مجلة الرسالة/العدد 575/البريد الدبي
→ مزامير! | مجلة الرسالة - العدد 575 البريد الدبي [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 10 - 07 - 1944 |
الوجود المادي
1 - أشكر عظيم الشكر لحضرة اللوذعي المفضال الأستاذ دريني خشبة تفضله عليَّ (بالفاضلية والمحبوبية) وهو بهما أجدر مني وأليق
2 - أرجو من حضرته ألا يزجني في معركة وحدة الوجود لأني لا أصلح جندياً فيها. وما تعرضت لها في العدد السابق من الرسالة إلا لأنني كنت أود حقيقة أن أعلم ماذا يراد بوحدة الوجود
3 - أرجو من الأستاذ دريني أن يراجع ما قلته في مقالي السابق لكي يتحقق جيداً أني لم أقل إن مقاله الثالث زاد النظرية غموضاً: بل قلت بكل وضوح وصراحة لا تقبل التأويل، إن ما سرده من نظريات فلاسفة اليونان زاده غموضاً لأنها سلاسل سخافات كنشوء الكون من الرطوبة الخ. فهي لا تستحق أن يستشهد بها ولا يستفاد منها شئ لتعريف وحدة الوجود. لذلك أرجو منه أن يصحح عبارته لكيلا يفهم القراء أني نسبت إليه قولاً لم يقله
4 - فهمت من كلمة (الوجود) الكون المادي، لأن ما استشهد حضرته به من أقوال فلاسفة اليونان يدل دلالة صريحة على أن هؤلاء الفلاسفة عنوا بالوجود أصله المادي لا غير. كذا فهمت. وهو واضح من قولي (إذا كان المراد بوحدة الوجود أن الكون كله من ذرات وأجسام نشأ من هيولي واحدة الخ. فهو ما أثبته العلم الحديث الخ). فعن الوجود المادي تكلمت، وهو الذي عنيت، وطبيعته قصدت. ولذلك لا أسلم بهيولي أخرى غير هيولاه ما دمت لا أحس بهيولي أخرى. ففي عقيدتي أن كل ما أحس به بإحدى حواسي هو من طبيعة هذا الوجود الهيولي ولا غيره. وما وراء الطبيعة لا أحس به إذن فليس هو من الوجود المادي. ولذلك قلت إنه لا شئ وراء الطبيعة المادية. أما إذا كان وراء الطبيعة شئ آخر وهو الروح فهو وجود غير مادي، غير طبيعي. ولذلك تنصلت من التعرض له
5 - أما قول أستاذنا الفاضل دريني إن القضية قضية إسلامية فأقول بشأنه أني لم أنازع في هذه القضية ولن أنازع على الرغم من أن قضية نسبة الوجود إلى الله (رب العلمين) ليست إسلامية بحتة بل هي قضية عالمية ولا تحتكرها أية أمة دون أخرى. على أني لا أتعرض لها بأي ح 6 - وهو موضوع خرج من دائرة قصدي فيما كتبت وإنما استدرجني إليه أستاذنا دريني بقوله أخيراً: ما رأى الأستاذ نقولا الحداد في هذه الفلسفة التي لا تعترف بالعالم أو الطبيعة الخ. رأيي أني لا أستطيع أن أعتقد بأن ما أحس به بحواسي الخمس هو وهم كما حاول الفلاسفة التصوريون أن يقنعونا وكبيرهم الفيلسوف بركلي في أواخر القرن السادس عشر على الرغم من مقدرته المنطقية في الإقناع. إن حواسي بنات أفعال المادة في جسدي فلا أقدر أن أكذبها أو أقول إنها تخدعني. وهذا موضوع عويص جداً أتهيب أن أتصدى له.
