2 - التناقض «مجلة الرسالة/العدد 572/التناقض» في كتاب النثر الفني للأستاذ محمد أحمد الغمراوي إن الأمثلة التي ضربناها لنناقض صاحب الكتاب لا تمثل كل مظاهر فساد التفكير الفاشي في الكتاب، وليست هي كل أمثلة التناقض فيه على الرغم من أن أكثر الكتاب تراجم ونصوص في كثير منها طول، وهذه وتلك تقي بطبيعتها صاحب الكتاب أن يظهر عيوب تفكيره اللهم إلا إذا تطوع بالتعليق فمن أمثلة وقوعه في التناقض حين يأخذ في التعليق وهو يترجم لرجال القرن الرابع ما وقع في كلامه على ابن شهيد؛ فقد روى لابن شهيد رأياً يناقض صريح رأي زكي مبارك في الأسلوب، وأقره على ذلك الرأي فهدم بذلك رأي نفسه وتناقض من حيث لا يدري. روى له في صفحة 51 من الجزء الثاني قوله: (إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيب النسيب، ومازج القريب القريب، طابت الألفة وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك حسنت المناظر وطابت المخابر) إلى آخر ما روى له. ثم علق عليه بقوله: (وهذا كلام جيد، وأجوده ما نص فيه على أن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام؛ فإذا جاور النسيب النسيب ومازج القريب القريب طابت الألفة وحسنت الصحبة) وليس لتعليقه هذا معنى إلا أنه يقر للأسلوب بما أنكره مراراً من قبل. فإن تناسب الحروف من صميم الأسلوب أو هو الأسلوب صرفاً، لأنه يتعلق باللفظ والصيغة دون المعنى. فهذا نص لا يستطيع صاحب الكتاب تمحلاً ولا تأويلاً له، يضاف إلى ما ناقض به نفسه سابقاً في أمر الأسلوب، وينقض عرضاً كل ما كتب عن أسلوب القرآن، لأن القران الكريم هو المثل الأعلى لهذه الظاهرة البلاغية التي نبه إليها ابن شهيد، وأقرها واستجادها زكي مبارك في غفلة من ذاكرته وهواه. على أن هناك نصوصاً أخرى له غير التي سبق ذكرها ينقض بها مذهب نفسه في الأسلوب وإنكار مكانته قد تأتي لبعضها مناسبة فنذكره ومما جاء فيه صاحب الكتاب بقول مختلف استقامة ألسنة الأعراب. فهو يقول في صفحة 55 من الجزء الأول: (وأرى من المضحك أن يظن أن العرب لم ينتبهوا إلى وقوع اللحن في لغتهم إلا بعد الإسلام، وأن اتصال العرب بالأعاجم هو الذي رماهم باللحن، كأن لغة العرب بدع من اللغات لا يلحقها تغير ولا تبدل، وذلك رأي واضح البطلان) وهو هنا يخلط بين اللحن وبين التغير الطبيعي الذي يطرأ على اللغة بالتدريج في الدهر الطويل والذي نشأت وتنشأ عنه اللهجات، والذي لا يمكن أن يعد من اللحن بحال. لكن لا علينا، فنحن هنا لا ننظر في صحة نتائجه، ولكن في اتساق تفكيره؛ إذ النتائج قد يرجع بطلانها إلى فساد المقدمات مع اتساق التفكير أو إلى فساد التفكير مع صحة المقدمات، كما قد يرجع طبعاً إلى فسادهما معاً. فلتكن مقدمات صاحب الكتاب ما تكون أفهو متسق التفكير؟ لقد أشار إلى هذه النقطة في موضعين آخرين على الأقل. أشار إليها عرضاً في صفحة 58 من الجزء الأول حين أراد توكيد تأثر نثر الصدر الأول بالمدنيات الأجنبية. قال: (ولا عبرة بما عرف عن فريق من العرب من الحرص على تربية أبنائهم تربية عربية صرفة، فإن هذا لم يكن يراد به صرف الشباب العربي عن فهم المدنيات الأجنبية، وإنما كان يراد به حمايته من العجمة التي كانت تعيب الأرستقراطية العربية، وتجعل صاحبها موضع السخرية بين معاصريه) وهو بهذا يشير طبعاً إلى ما هو معروف عن العصر الأموي من إرسال بعض الأمراء والخلفاء أبناءهم إلى البادية لينشئوا فيها على استقامة اللسان والسلامة من اللحن. لكن اقرأ الآن له من صفحة 21 من الجزء الثاني: (فإننا نرتاب في سلامة الأعراب من اللحن والغلط، ونرى أنهم قد يلحنون كما يلحن المولدون)! إذن ففيم كان إرسال الأبناء إلى البادية حماية لهم من العجمة التي كانت تعيب الأرستقراطية العربية؟ لقد كان ذلك عبثاً إن صح رأي صاحب الكتاب في أن الأعراب قد يلحنون كما يلحن المولدون. ولو وقف قول صاحب الكتاب عند هذا لكان الخلف خفياً بين طرفي أقواله الثلاثة وبين أوسطها، ولجاز أن يلتمس له شئ من عذر، لكنه - وهذا موضع العجب - علق على قوله الثالث في الهامش بما يأتي: (ويجب أن نذكر أن الشعر الجاهلي والأموي كان يجري على قواعد من النحو لم تأخذ صيغة نهائية في التحديد والترتيب، كما اتفق ذلك في العصر العباسي؛ فأغلاط الجاهليين والأمويين ليست أغلاطاً بالقياس إلى لغتهم هم، وإنما هي أغلاط بالإضافة إلى اللغة التي حدد قواعدها النحويون)! إذن فلم رميهم باللحن حين لا لحن ما داموا كانوا ينطقون طبق لغتهم هم، وافقت نحو العصر العباسي أو خالفته؟ إن هذا الرجل لا يدري أنه بقوله هذا قد نفى تطرق اللحن والعجمة إلى الأمويين في الوقت الذي ينسب فيه الجاهليين إلى اللحن في صلب كتابه، ولا يدري أنه بجعله الشعر الجاهلي والأموي يجري على نحو رجراج كالذي يدعى ويتوهم يصطدم بالسبب الذي من أجله زعم أن نشأة علم النحو قديمة في الجاهلية، ألا هو جرى القرآن (على نمط واحد في أوضاعه النحوية لا يختلف في ذلك إلا باختلاف رواته من القبائل المختلفة) إذ كيف يمكن أن يجري القرآن على نحو واحد ولا يجري الشعر؟ وإذا كان القرآن لا يختلف نحوه إلا باختلاف القبائل فلم لا يكون الشعر أيضاً كذلك؟ إن الرجل يعترف من حيث لا يدري باطراد النحو في لغة كل قبيلة ما دام اختلافه من اختلاف القبائل، ويعترف بأن اللغة في جملتها تجري على نحو واحد ما دامت لا تختلف إلا في المواطن اليسيرة التي تختلف فيها الرواية في القرآن حسب اختلاف القبائل عند هذا الرجل، وإذن فلا معنى لترجرج نحو اللغة في العصر الأموي وانعقاده في العصر العباسي إلا أن هذا الرجل أراد أن يأتي بجديد يخالف به علماء العربية فوقع في خلف بعد خلف في النقطة الواحدة وفي العبارة الواحدة، سنة الله في الباطل وأهله على أنه لا حد فيما يظهر لباطل هذا الرجل، ولا نهاية لتخبطه؛ فقد تعرض للقرآن مرة أخرى حين ترجم لابن فارس وحاول نقد آرائه، لكنه ترقى في هذه المرة فاقترح أن يفرد للقرآن نحو خاص! إي والله! واقرأ له إن شئت من هامش صفحة 42 من الجزء الثاني: (والقرآن يجب أن يفرد له نحو خاص، وكذلك الأدب الجاهلي والأموي، ولغات العالم كله تعترف بما يسمى (النحو التاريخي) ونحن في حاجة إلى ذلك النحو لتوجيه بعض ما يبدو شاذاً من تعابير القرآن)! أفكان علماء العربية ينتظرون صاحب النثر الفني حتى يجئ بذلك النحو الخاص لتوجيه (بعض ما يبدو شاذاً من تعابير القرآن)؟ وفيم كانت علوم العربية كلها إن لم تكن لفهم القرآن وتبيان ما يبدو لهذا الرجل شذوذاً في القرآن؟ وشذوذاً عما ذا؟ عن نحو لغة قريش وهو معترف بأن القرآن يجري على نمط واحد في أوضاعه النحوية إلا إذا كان الراوي من قبيلة غير قريش؟ أم عن نحو لغات القبائل الأخرى وهو يعترف أن لغة القرآن إنما هي لغة قريش؟ فما الحاجة إلى نحو جديد إذا كان القرآن يجري - وكان الأدب الجاهلي والأموي يجري - إما على نحو لغة قريش أو على نحو لغة قبيلة أخرى في المواطن القليلة التي تختلف فيها القبائل عن لغة قريش؟ أمن أجل وجود نحو تاريخي للغات العالم، يريد أن يوجد نحواً تاريخياً للقرآن؟ إنه إذن لا يفهم ما النحو التاريخي ولا لماذا وجد في لغات العالم الحاضرة تغيرت بالتدريج عما كانت عليه ولو من قرون قليلة، فلغة شاكسبير مثلاً غير لغة ماكولي وولز، ولا أحسب لغة بوالو وراسين عين لغة هوجو وأناتول فرانس. والنحو التاريخي للإنجليزية أو الفرنسية يبين الاختلاف الذي طرأ فيما بين ذلك على الإنجليزية أو الفرنسية، فأي شبه بين عربية القرآن والأدب الجاهلي والأموي وبين الإنجليزية أو الفرنسية من هذه الناحية؟ لو كان هذا الرجل يكتب عن فهم لا عن تقليد ببغائي، لأدرك أن النحو التاريخي للغة القرآن هو نحو نشأة العدنانية عن أصلها في ماضي العربية السحيق، وهذا لو أمكن الوصول إليه لا يفسر ما يبدو لهذا الرجل شذوذاً في القرآن، لأنه لا شذوذ هناك إلا إذا كان نحو الجاهلي الأولى هو الأصل وإذن يكون أكثر نحو العربية المعروف شذوذاً، كما إن أكثر نحو الإنجليزية أو الفرنسية الحاضرة شذوذ بالإضافة إلى نحوهما في الماضي السحيق. فصاحب النثر الفني يكتب من غير علم ولا ترو ولا تفكير سديد، أو هو رجل راكب في البحث هواه (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى الله) محمد أحمد الغمراوي