مجلة الرسالة/العدد 570/إلى الأستاذ توفيق الحكيم
→ مصر الإسلامية | مجلة الرسالة - العدد 570 إلى الأستاذ توفيق الحكيم [[مؤلف:|]] |
رسائل التعليقات للرصافي ← |
بتاريخ: 05 - 06 - 1944 |
الفن والإصلاح
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كلما ثار الجدل في مصر حور تقدير الفن وإطلاق حريته أو تقييدها بقيود صالح الجماعة والمحافظة على دعائم حياتها، استحضرت في نفسي صوراً من الطبيعة ومن حياة الأمم التي تمثل النزعتين لأجد القول الفصل الذي يقرب نفسي من الصواب؛ فإني أرتاح دائماً إلى أحاديث الطبيعة الأستاذة، وإلى أحكام الحياة الصادقة الناجحة، وأتخذهما أساسين لصحة الأفكار والأعمال غير عابئ بعد ذلك بما يرسله المنطق اللفظي والجدل النظري
وأنا الآن بسبيل تحكيم هذين الأساسين في القضية التي أثارها الأستاذ الكبير أحمد أمين بك، وجادلها وعلق عليها الكاتب الفنان توفيق الحكيم، هي: الفن للفن؟ أم الفن للحياة؟
فأما الطبيعة توهي أستاذتنا التي أورثتنا عقولنا وعلومنا وفنوننا وتجاربنا، وعرضت لنا نفسها عرضاً مكشوفاً لنراها ونعرف أسرار علم بارئها وفنانها الأعظم. . . فقد أرشدتنا - لو كنا نسترشد بها - إلى أن الفن فيها إنما هو وسيلة للنفع والمصلحة لا للترف ولا لإطلاق عبقرية الخلق والتجسيم والتكشيل والتلوين على هوى طليق غير منسجم مع الاتجاه العام في الطبيعة كلها
وقد أرشدتنا كذلك إلى النسبة التي يجب أن يكون الفن بها في الحياة وإلى ترتيب وجوده وظهوره في كائناتها. والذي لا شك فيه أن في كل شئ في الطبيعة عملاً ضرورياً وعملاً فنياً. والعمل الضروري هو الذي يضمن حسن إخراجه، ولفت الأنظار إليه وحمل الأحياء على الانتفاع به والمحافظة على استمرار نوعه وحمايته. ومن وراء ذلك الظاهر الفني نظرة علمية دقيقة مدركة لغاياتها ووسائلها جادة مقتصدة غيرها هازلة ولا مسرفة فوجود (الكيان) المادي (وتجسيمه) وإقامة (هياكله) الضرورية وتهيئة أسباب نفعه واستمرار وجوده هي محاور العمل الطبيعي الدائم في عالم الجماد والنبات والحيوان، وهي الجهد المبذول في دؤوب واستمرار في جميع الفصول والمواسم، ثم يأتي بعد ذلك دور التجميل والإخراج
فالجذور في النبات مثلاً لا جمال فيها ولا زينة وإنما هي عاشقة للظلمات والعفونات، ساربة أبداً بين الصخور والعقبات، جاهدة باحثة عن الضروريات. فهي تقوم بأعظم العمليات وأدومها وأشقها وأنفعها لحياة الشجرة. ومع ذلك لا تخطى من تقدير السطحيين من الناس بما تخطى به زهرة خادعة فانية محدودة النفع والعمر من الزهرات التي هي من فن تلك الشجرة والتي هي في الواقع خدعة من خدع تلك الشجرة لجلب اللقاح وتكثير النوع وحفظه
ولا جدال في أنه خير للشجرة ولصاحب الشجرة أن يحافظ على جذرها الأعوج القبيح ساكن الظلام ليحفظ أوليات حياتها ويرفدها بعوامل النماء، من أن يعني بكثرة زهرها الجميل في فترة من فترات حياتها ويهمل جذرها حتى يمرض ويصيبه العجز والكلال عن السعي لغذائها. فإن بقاء الجذر صحيحاً عاملاً كفيل ببقاء الأمل في حياتها واستمرار وجودها وإنتاج ثمارها وأزهارها. وإن في الأشجار منافع كثيرة قد يكون جمال الأزهار أقلها عند من يقدرون العناصر الأساسية للحياة. واسألوا جانيات الشوك وجامعي الأحطاب من البراري والقفار والوديان: أليسوا يمرون على الأزهار البرية الجميلة الفواحة العطر لا يعبئون بها كما يعبئون بالأشواك والأحطاب يجمعونها ليوقدوا النيران ويقيموا الجدران، طلباً للدفء والمأوى بين الأهوال القاسية التي تهدد حياتهم الضرورية؟
كذلك البؤساء مادياً ومعنوياً، المجهودون المنهوكون من السعي في سبيل القوت والحق والعدالة يمرون بالتحف الفنية والآثار الأدبية التي أنتجت للترف العقلي وألاعيب الذكاء وإزجاء حياة الفارغين الهانئين كما تمر جانيات الشوك وجامعو الأحطاب بالأزهار البرية التي لا توقد ناراً ولا تقيم مأوى!
