مجلة الرسالة/العدد 574/العلم والعلماء
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 574 العلم والعلماء [[مؤلف:|]] |
الأخذ عن أوربا ← |
بتاريخ: 03 - 07 - 1944 |
في رعاية الإسلام والعربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
إن الذين يعيشون في حماية القانون وحراسة الشرطة ورقابة القضاء، الذين يعيشون في الحضر بين جدرانه وأبوابه وشوارعه ودروبه، يحسبون أن جماعة لا يسيطر عليها سلطان قاهر ولا يقهرها قانون نافذ ولا يقوم بين أفرادها قوامون من الشرط والجنود هي جماعة مسلمة للقتال والنهاب، يبطش قويها بضعيفها، ويفتك المسلح فيها بالأعزل، ولكنا نرى جماعات بادية تعدل بينها سنن العيش، وتمسك بها دون العدوان الرغبة والرهبة، ويقوم عليها عرف عادل مسلط. وربما يظفر فيها الفرد من الحرية ورعاية الحق والواجب بما لا يظفر به إنسان الحضر، ويقيده العرف بأكثر مما تقيد الحضري سلاسل القانون
وكذلكم يحسب الذين يعيشون في هذا العصر، يرون ضروبا من دور التعليم تتداول الناشئ منذ الطفولة إلى أن يبلغ الثلاثين أو يجاوزها، ويرون وزارات للمعارف تسيطر وتدبر وتنفق، ويبصرون سننا شتى ونظما مختلفة لتلقين العلم وتفقيه المتعلم، ويسمعون دوياً مستمراً في التعليم والتربية، وجدالا متماديا في وضع القوانين ونقضها وخط الخطط وتغييرها - يحسب الذين يشهدون هذا ويسمعونه أن جماعة ليس فيها وزارة للمعارف تضع القوانين وتنشئ المعاهد وتنفق الأموال ليس لها من العلم نصيب، ولكنا نرى في تاريخ الأمم كلفا بالعلم ودأباً عليه وتبحراً فيه. ونقرأ عن العلماء النابغين في كل علم والصناع الماهرين في كل صنعة، ولم يقم على هذه العلوم والصناعات وزارة للمعارف ولا حشر لها ما نعهد اليوم من الموظفين والقوانين والأموال والأعمال
وفي تاريخ الإسلام ما يحير القارئ من الحث على العلم والدأب على تحصيله والولع به واحتمال المشقة في سبيله والرحلة إلى الأقطار البعيدة من أجله، والتنافس فيه، فقد جاء الإسلام داعياً إلى العلم حاثاً على النظر في ملكوت السموات والأرض وسمي دستوره الكتاب والقرآن، وكانت أول كلمة نزلت من القرآن (اقرأ). وحمل العرب أمانة الإسلام، ورعوا سنن القرآن، فاجتمعت الأمم في رعايتهم على حب العلم وطلبه، والكد فيه والدأب عليه حتى صار العلم الإسلامي كله كمدرسة واحدة يجد معلموها ومتعلموها في التعلي والتعلم. ويقوم عليها خلفاء وأمراء وكبراء يبذلون من جاههم ومالهم لأولى العلم. وقد بلغ الخلفاء بالعلم والعلماء منزلة التقديس. وأثرت عنهم في هذا سير لا يعرف الزمان نظائرها ولا يعي التاريخ أشباهها. هذا هرون الرشيد يصب الماء على يد عالم ضرير ويقول إنه يفعله إكراما للعلم، وولداه الأمين والمأمون يتنافسان في تقديم النعلين لأستاذهما الكسائي. والخليفة المعتضد بالله، كان يوما يطوف في بستانه وهو آخذ بيد ثابت بن قرة الحراني، فجذبها دفعة وخلاها، فقال ثابت ما بدا يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت يدي فوق يديك والعلم يعلى ولا يعلى عليه
وقد سار الخلفاء الأمويون والعباسيون والفاطميون وملوك بني أمية بالأندلس وأمراء العرب جميعاً، ثم الملوك المسلمون من بعدهم على سنن واحدة في نشر العلم والحث عليه وإعزاز أهله والبذل لهم، وبناء المدارس وخزائن الكتب وبلغوا في هذا غاية ليس وراءها غايات
