مجلة الرسالة/العدد 573/على ذكر رسائل التعليقات للرصافي
→ تعليم الجنسين | مجلة الرسالة - العدد 573 على ذكر رسائل التعليقات للرصافي [[مؤلف:|]] |
بحث نفسي عملي ← |
بتاريخ: 26 - 06 - 1944 |
دليل علمي يدحض مذهب
وحدة الوجود
للأستاذ عبد المنعم خلاف
لخص الأستاذ الفاضل دريني خشبة مقولات احتواها كتاب أصدره الشاعر العراقي معروف الرصافي تدور حول الإيمان بوحدة الوجود وحلول الخالق في المخلوق
وكنت اهتديت إلى دليل علمي قاطع يدحض هذا المذهب ويلقي ضوءاً جديداً أمام العقل البشري الموغل في بحث علاقة الله بالكون حتى لا ينزلق إلى الأخذ به. . . اهتديت إليه في 5 - 12 - 1940 وسطرته في سجل خطراتي اليومية. وهممت بنشره في مناسبات عدة أثناء مقالاتي عن الإيمان بالإنسان، ولكن أراد الله أن أطرح هذا الدليل في مطارح البحث والجدل الذي سيثيره حتما كتاب الرصافي. فهذا هو أنسب الأوقات لانصباب هذا الدليل الجديد على ذلك المذهب القديم الرجعي الذي يرفع رأسه على قلم شاعر يريد أن يستخدم القرآن ورسول الإسلام ستاراً ودريئة ويزج بهما في الدعوة إلى مذهبه. مع أن القرآن وبيان رسول الإسلام ليس أوضح منهما في تبيين الحدود بين الله والطبيعة
وكنت وما أزال داعياً ابتداء التفكير في الطبيعة وما وراء الطبيعة على ضوء التأمل فيما استطاعت قوة الخلق والمحاكاة والإنشاء المودعة في الإنسان أن تصنعه وأن تسخره؛ لأن ما أنشأه الإنسان وما وصل إليه من أسرار الطبيعة جدير أن يغير منطقه التجريدي القديم ونظرته للعلاقة بين الله والطبيعة
ولكن مع الأسف لا تزال ظلال التجريدات والفروض القديمة تسيطر على عقول كثير من الباحثين الشرقيين في مسائل الوجود، ولا يزالون خاضعين في تفكيرهم الديني والفلسفي لرجال المدرسة القديمة التي لم تتصل بأصول الثقافة العلمية الحديثة التي تحتك أيدي العلماء فيها بيد الله وتأخذ منها أسرار الخلق والتكوين، ولو أن عقلا كعقل الرصافي، أو كعقل الزهاوي اصطنع ذلك الأسلوب الذي ندعو إليه، وهو أسلوب تجديد النظر في الوجود على أساس أسرار الإنسان الحالية، إذن ما وجدوا ضرورة إلى اعتناق مذهب وحدة الوجود. . . ولكنهما عقلان متأثران بالمباحث الصوفية وفلسفاتها القديمة التي أوغلت في بحث قد أثبتت الحياة أنه لا طائل وراءه بل وراءه كل الهلاك والبلبلة والضياع والاختلاط
ولقد غزا هذا المذهب عقول بعض الفلاسفة والصوفية الذين آفتهم أنهم طلبوا أن يدركوا الله وما وراء الطبيعة بالحواس التي يدركون بها الطبيعة وبالعقل البشري المخلوق لأدراك النسب بين كائنات الطبيعة وحدها أولا. فلما عجزوا عن رؤيته تعالى وإدراكه - كما هو المنتظر - ذهبوا إلى أنه لا بد أن يكون الله هو هذا الوجود الظاهر، وأنه يحل فيه وليس له وجود منفصل عنه، وهكذا تجد الوثنية التي حاربتها الأديان والفلسفات السامية سنداً عظيماً من هذه الفلسفة التي تعيش في ظلال هذا المذهب
وهكذا تتحول كل الطبيعة إلى أصنامٍ آلهةٍ!
وهكذا تعود الحجارة والبقر والخنفسان والخنازير معبودات إلهية!. . .