وينبغي ألا تجعل هوايات المترفين مادياً أو عقلياً مقياساً للأحكام حين نتحدث عن المسائل الكبرى التي تمس إصلاح مجتمع لا تزال أكثر آلامه ناشئة من التفاوت الفاحش مادياً وعقلياً بين طبقتيه العالية والسافلة، المترفة وهي قلة، والمجهودة المنهوكة وهي الكثيرة؛ فإن الإنصاف يقضي أن تكون المقاييس منتزعة من حياة الكثرة التي هي أشد التصاقاً بضروريات العيش، وأرهف إحساساً بمشكلاته، وأعظم تعرضاً لآلامه ونكباته، وأقوى اضطلاعاً بخدماته
ومن هنا أخطأ الأستاذ توفيق الحكيم حين هون من شأن الجهود الأدبية الإصلاحية لما وازنها بالآثار الفنية الخالصة متخذاً حجته من ضياع كثير من نتاج الأولى وبقاء كثير من الثانية في ذاكرة الزمان، وحين قرر أن الأدب الأوربي لم يبلغ مبلغه العظيم بفضل نزوله معترك الحركات الإصلاحية، وإنما بفضل قيمته الفنية، وأن الآداب الأوربية لم تحترم يوماً فناناً أو أديباً لأنه مصلح، ولكنها قد تحرم المصلح إذا كان أدبياً أو فناناً، وأنه ينبغي للنقاد والمصلحين أن يملوا على الفن اتجاهاً بعينه ولا يجوز لهم أن يوصوه بالحكمة والإصلاح إلا أن يشاء هو ويرضى. لأن الفنان صانع المصلح، ومصلح المصلح. . . وحين قرر مع الأستاذ الكبير العقاد أن اتجاه التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية وقرر أن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعل الحيوان حيواناً
إن المصلح هو الذي يمهد للجماعة أن تحيا وتستكمل عناصر نموها وكمالها حتى يكون فيها فنانون وعلماء وقادة وصناع وزراع. . . حتى يكون فيها جذور الحياة وثمارها وأزهارها. . . وعمله هو السابق المهيأ لنضج الملكات الفنية والكفايات الأدبية التي ترد في عهود الجمود والجهالة موارد محدودة ومشارع آسنة. ولا جدال في أن الكفاية الفنية والأديب تتسع وتعمق كلما كثرت أمامها منابع الوحي وجداول الأفكار والأعمال والمشاهد. ومن الذي يهيأ لها هذا كله غير المصلح الذي تستهوي نفسه دائماً حياة النفع العام التهذيب العام والكمال العملي، ويأخذ نفسه من نفوس أمته ويتسع قلبه لمؤثرات الحياة والاجتماع ويدرك أكثر أسرارها؟
وقد يكون الفنان - وهو في الغالب محدود الهواية - يهوى جانباً معيناً من الحياة ويغلبه وجدان واحد يستولي عليه ويصبغ إنتاجه بصبغة واحدة، فلا يستطيع أن يدرك جوانب الحياة الأخرى إلا إذا كان فناناً عبقرياً موسوعياً واسع الثقافة متعدد الأوتار؛ فإنه حينئذ يلتقي بالمصلح بل يكون هو المصلح. . . إذ أن المصلح في واقع الأمر فنان ولو لم ينتج أثاراً فنية. بل هو أعظم من فنان. . . هو (مخرج) يخرج حياة أمته وينسقها وينظم شؤونها ويعرضها عرضاً جميلاً. والمخرج كما يعلم الأستاذ الحكيم أصبح الآن هو الكل في الكل في إبراز الفنون العليا في الحياة الحاضرة. ولولاه لم يستطع الفن أن يغزو الحياة الآن هذا الغزو الشامل، ولم يكن لكثير من الفنانين الفرعيين إلا ذكر ضئيل
المصلح هو رائد (فن الحياة) وهو لا شك أعظم الفنون! لأن الحياة يجب أن (تعاش) أولاً في طمأنينة وسعادة وعدالة يشعر بها الجميع. ثم يأتي بعد ذلك دور (فلسفتها) التي تحلو للمترفين عقلياً من الفلاسفة والفنانين والأدباء الطلقاء الفارعين
