الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 575/الأحلام

مجلة الرسالة/العدد 575/الأحلام

بتاريخ: 10 - 07 - 1944


للأستاذ عبد العزيز جادو

الأحلام - كما درسها بعض العلماء - تبين اشتغال الشعور الباطن، وتقيم الدليل على تلك المشكلة التي طالما حير الإنسان فهمها. والحلم حالة نفسية يشتمل على ما نراه في نومنا من صور وتمثلات غريبة في الترتيب عجيبة في الظهور. وهذه لا تتكون دائماً من الأشياء والشئون المعلومة لدينا في اليقظة، بل قد تكون أشياء وأموراً نجهلها تماما. وللأحلام معنى مهم يتعلق بتوازن حياتنا اليقظة وليس اللاشعور مجرد نظرية، ولكنه جزء من الطبيعة البشرية التي يمكن أن تظهر بواسطة الأحلام. فلكي نفهم الحلم علينا أن ندرك معنى اللاشعور. الشعور هو جزء صغير فقط من شخصيتنا. أما اللاشعور - الذي يتألف غالباً من التأثيرات، والنزعات الموروثة والمكتسبة، والرغبات الجنسية المكبوحة - فيكون الجزء الأكبر من الذات الحقيقية

فإذا كانت هذه الحياة اللاشعورية غير منسجمة مع الذات الشعورية فإنها ستستولي علينا بالتدريج وتتلف فهمنا للحياة. هذا من حيث إمكان مساعدة الأحلام لنا

إننا جميعاً نرغب في أكثر مما نملك. ولما كان الطموح هو ينبوع الحياة، فإن النزعات المكبوتة يمكن أن تقلب حياتنا المنتعشة إلى حياة خاملة. فالأحلام تمهد السبيل للتهرب من الحقيقة، وفي الأحلام يقوم الناس بما قد يكون مستبهماً عليهم في عالم الحقيقة

كثير من الأحلام يأخذ صورة إرضاء الرغبة - والرغبة يمكن أن تميَّز بسهولة، ولكن هناك كثيراً من الرغبات الغامضة. وهذه الرغبة الغامضة هي التي تسبب معظم القلق. وفي اللاشعور يكتمن الكثير من الرغبات الغريزية التي لا يمكن أن تكون مرضية في الحياة العادية من غير ما تناقض مع الدستور الاجتماعي للفرد، واحترامه الذاتي

وهكذا نرى أن الميول التي نرضيها ونشبعها أثناء النهار لا تحتاج إلى إرضاء في الأحلام

والأحلام ربما تكون في أصل جنسية، سواء أكانت الذكري من الطفولة المبكرة أم من الكبت الحالي، أو ربما تكون متعلقة بذوي القربى في صورة رغبة لا شعورية لموتهم أو لبعدهم؛ أو ربما تكون أيضاً شهوة للقوة. هذه الأمثلة غالباً ما تكبح ولا يسمح بظهورها، لأنها متناقضة مع الحياة اليومية، الحياة الواعية الشعورية، ولأن الرقيب من جهة أخرى يمنعها من الظهور بضغطه عليها. ولكنها قادرة على إظهار نفسها أثناء النوم عندما تتعطل الحواس وتنقطع عن العمل، وتكون الرقابة الأخلاقية على العقل الواعي مسترخية عندئذ يدأب اللاشعور في عمله فينسج لنا حياة أخرى يعيش المرء فيها غاطً في احساساته وتصوراته وانفعالاته وآماله المكبوتة التي لم يتمكن من تحقيقها، فتتجسم إذ ذاك تلك الاحساسات والتصورات، وتتوالد وتظهر منها سلسلة وقائع قد تكون من الغرابة بمكان. إلا أن هذى الرغبات لا تجرؤ على الظهور بمظاهرها الحقيقية حتى ولا في الأحلام، بل تتستر وراء أشكال ورموز ظاهرها برئ

وهذا هو السبب في أن أكثر الأحلام من الماضي والحاضر، ومجموعة مختلفة من الناس؛ وهذه التمثلات تتلون غالباً بصور معاني ما اختزنه الإنسان في عقله الباطن في حالة صحوة ويقظته. كما أن الأفكار والرغبات وآثار الأعمال، وما يُلقَّن عن الغير من صفوف الإيحاء قد تكون مادة الأحلام وأشكالها

ومن هنا تنشأ الفكرة بأن الأحلام ما هي إلا صحيفة أخرى من صفحات حياتنا الكثيرة، ومظهر آخر من مظاهر فعالية النفس

ويهمنا هنا أن نعرف أن الحلم - إذا حاولنا استعادته عند استيقاظنا من النوم - كثيرا ما يمحى منه أثر أشياء كبيرة الأهمية، ويحل محلها عند اليقظة عمل آخر للرقيب، بواسطته يُنسى الجزء المكبوت من الحلم

وإذا ترسّم الحالم ارتباط عدة أحلام فلا ريب في أنه سيجد أنها جميعاً تتجه إلى نقطة واحدة في حياته، هي مركز الكبت، نقطة البداية لميله الحالي

هذى هي الأحلام التي تتعلق باللاشعور، والتي تمدنا بالدليل على تناقضنا. إلا أن هناك عناصر معروفة تنشأ عنها الأحلام العادية هي:

1 - التأثيرات التي تأتينا من الداخل كامتلاء المعدة، وسوء الهضم، أو عدم انتظام الدورة الدموية وارتباك المخ. وهذه كلها أو بعضها يسبب في الغالب أحلاماً مزعجة نسميها بالكابوس

2 - الذكريات المحفوظة في أعماق اللاشعور. بيد أن هذه الذكريات تتولد منها أفكار أخرى تناسبها فيتوسع النطاق فيبني صروح أحلام شامخة 3 - التهيج والانفعال النفسي الذي ينعكس إلى مراكز الدماغ فيجعله في حالة عمل متواصل، ويحصل العمل غالباً في تداعي الأفكار، وهي توضح لنا سبب تنوع الأحلام واختلاف مناظرها وحادثاتها

ومن تلك العناصر نرى أن أكثر الأحلام مصدرها الحادثات اليومية الواقعة في حياتنا. وقد تتركب هذه الحادثات فتنشأ منها قصة أو واقعة غريبة

وللأحلام نوع آخر لا يقل رتبة عن الإلهام ندع الكلام فيه لمقال تال.

عبد العزيز جادو