نقولا الحداد
الجائزة الأدبية
كنت في مجلس ضم عشرة من الأدباء، فيهم ثلاثة من الأقطاب، أي إذا ذكر الأدب في مصر أو في العالم العربي كان هؤلاء من المتقدمين
جرى الحديث في القصيدة بشر فارس والجائزة الأدبية التي لم يفز بها واحد من الأدباء، فحمل واحد من هؤلاء الأقطاب (ولا أسميه الآن) على شعر بشر فارس حملة تؤيد الغرض الذي رميت إليه في وضع الجائزة، وتؤيد أيضاً رأي الأستاذ الجليل (أ. ع) في أنها غير مفهومة لا يمكن شرحها ولا معرفة غرض ناظمها
ثم بلغني من رجل صادق الرواية، أن ذاك الأديب القطب الكبير قال للشاعر بشر فارس، إن قصيدته وعنوانها: (إلى زائرة) واضحة مفهومة، وأنه شرح لي ستة أبيات من ثمانية أبيات هي كل القصيدة ففهمتها، وقال أيضاً إن العيب ليس في شعر بشر فارس بل المرض في فهم من لا يفهمون هذا الضرب من الشعر ولا يفطنون إلى بدائعه!
لا يسعني، وقد بلغتني الرواية كما وقعت، إلا مطالبة الأستاذ الأديب القطب الكبير ببعث شرح الأبيات الستة التي قال أنه شرحها لي ففهمتها، إلى الرسالة ليعرض على القراء، وإني أنقده أجراً على ذلك عشرة جنيهات لا خمسة.
حبيب الزحلاوي
حول وحدة الوجود أيضاً
علمتنا الفلسفة أن البطل لا يصير حقاً بكثرة منتحليه، والحق لا يستحيل باطلاً بقلة معتقديه. فلئن كثر الناقمون على وحدة الوجود من كتاب (الرسالة)، إلا أن هذا لن يصرفنا عن تبرئة أصحاب هذه المقالة مما ينسب إليهم. فأما القول بأن وحدة الوجود تدعو إلى التدهور الأخلاقي والتحلل من الآداب، فهذا قول باطل مردود، وليس أدل على فساد هذا الحكم من أن ابن عربي نفسه - وهو أمام أصحاب هذا المذهب - كان (يفرق بين الظاهر والمظاهر فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات)، كما شهد بذلك ابن تيمية نفسه. وأما القول بأن عبارة ابن عربي القائلة بأن العالم ما له وجود حقيقي (وهي تلك العبارة التي جعل منها الأستاذ دريني خشبة محوراً لرده، واتخذها ذريعة للسخرية من الفلسفة) عبارة فاسدة تنبو على العقل، وتند على المنطق، فهذا قول مرفوض منقوض، لأن ابن عربي لا يعني بالوجود هنا، ذلك الوجود المحسن الملموس، بل يعني الوجود الحقيقي الذي لا يتطاول إليه الوهم، ولا يرقي إليه العقل الإنساني القاصر. فكل ما تدل عليه هذه العبارة، هو أن وجود المحدثات المخلوقات ليس بوجود حقيقي، لأنه وجود عارض يلحقه التغير، ويتوقف على وجود غيره؛ في حين أن وجود الله الذي لا يثبت كونه إلا بعينه، وجود واجب لا يعرض له التغير والإمكان، ولا تلحقه الإضافة والتقييد بحال
أما تلك الأحكام السريعة المبتسرة التي يطلقها البعض على مذهب فلسفي عميق كمذهب وحدة الوجود، من غير تثبت أو تحقيق، ومن دون بحث أو تدقيق؛ فهذا ما لا نعني أنفسنا بالرجوع إليه وإدامة النظر فيه - وحسبنا أن نقرر هنا ما لمذهب وحدة الوجود من نزعة واحدية تتفق مع اتجاه العلم الحديث (وهو ما أظهرنا عليه أرنست هيكل عند حديثه عن هذا المذهب في كتابه (لغز الكون))، وما ينطوي عليه هذا المذهب من تنزيه بالغ استحال معه العالم إلى موجود متوهم ما له وجود حقيقي وأصبح الله وحده هو الموجود!
هذه كلمة ثانية أكتبها دفعاً لكل شبهة، ولن أردفها بأخرى مهما بدا للأستاذ الفاضل دريني خشبة أن يقول. فإن مثل هذه المسائل المعقدة قد لا تحتملها أعصاب القراء الفائرة في هذا القيظ!
زكريا إبراهيم