وللمصلح بما له من هذه الوصاية الشاملة أن يقول للفنان: إنك (نشاز) في جوقة أمتك. . . أو هادم لوحدتها، أو خارج على حدود مجتمعها، أو مفسد لمثلها الأعلى، أو مبلبل لخواطرها. وله أن يقترح عليه عملاً بعينه يراه لازماً لكمال الإخراج في حياة أمته، وله أن يقتضيه (الضريبة الأدبية) في مستوى معين ليردها على الفقراء في الإحساس الذاتي بالفن والجمال
إن حياة الاجتماع الإنساني شأن عظيم! بل هي أعظم شؤون الإنسان: فمنها تفجرت ينابيع فكره ولغته وراحته وعلومه وفنونه وصناعاته، ومنها أدرك قوة نفسه بين غمرات القوى العمياء، بل منها أدرك (فرديته) وحريته وحقوقه، ومنها ظهرت تفاعلات نفسه مع جنسه هذا التفاعل الذي أخرج كوامن نفسه وخصائص جنسه. فليس من الحق أن تهدر حقوقها في سبيل حقه ولو كان فناناً. . . وليس من الصحيح أن يقرر أن الإنسان سائر من الاجتماعية إلى الفردية حتى في الفن إلا أن يكون هذا انتكاساً. وليس من الصحيح أن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعله حيواناً. وأنه بالتالي كلما كثر الإحساس بالجماعة في جماعة ما، كان هذا دليلاً على أنها أدنى إلى الحياة الحيوان. . . كلا! هذه أحكام لا أدري كيف أرسلها الأستاذ الحكيم؟!
فالواقع أن نسبة الغيرية والإيثار والإحساس بالجماعة وبالجنس البشري كله والتضحية بالنفس في سيبلهما - وهي دعائم الاجتماع - تنمو نمواً عظيماً. وليس من هذه الصفات شئ في جماعات الحيوان إلا في حدود الغريزة الضيقة في الأمومة والأبوة في بعض الحيوانات العليا، ولم تنتج حياة الاجتماع في جماعات الحيوان نتائج تزيد على حاجات هذه الغريزة المحدودة. بينما تنتج حياة الاجتماع في الإنسان نتائج كثيرة جداً جعلت أمام العالم الطبيعي عالماً آخر صناعياً، وجعلت الوعي الاجتماعي في الفرد مبنياً على عقل الفرد وفلسفته لا على غريزته وحدها. إن الجماعة البشرية سائرة من الفردية في الأمة إلى الجمعية الدولية، وبوادر هذا واقعة الآن في هذه الحرب. وبذورها وجدت من قبل في المجموعات السياسية الكبرى. ولا شك أن هذا يستتبع كتباً للنوازع الفردية في كل أمة من الأمم التي تشترك في هذه المجموعات، ونزولاً عن بعض خصوصياتها وحرياتها وحقوقها التي كانت لها وهي فريدة، كما استتبعت حياة الجماعة في الأمة الواحدة نزول الأفراد عن كثير من حقوقهم وحرياتهم التي كانت لهم قبل حياة الجماعة. فالقانون واحد مطرد: وهو السير من فردية الأسر إلى اجتماعية القبيلة ثم إلى الأمة ثم إلى الإمبراطوريات واتحاد الولايات. ومن هذه إلى جمعية الأمم التي هي أمل العالم
وليس ذلك في السياسة وحدها، فإن ما في السياسة ينتقل إلى الثقافة والفن الذي ثار حوله هذا الجدل. فالآثار الفنية الأولى في الأدب العربي مثلاً لم تكن غير مقطوعات شعرية غنائية هاج بها وجدان قائلها في مناسبات الحب والفراق والفخر والحماسة والمدح والرثاء وغيرها من أغراض الشعر الغنائي، وهو لا شك شعر فردي يستجيب للأحاسيس والوجدانات الخاصة. ثم أخذت هذه المقطوعات تطول وتتسع للأغراض الاجتماعية فتذكر فيها الحروب والوقائع والمفاخر العامة للقبيلة حتى انتهت بالمطولات والمعلقات التي اهتم بها غير قبيلة قائلها من العرب. ثم ابتدأ ذكر الأمة العربية كلها يسطع في الشعر العربي حين وضعها الإسلام وضعاً واحداً أمام الأمم الأخرى التي احتكت بها في النضال والفتوح. أفلا يقال بعد ذلك إن الفردية في الفن العربي كانت تقل نسبتها تبعاً لنمو الوعي الاجتماعي بين العرب؟
(للكلام بقية)
عبد المنعم خلاف