وبدهي أن النظرة الأولى تهدي إلى أن الله غير الطبيعة. وأن هناك انفصالا بين الخالق والمخلوق
ولكن النظرة البديهية هذه كثيراً ما يطمسها التأمل الذي لا يقنع بالظاهر الواضح، ولا يرضيه الوقوف عندما يوحيه المنطق العملي، بل يلذ له أن يلجأ إلى الفروض ويحاكم فكرة الله إليها. . . ولا شك أن هذا إيغال مهلك لا طائل وراءه إلا الضياع والبلبلة
وقد ذهبت بي نظراتي في النفس والوجود إلى أن الوقوف على سطح الوجود هو المنطق الذي لا نملك غيره ما دمنا محدودين ضئيلين في أرض ضئيلة الحجم جداً بالنسبة إلى الوجود الأعظم الذي نرى منه بعض سطحه حين نسرح أبصارنا في السماء. . . فكل إيغال وراء ما توحيه البداهة يكون وراء الشرود والجموح والبلبلة. فالإحساس بانفصال النفس عن الكون وانفصال الله عن الكون تبعاً لذلك هو تلك النظرة البديهية التي لا نملك غيرها إن أردنا أن نسير مع المنطق العملي للحياة. وأن نحل أكثر مشكلات الوجود، وأن يطرد تقدمنا البشري وأن تحدد المسئوليات والتبعات، ولا تختلط الحدود ولا تسقط التكليفات ولا تهدر قيم الأشياء
أما اعتناق مذهب (وحدة الوجود) فمعناه الاختلاط والتشويش والفوضى والتباس المقاصد وذهاب الاختيار بين الخير والشر وبديهي أن الحياة الاجتماعية وصلاحها هي الفاصل في الأمور الجدلية، أو ينبغي أن تكون كذلك. والحياة الاجتماعية تأبى هذا المذهب كل الإباء ولا تحتمله لحظة، لأنه أعظم أسباب انهيارها ودمارها! فإن الإنسان سيكون بهذا المذهب إله نفسه لأنه جزء من الخالق. . . وسيكون الآلهة بعدد المخلوقات أو بعد الناس على أقل تقدير!
وإن الحياة الحالية لم تحتمل شطط الإنسان وجبروته ومتابعة هواه، وهو يعتقد أنه مخلوق تافه مسئول له خالق سيحاسبه حساباً عسيراً. . . فما بالكم به حين يعتقد في نفسه أنه إله أو جزء من الإله!
لقد ضرب الإنسان العالم بالأضغان والمدمرات وأشعل الحياة وهو طفل عاجز قاصر. . . فما بالكم به إذا حسب أن إرادة نفسه هي من إرادة الكون كله؟!
إن الأمر أعظم مما يتصور هؤلاء المفلسفون المأفوكون! وإن الحياة العقلية لم تقبل أن يكون للكون آلهة متعددة من العقلاء. . . فكيف بهم إذا كانوا مجانين!
فاللهم اهد الرصافي في شيخوخته ومرضه إلى منطق البداهة حتى يعود إليك على دين الفطرة التي يلقاك بها الفطريون المؤمنون الذين يتركون لك ما لم يستطيعوا إدراكه في حياتهم المحدودة!
هذا جدل يعتمد على النظر وتقليب المسألة أمام المنطق التجريدي الذي يصطنعه أصحاب المذهب، ويعتمد أيضاً على التحاكم في هذه المسألة إلى المنطق العملي الذي توحيه الحياة الاجتماعية
ولو كان الأمر مقصوراً على هذا الأسلوب لوجد أصحاب هذا المذهب مجالا للمناقشة ورد القول وتشقيق الجدل، وما كان طمعنا في إفحامهم إلا بقدر
ولكن عمدتنا في دحض هذا المذهب حجة بالغة من العلم الحديث صاحب المعجزات التي تخضع لها جميع أعناق البشر، ولا يستطيع أن يماري فيها الممارون من صناع الكلام وحاذقي الجدل
حجة يبعثها التأمل بيقظة في أسرار الأعمال الإنسانية العظيمة في الطبيعة: تلك الأعمال التي استحالت إلى آيات من آيات الكون يمر عليها الناس وهم عنها معرضون، كما يفعلون مع آيات الله في الآفاق. . .
