مجلة الرسالة/العدد 57/مخترع الرقاص منجم مصري
→ البغاء | مجلة الرسالة - العدد 57 مخترع الرقاص منجم مصري [[مؤلف:|]] |
ذكرى أدبائنا ← |
بتاريخ: 06 - 08 - 1934 |
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يعتقد كثيرون أن الرقاص (بندول الساعة) من مخترعات العالم الإيطالي الشهير غاليلو (1564 - 1642م)، وان هذا العالم أول من استطاع ان يستعمله ويستفيد منه. وهؤلاء الكثيرون يستغربون إذا قيل لهم أن هذا غير صحيح، وان الفضل في اختراعه يعود إلى عالم مسلم عربي، عاش في مصر ونشأ على ضفاف النيل، وقد سبق غيره في استعماله في الساعات الدقاقة، وبذلك يكون غاليلو مسبوقا بهذا الاختراع بستة قرون. أقول انهم يستغربون وأزيد على ذلك وأقول انهم قد يستهزئون، ولكن ما كان لنا أن نجرؤ فننسب هذا الاختراع الجلي إلى العرب لولا اعترافات المنصفين من علماء الإفرنج، فإذا تصفحت كتاب تاريخ العرب للعالم الفرنسي المنصف سيديو تجد نصا صريحا بأسبقية العرب في اختراع الرقاص: (. . . وكذا ابن يونس المقتفي في سيره أبا الوفاء ألف في رصد خانته بجبل المقطم الزيج الحاكمي، واخترع الربع ذا الثقب، وبندول الساعة الدقاقة). وكذلك يقول (تايلر و (سدويك ان العرب استعملوا الرقاص لقياس الزمن.
من هنا يستنتج أن سبقوا غاليلو في اختراع الرقاص وفي استعماله في الساعات الدقاقة. أنا لا أقول أن العرب وضعوا القوانين التي تسيطر على البندول، ولا أقول انهم وضعوا ذلك بقالب رياضي على الشكل الذي نعرفه الان، ولكني أقول انهم سبقوا غاليلو في اختراع الرقاص وفي استعماله، وفي إيجاد علاقته بالزمن؛ وفوق ذلك كان لديهم فكرة عن قانون الرقاص (قانون مدة الذبذبة). يقول سمث العالم الأمريكي في كتابه تاريخ الرياضيات في ص 973 من الجزء الثاني ما يلي: (ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين بن يونس لاحظه وسبقه ففي معرفة شيء عنه، وكان الفلكيون يستعملون البندول لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد. . .).
يظهر مما مر أن العرب عرفوا شيئا عن القوانين التي تسيطر عليه، ثم جاء من بعدهم غاليلو، وبعد تجارب عديدة استطاع أن يستنبط قوانينه، إذ وجد ان مدة الذبذبة تتوقف على طول البندول وقيمة عجلة التثاقل، ووضع ذلك بشكل رياضي بديع وسع دائرة استعماله وجني الفوائد الجليلة منه.
وأخشى أن يختلط الأمر على القارئ فيظن ان كمال الدين بن يونس هو نفسه ابن يونس الذي ذكره سيديو، مع أن هذا خلاف الواقع، فكمال الدين بن يونس كان (علامة زمانه، وواحد أوانه، وسيد الحكماء، قد أتقن الحكمة، وتميز في سائر العلوم). ولد في الموصل سنة 1156م، وتوفى بها سنة 1242م، وتلقى العلم في بغداد في المدرسة النظامية. كان ذا اطلاع واسع على العلوم الشرعية، وتعين مدرسا في الموصل، قرأ الطب والفلسفة (ويعرف من فنون الرياضة من اقليدس، والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطى وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة والارثماطيقي بطريق الخطائين، والموسيقى والمساحة، معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها، واستخرج في علم الأوفاق طرقا لم يهتد إليها أحد. . .).