وما ظنك بأمة تدون القرآن ثم لا تعتمد على مصاحفه وحدها فتحفظه وتتلقاه بالرواية الشفوية لا تشذ منه كلمة ولا حرف، ثم لا تكتفي بهذا بل تروي طرائق النطق به على اختلاف اللهجات، فتحفظ للكلمات طرقا للأداء تخلدها في الصحف وتحفظها بالمشافهة على مر العصور؟ ثم ما ظنك بجماعة جمعت من أفواه الناس في المشرق والمغرب أحاديث الرسول وقد مضت عليها عشرات السنين غير مدونة. بهذه الهمة سار المسلمون في هداية شرعة الإسلام الواسعة، وأخوة الإسلام الجامعة، وفي رعاية العرب الأحرار وملوكهم الأخيار
طلب المسلمون العلوم الدينية واللغوية والعقلية في كل مكان، بكل الوسائل وعلى كل الأحوال، وكانت البلاد الإسلامية كالبلد الواحد يرحل طلاب العلم فيه والعلماء من جهة إلى أخرى ويقطعون الفيافي البعيدة كما ينتقل أهل القطر الواحد من جانب فيه إلى جانب، حتى صارت الرحلة سنة بين العلماء، فمن لا يرحل ولا يرحل إليه لا ينال بينهم مكانة عالية. وكم تغلغل علماء اللغة والأدب في البوادي يتلقون عن الأعراب جيلاً بعد جيل
وحسبنا مما تفيض به أخبار العلماء هذه المثل:
الحافظ ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق المتوفى سنة 571 طلب العلم في مكة، والكوفة، وبغداد، وأصبهان، ومرو الشاهجان، ونيسابور، وهراة، وسرخس، وأبيورد، وطوس، والري، وزنجان، وقد عد شيوخه ألفا وثمانمائة، منهم نيف وثمانون امرأة
والخطيب التبريزي اللغوي الأديب. يقول فيه ابن خلكان: (وكان سبب توجهه إلى أبي العلاء المعري أنه حصلت له نسخة من كتاب التهذيب في اللغة تأليف أبي منصور الأزهر في عدة مجلات لطاف. وأراد تحقيق ما فيها وأخذها عن رجل عالم باللغة فدل على المعري. فجعل الكتاب في مخلاة وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة. ولم يكن له ما يستأجر به مركوباً فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل. وهي ببعض الوقوف ببغداد، وإذا رآها من لا يعرف صورة الحال ظن أنها غريقة وليس بها سوى عرق الخطيب)
وأبو القاسم سليمان بن مطر اللخمي الطبراني الشامي المتوفى سنة 360، رحل في طلب الحديث إلى العراق والحجاز واليمن ومصر والجزيرة الفراتية، ولبث في الرحلة ثلاثاً وثلاثين سنة وعدد شيوخه ألف
وتاج الإسلام أبو سعد التميمي السمعاني نقل ابن خلكان أنه وصل في طلب الحديث إلى شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها وسافر إلى ما وراء النهر وخرسان عدة دفعات، وإلى قومس والري وأصبهان وهمدان وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل والجزيرة والشام وغيرها. . . وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ
وانظر هذا المثل في الحرص على العلم إلى النفس الأخير. روى ياقوت عن بعض العلماء قال: دخلت على أبي الريحان البيروني وهو يجود بنفسه قد حشرج نفسه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً مسألة كذا وكذا؟ فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة؟ قال لي يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرا من أن أخليها وأنا جاهل بها
غير العلماء الذين رحلوا لرؤية البلاد والأمم ووصفها عن عيان، كالمسعودي الذي رحل إلى بلاد الفرس والهند وأطراف الصين وبلاد السودان وزنجبار، فضلا عن البلاد العربية وقال:
نطوف آفاق البلاد فتارة ... إلى شرقها الأقصى وطورا إلى الغرب
وغير الراحلين المعروفين كابن جبير وابن بطوطة وابن سعيد
ولم يكونوا في هذا الجمع كحاطب ليل بل كانت سنتهم في أخذ العلم التثبت والإسناد.
