها ساعة نشاء، قد بذل في سبيل تحضيرها واكتشافها دماء القلب وعصارة الروح
فارتقاء الإنسان إذاً مصدره الفكر. ولولا أعمال الفكر الشاقة، لما كانت الحضارة ومستحدثاتها ولا العلم ونواميسه. فكل جليل وجميل في الكون تمخض فكراً في الذهن قبل أن تجسم كتاباً، أو تحول آلة أو تقمص فناً
فمن شاء الخلق والإبداع فليفكر. وألا يمل من التفكير. فمن لا يزرع لا يحصد، ومن لا يواصل التفكير لا يخلق ولا يبدع
إن الجسم لا تقوى عضلاته بلا مواصلة العمل والرياضة. . . هكذا الدماغ وهو خير ما في الجسم من عضل وخلايا لا تتفتح مواهبه الخالقة، وتشتد قواه المبدعة إلا بقوة المران والتفكير المستمر. ولا يغرب عن البال أن الثقة بالنفس هي أساس الفكر، فمن وثق بنفسه فكر بدماغه دون أن يتوكأ على أدمغة الآخرين. وما الإحجام والخمول والتواكل سوى قيود مرهقة للنفس. يتحتم علينا أن نتحرر منها ليتسع أفق تفكيرنا ونتاج عقولنا أما البلاغة في المبني فمزيتها خلوها من الحشو والتكلف، وبعدها عن الإبهام والتعقيد، وحرصها على الوضوح والطلاوة ومجيئها عن محض الشعور والسجية. هكذا الأسلوب لا يعتبر جزلاً إلا إذا كان سهلاً ممتعاً، مؤدياً المعنى بلغة صحيحة، وعبارة رشيقة، ولفظ متلائم
أما الإيجاز في التعبير، فهو من أهم لزوميات هذا العصر الخاطف، الذي جعل الناس يتنقلون من قطر إلى قطر بسرعة تبز جوارح الطير، ويرسلون أصواتهم وأفكارهم من قطب إلى قطب، كما ترسل الصواعق
لقد مضي عهد المداورات والمترادفات، وتصرم زمن الاستغراق في الكنايات والاستعارات، وجاء العهد الذي يستدعي الكاتب النفاذ إلى لب الموضوع بسرعة توازي سرعة العصر الذي نعيش فيه
فالمعاني التي تستوعب بصفحة من خطل الرأي أن نعبر عنها بصفحات. والفكرة التي توضح بجملة من الخطأ أن نمدها في كثرة الجمل. فالكتاب الشائق في هذا العصر هو الكتاب السهل المأخذ، الغني بروي البيان والفكر والتعبير الموجز
أما المطولات فقد تصرم عهدها وطوتها الرفوف
إني أوثر اليوم أن تنسج بضاعة القلم على هذا النحو، فلكل عصر بضاعة كما لكل عصر رجال.
(بيروت)
توفيق حسن الشرتوني