ولنرجع الآن إلى ابن يونس المصري، فهو مخترع الرقاص، واسمه أبو سعيد عبد الرحمن بن احمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري. كان من مشاهير الرياضيين والفلكيين الذين ظهروا بعد البتاني وأبي الوفاء البوزجاني، ويعده سارطون من فحول علماء القرن الحادي عشر للميلاد، وقد يكون اعظم فلكي ظهر في مصر، ولد فيها وتوفى بها سنة 339هـ - 1009م. ويقول بعض معاصريه انه كان ذا طباع شاذة، يضع رداءه فوق عمامته، إذا ركب ضحك الناس منه لسوء حاله وشذوذ لباسه، (وكان له مع هذه الهيئة إصابة بديعة غريبة في النجامة لا يشاركه فيها غيره، وكان متفننا في علوم كثيرة، وكان يضرب على العود على جهة المتأدب). وهو سليل بيت اشتهر بالعلم، فأبوه عبد الرحمن بن يونس كان محدث مصر ومؤرخها، وأحد العلماء المشهورين فيها، وجده يونس بن عبد الأعلى صاحب الأمام الشافعي، ومن المتخصصين بعلم النجوم. وقد عرف الخلفاء الفاطميون قدر ابن يونس وقدروا علمه ونبوغه، فاجزلوا له العطاء وشجعوه على متابعة بحوثه في الهيئة والرياضيات، وقد بنوا له مرصدا على جبل المقطم قرب الفسطاط، وجهزوه بكل ما يلزم من الآلات والأدوات، وأمره العزيز الفاطمي أبو الحاكم أن يصنع زيجاً، فبدأ به في أواخر القرن العاشر للميلاد، وأتمه في عهد الحاكم ولد العزيز، وسماه (الزيج الحاكمي). ويقول عنه ابن خلكان (وهو زيج كبير رأيته في أربعة مجلدات، ولم أر في الازياج على كثرتها أطول منه). ويعترف سيديو بقيمة هذا الزيج فيقول: إن هذا الزيج كان يقوم مقام المجسطي والرسائل التي ألفها علماء بغداد سابقا. ويقول سوتر الشهير في دائرة المعارف الإسلامية: (ومن المؤسف حقا انه لم يصل إلينا كاملا، وقد نشر وترجم (كوسان) بعض فصول هذا الزيج التي فيها أرصاد الفلكيين القدماء، وأرصاد ابن يونس نفسه عن الخسوف والكسوف واقتران الكواكب). وكان قصده من هذا الزيج أن يتحقق من أرصاد الذين تقدموا وأقوالهم في الثوابت الفلكية، وان يكمل ما فاتهم، وان يضع ذلك في مجلد كبير جامع (يدل على أن صاحبه كان اعلم الناس بالحساب والتسيير). وابن يونس هو الذي رصد كسوف الشمس وخسوف القمر في القاهرة حوالي سنة 1978م، واثبت منها تزايد حركة القمر، وحسب ميل دائر البروج، فجاء حسابه اقرب ما عرف إلى أن أتقنت آلات الرصد الحديثة.
وأصلح ابن يونس زيج يحيى بن أبي منصور، وعلى هذا الإصلاح كان تعويل أهل مصر في تقويم الكواكب في القرن الخامس للهجرة.
وبرع ابن يونس في المثلثات وأجاد فيها، وبحوثه فيها فاقت بحوث كثيرين من العلماء، وكانت معتبرة عند الرياضيين، ولها قيمتها الكبيرة في تقديم علم المثلثات. وقد حل أعمالا صعبة في المثلثات الكروية واستعان في حلها بالمسقط العمودي للكرة السماوية على كل من المستوى الأفقي ومستوى الزوال. وهو أول من استطاع ان يتوصل إلى إيجاد القانون الآتي في المثلثات الكروية:
1 1
جتاس جتاص=_ جتا (س + ص) +__ (س - ص)
22
وكان لهذا القانون قيمة كبرى عند علماء الفلك قبل اكتشاف اللوغارتمات، إذ يمكن بواسطته تحويل عمليات الضرب إلى عمليات جمع، وفي هذا بعض التسهيل لحلول كثير من المسائل الطويلة المعقدة. وفي زمن ابن يونس استعملت الخطوط المماسة في مساحة المثلثات. ويقول سيديو: (ولبث ابن يونس يستعمل في سنة 979 إلى سنة 1008م إضلالاً أي خطوطا مماسة، وإظلال تمام حسب بها جداول عنده تعرف بالجداول الستينية، واخترع حساب الأقواس التي تسهل قوانين التقويم وتريح من كثرة استخراج الجذور المربعة. . .) وهو الذي اخترع الربع ذا الثقب، وبندول الساعة الدقاقة، وفوق ذلك فوق كان ينظم الشعر نأتي على بعض منه للتنويع، فمن قوله في الغزل:
أحَملُ نشر الريح عند هبوبه ... رسالة مشتاق لوجه حبيبه
بنفسي من تحيا النفوس بقربه ... ومن طابت الدنيا به وبطيبه
لعمري لقد عطلت كأسي بعده ... وغيبتها عني لطول مغيبه
وجدّد وجدي طائف منه في الكرى ... سرى موهناً في خفَية من رقيبه
نابلس
قدري حافظ طوقان