التزموا هذين في الحديث ثم أشاعوهما في العلوم الأخرى فصار ديدنا لكل عالم ومتعلم. وكان من تثبتهم أنهم لم يكتفوا بما يكتب وحده وسموا من يعتمد عليه صحفياً. والتزموا السماع من المشايخ الموثوق بهم والقراءة عليهم، والاستجارة منهم، فلم تقبل رواية شفوية أو مكتوبة إلا بسند مقبول ولم تقبل الكتب إلا بنسب يصلها بمؤلفيها. لم يقصروا عنايتهم على كتب الدين، بل نالت كتب الأخبار التي لم تمت إلى الدين بصلة أو التي يتحرج منها المتدينون كأخبار الشعراء والمغنين، كثيرا من عنايتهم. وحسبنا كتاب الأغاني. وكثيراً ما نجد دواوين الشعراء في نسخ عليها سماع يصحح نسبتها إلى أصحابها. وقد وضعوا للسماع أصولاً التزموها واهتدوا بها. ومن عجيب ما روى من التثبت في الرواية أن أبا علي القالي البغدادي الذي رحل إلى الأندلس وأدب الحكم المستنصر ولي عهد عبد الرحمن الناصر، أعار تلميذه الحكم كتابا من كتبه فأبقاه الحكم عنده مدة طويلة فلما رده إلى أستاذه أسقط الرواية به وقال: لا آمن من أن يكون لحقه تغيير وهو عند الحكم
هذا وقد كان التعليم في أكثر مقاصده يراد به وجه الله وحفظ الدين وما يتصل به أو تكميل النفس، والاستجابة لنزوعها إلى المعرفة. ولم يكن موصولاً بالمناصب والمرتبات كما نرى في هذا العهد. لم يكن أهل العلم مضيعين ولم يكونوا محرومين من الجزاء الحسن، ولكن لم يكن طلب العلم مرتبطا بالشهادات والدرجات ارتباطه في هذا العصر، بل اختلف علماؤنا في جواز أخذ الأجر على التعليم، واستقبحوا أن يطلب العلم للمال والجاه ونحوهما
وسنذكر بعد ما قاله بعض العلماء حينما أنشئت المدارس ورتبت فيها الوظائف لطلاب العلم
دور العلم
كان طلب العلم في المساجد وفي دور العلماء أحيانا، وكانت خزائن الكتب مباءة درس كذلك. ثم أنشئت مدارس للتعليم خاصة
فأما المساجد فقد كانت دور علم في البلاد الإسلامية على اختلافهما في هذا ولاسيما المساجد الجامعة. فالجامع العتيق في مصر وهو المعروف اليوم بجامع عمرو كانت فيه دراسة متصلة. وكان به في بعض العصور أربعون حلقة للدرس لا تبرحه، وبهذا الجامع درس الشافعي وتلاميذه، وبه أملي الطبري ديوان الطرماح. وفيه نشئ أبو تمام، وغشى حلقاته المتنبي وجامع ابن طولون وهو أكبر جوامع القاهرة وأقدمها كانت تدرس به العلوم الدينية كما يدرس الطب والميقات، وكذلك كان الجامع الأموي. قال ابن جبير: (وقد أجري فيه كل يوم لأكثر من خمسمائة إنسان). وكذلك كان جامع قرطبة في الأندلس وجامع الزهراء، وفيه أملي القالي كتاب الأمالي. ولا تزال المساجد حتى اليوم موضع درس
وأعظم المدارس صيتا في التعليم في عصرنا الجامع الأزهر بمصر، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين بفاس
ثم أنشئت دور للتعليم خاصة، من أقدمها بيت الحكمة الذي بناه الرشيد فيما يظهر، وكان للترجمة والتعليم. روى القفطي في أخبار بني موسى بن شاكر أن المأمون أوصى بهم أسحق ابن إبراهيم المصيصي وأثبتهم مع يحيى بن أبي منصور في بيت الحكمة. . . إلى أن قال: فخرج بني موسى بن شاكر نهاية في علومهم، وكان أكبرهم وأجلهم أبو جعفر محمد، وكان وافر الحظ من الهندسة والنجوم عالما بأقليدس والمجسطي وجميع كتب النجوم والهندسة والعدد والمنطق
وفي القرن الثالث الهجري أراد المعتضد بالله العباسي أن يبني ببغداد جامعة. روى المقريزي أن الخليفة المعتضد لما أراد بناء قصره في الشماسية ببغداد استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد، فسئل عن ذلك فذكر أنه يريد ليبني فيه دوراً ومساكن ومقاصير يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كل من اختار علماً أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه، ولم يكن رأي المعتضد عجبا في ذلك العصر الذي أولع فيه الناس بالعلم ومهدت وسائله، ولم يكن جديداً فيه إلا جمع الناس في مكان واحد
ثم أنشئت جامعة القاهرة التي سميت دار العلم في القرن الرابع. أنشأها الحاكم بأمر الله، وفتحت للناس يوم السبت عاشر جمادي الآخر سنة 395، وحملت الكتب إليها للنسخ والقراءة، ودرس بها القراء والنحويون والأطباء والمنجمون ودرس الحساب والمنطق
قال المقريزي: وأباح ذلك كله للناس على اختلاف طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها. . . وحضرها الناس على طبقاتهم، فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج إليه الناس من الحبر والأقلام والورق والمحابر
(للحديث بقية)
عبد الوهاب عزام