وهي تسلُّط العقل البشري (باللاسلكي) وتحكمه به في الآلات وإدارتها ورصدها من بعد شاسع، وانفصال تام بين العقل الإنساني والآلة. . . فقد رأينا (ماركوني) يضئ مكاناً في استراليا وهو في أوربا. . . ورأينا الدبابات تزحف والطائرات تطير وتحارب وليس فيها سائقون. . . وإنما يديرونها ويتحكمون في تحريكها من بعد
ورأينا (رادار) تلك العين السحرية العجيبة التي حدثتنا مجلة (المختار) عن التقائها أو التقاء الإنسان بواسطتها بالأحجام على مئات وآلاف من الأميال. ومع أنها في العهد الباكر من اكتشافها والانتفاع بها، فقد انتفعت بها إنجلترا في مقاومة الغارات الألمانية في معركة إنجلترا
ورأينا أن ما يحدث لتلك الآلات ينتقل إلى ذهن الإنسان الراصد لها في لحظة. فهو معها بعلمه وقدرته وإرادته يصرفها كيف شاء مع الانفصال التام والبعد الشاسع بينه وبينها. وهو يكونها ويركبها ويجعل فيها عقلاً وروحاً تحركها وتصرفها. وما دام قد أعطاها قوانينها فلا لزوم لوجوده فيها والمكث بجانبها أو الامتزاج بها
أفلا تقاس على هذا الأساس علاقة الله بالكائنات؟ وتحل بذلك تلك المشكلة التي خلقتها عقول من لم يروا لهم سبيلاً غير اعتناق مذهب وحدة الوجود؟ بلى! فإن ما يقدر عليه الله لا يذكر بجانبه ما يقدر عليه هذا الإنسان الضئيل العاجز. ولا شك أن من كمال الإنسان أن يقدر على التصرف في (مخلوقاته) من بعد، وأن يرصدها ويرقبها ويوجه إرادته إليها وهو متحرر منها منفصل عنها لا يشعر بضرورة الاتصال بها والتقيد بحيزها الضيق. . . فأولى برب الكمال المطلق والقدرة المطلقة والإرادة القاهرة أن لا يكون عليه شئ لسلطان وألا يتقيد بقيد
وإن في ذلك آية يرسلها الله من التأمل في أسرار الإنسان ووحي أعماله في الأرض. . . وسبحان الله! لقد أقام من الإنسان دليلاً ووسيلة لحل كثير من العقد والمشكلات، وخلقه صورة مقربة لبعض شؤونه الجليلة التي يتعجل المتعجلون في الحكم عليها بعقلهم القاصر وفي مدى عمرهم المحدود الذي لا يقاس إلى الأبد الكبير الذي يظهر الله فيه شؤون الخلق والأمر في أدوارها وأوانها الموزون المقدور و (لا يعجل لعجلة أحدكم) كما قال (محمد) سيد الأصفياء العارفين بشؤون الله! وقد قلت مرة: إن الحياة لم تنته ولم يبد أنها تقرب من نهايتها التي تتضح بها غاياتها وتنضج ثمراتها. فلا يليق بالفيلسوف أن يحكم حكمه النهائي عليها قبل اكتشاف غاياتها. وأولى به أن يرصد الأدلة التي تلدها الأيام وتضعها على طريق الأحياء يوماً فيوماً لترشد السالكين وتشير لهم إلى الأمام
ومنذ أن اهتدى الإنسان إلى وجود القوة التي يظهر أنها (مادة) الطبيعة الأولى وهي الكهرباء، وبعد أن شرع يدس يده وفكره في هذه القوة الخفية ويستخدمها ويحرك بها ما يشكله من المادة. ومنذ أن ظن أنه سيصل إلى أن يكثف هذه القوة بدرجات مختلفة تحت ضغوط معينة ليخلق منها العناصر المادية المتبلورة الثلاثة والتسعين. . . منذ ذلك كله، ينبغي للمكفرين التجريديين أن يتربصوا أفعاله وكشوفه ليبنوا عليها أحكامهم ومنطقهم وأن يقصدوا في تلك الفلسفات الفرضية والشطحات الصوفية التي لا نهاية لها، لأنها (ذاتية) وليست (موضوعية) موضوعها ذلك الكون المادي العجيب الذي استمددنا منه عقولنا وأحكامنا. وأن ينادوا معنا إلى الصوفية المادية التي تعجب وتتعبد بالفكر في الطبيعة الظاهرة وأعمال الله وأعمال الإنسان فيها، وتتعلق بالمحسوس قبل المتعلق بغيره حتى تفرغ منه قبل نهاية رحلتها على الأرض، ثم تلتفت - إن قدر لها البقاء على الأرض بعد هذا الدور - إلى ما وراء الطبيعة لتبحث فيه وتحكم عليه
عبد المنعم خلاف