مجلة الرسالة/العدد 57/في ربوع جوته وفرتر
→ إبراهيم بك مرزوق ومحمد سعيد بك | مجلة الرسالة - العدد 57 في ربوع جوته وفرتر [[مؤلف:|]] |
البغاء ← |
بتاريخ: 06 - 08 - 1934 |
من الرسالة
فرنكفورت - صباح الأحد 8 يونيو سنة 1924
. . . الأسرة التي أقيم فيها مؤلفة من أرملة وأولادها: بنتين وصبيا أصلهم من الريف، من وتسلار حيث كان جوته موظفاً، وحيث عرف شرلوت واحبها، وكتب الأم فرتر - نزحوا إلى فرنكفورت طلبا للعيش، وسأقص عليك الآن قصة كبرى الابنتين، ويبلغ عمرها أربعة وعشرين عاما -
عرف قلبها الحب وهي في السادسة عشرة حينما كانت في وتسلار، وأحاطت بحبها ظروف قاسية اضطرته ان يتزوج من سواها، فلم تطق البقاء في وتسلار فرحلت إلى فرنكفورت تبحث عن وظيفة. . . وتبعها شاب من مواطنيها كان يحبها ولا يجرؤ على التصريح لها بحبه. تبعها ليدرس بالجامعة، واصطحبا وتكتم الحب ثلاث سنوات قضي اثنتين منها في ميدان القتال، فلما انتهت الحرب عاد إلى فرنكفروت ليتم دراسته، وعادت علاقة فلتر بحبيبته تيا
باح لها بحبه وطلب يدها، وظنت هي أنها تحبه فأجابته بالقبول، وتمت الخطبة، ومرت سنتان وهو يستعجل الزواج فتؤجله محتجة بغلاء الأثاث وهبوط قيمة المارك في ذلك الحين، فلما زاد إلحاحاً صارحته برغبتها في فسخ الخطبة، لأنها لا تستطيع أن تجد معه السعادة التي تنشدها، فهي مادية وهو خيالي، هي تحب الرقص ولا تفهم الموسيقى، وهو يحب الموسيقى ولا يعلم الرقص، فكانت بينهما القطعية.
وهنا انقل إليك أيها الصديق قطعا من رسائله التي كتبها بدموعه بل بدماء قلبه، والتي أطلعتني الأم عليها ذات مساء وتركتها لدي ليلة لأقرأها.
يقول فلتر في خطابه الأول: (مهجور! أنا مهجور! وما أطول الليل على مهجور مثلي في هذه المدينة الكبيرة! لو كنت في قرية صغيرة لخرجت إلى الجبال والغابات أشكو إليها حبي وأحدثها عن بؤسي، ولكني في هذه المدينة الكبيرة إذا خرجت لا أجد إلا السكارى وهم عائدون آخر الليل إلى مساكنهم، والنساء الخليعات وهن يتسكعن في زوايا الطرق وعلى مقاعد المتنزهات) وعلم أن (تيا) أخذت ترفض تسلم كتبه، فكتب إلى أمها يقول: (قول لتيا إنني ساكون من نفسي شخصا آخر كما تحب هي أن أكون. قولي لها إنني تقدمت في دروس الرقص وأصبحت غيري بالأمس. قولي لها تسمح لي بان أراها مرة واحدة، وسوف لا أحداثها عن حبي ولا اذكر لها شيئاً عن الماضي. قولي لي ترحمني فإني بدونها لا يمكنني أن أعيش. اسأليها عن ذنبي لديها، فان كان لي ذنب غير شدة حبي فسأكفر عنه بدمي وحياتي).
وكتب في ثالث: (في مثل الغد ولدت، ولقد تعودت منذ خمس سنوات أن أتناول هديتي من المحبوبة (تيا) قبلة وعهدا على حبنا، قولي لها إنني انتظر هديتها غدا، وان تسمح بالعودة إلى مثل ما كنا. سأحضر بنفسي إليكم وكلي امل، فاستحلفكم إلا تصدموني في كل آمالي).
وعلمت انه لما حضر رفضت تيا أن تقابله فأرغمتها أمها على ذلك، فأساءت لقاءه، فكتب إلى أمها: (قولي لها تجربني شهرا وأحدا، وسولا لا أحدثها عن حبي، غدا تبدأ حفلات بيتهوفن السنوية. ذكريها إنها لما سمعتها لأول مرة، وكانت معي بكت. . . وفي تلك الليلة حدثتها لأول مرة عن حبي. . . لقد اشتركت لها ولي، وسأمر بكم غدا لأرافقها).
ولما بلغه إنها تخطب إلى آخر كتب إلى أمها:
(أني آمل وآمل ولا أستطيع أن أيأس قبل أن يضع القسيس على رأسها إكليل الزواج من غيري، أمل لأن حبي لها لا يفنى، ولأني بدون هذا الشعور لا أستطيع أن أحيا).
وكانت آخر رسائله هذه الكلمات: (سوف تتزوج من غيري! أن هذا يطن في رأسي طنين حلم مروع، وما كنت لأتصور حدوثه يوما من الأيام، وهل هناك أحد في العالم يستطيع أن ينيلها من السعادة ما أستطيع؟. قولي لها أني أتمنى لها الهناء من صميم فؤادي، وان الشيء الوحيد الذي أحذره أن تذكرني يوما من الأيام بالأسف حين لا ينفع الأسف. . . وداعاً إلى الأبد!. . .).
وفي الشهر القادم موعد حفلة زفافها إلى خطيبها الجديد، دميم الخلقة، قصير، أعرج، ولكنه غني، فلقد كان أيام هبوط قيمة المارك يضارب - مع اليهود - على إسقاط عملة بلاده فأثرى وقد سمعتها أمس فقط تقولانها تأسف على فلتر، فصرخت أمها في وجهها تقول (ألم يكن ذلك من قبل؟.) فقلت لهما إنني أتعهد بأن أرده إليهم لأنه معي في الجامعة. فقالت الأم (هذا مستحيل، انك لا تعرفه، أن كبرياءه جرحت بلا شفقة، فلا يمكن أن يعود، انك لا تعرفه) - والحق يا صديقي انك لو رأيته لما رأيت إلا الكبرياء والعظمة، هو ليس بالجميل. . . طويل القامة كبير الوجه، واسع العينين، تحيط بهما هالة سوداء، بوجهه خطوط كثيرة وتجعدات عميقة، يتكلم بصوت خافت يكاد لا يسمع مع كبر جسمه، واظهر ما يتجلى عليه الكبرياء والتكتم، وقد سألته يوما عما ينوي عمله بعد حصوله على الدكتوراه فقال: انه سوف يرحل إلى أمريكا الجنوبية ليعيش هناك، فقلت له إلا يعز عليك مفارقة أهلك ووطنك؟ فأجاب (لا. ليس هنا أحد يهمه أمري).