مجلة الرسالة/العدد 57/حول باخرتنا (النيل)
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 57 حول باخرتنا (النيل) [[مؤلف:|]] |
في اللهب ولا تحترق ← |
بتاريخ: 06 - 08 - 1934 |
بيننا وبين الأجانب
لمصر ماض بحري مجيد يرجع إلى عهد الفراعنة، وكان لمصر
أساطيل حربية وتجارية تشق عباب البحر الأبيض، ليس عهدنا بها
بأبعد من قرن، ولو لم تتألب أوربا النصرانية على مصر المسلمة في
نافارين، ولو لم تصب مصر بعد ذلك بما أصيبت به من المحن
السياسية التي هدت من إرادتها وحرياتها، لكان لها اليوم أسطول
يحمي ثغورها، وكانت لها سفن تجوب البحار وتأخذ بنصيبها من
حركة النقل والتجارة. فلما أتيح لمصر الناهضة أخيرا أن تبدأ بغزو
الميدان الاقتصادي، اتجهت الأماني والجهود إلى إحياء الملاحة
التجارية المصرية؛ ووفق بنك مصر - امتن واعز صروحنا
الاقتصادية - إلى وضع الدعامة الأولى في سبيل تحقيق هذه الأمنية،
فاقتنى باخرتين كبيرتين هما (زمزم) و (النيل)؛ وأدت (زمزم) في
موسم الحج الماضي للحجيج من مختلف الأمم الإسلامية اجل
الخدمات؛ وخصصت (النيل) لقطع البحر الأبيض والسفر بين
الإسكندرية ومرسيليا، وقامت إلى اليوم بأربع رحلات موفقة، وأثارت
بحسن استعدادها وفخامتها ودقة نظامها، واعتدال أجورها إعجاب كل
من شهدها أو سافر على ظهرها من المصريين والأجانب؛ واغتبط
المصريون أيما اغتباط إذا أصبحوا يستطيعون السفر على ظهر باخرة
مصرية فخمة، تسيرها وتستثمرها أموال ومصالح مصرية، ويشعرون
أثناء السفر عليها انهم بين أهلهم وذويهم.
بدأت مصر إذن بغزو ميدان اقتصادي جديد كان حتى اليوم وقفا على الأجانب، هو ميدان الملاحة البحرية؛ ومن قبل غزت مصر - خلال الأعوام الإثني عشر الأخيرة على يد بنك مصر وشركاته - مختلف الميادين والأعمال الاقتصادية والصناعية؛ ونمت هذه المؤسسات وازهرت، تحفها عناية الله، وإخلاص القائمين بأمرها وعطف الأمة كلها، حتى غدت ركنا هاما في حياة البلاد الاقتصادية التي كانت من قبل كلها غنما للمصالح والأيدي الأجنبية؛ وبثت هذه الحركة المباركة في الأمة روح الاهتمام بالمشاريع الاقتصادية والثقة فيها؛ وأخذت المصالح الأجنبية التي غصت بنجاحها تنظر إلى المستقبل بعين الخوف والجزع؛ وتلتمس لمحاربتها مختلف الوسائل والدعوات. وآخر ما أذيع عن جهودها في هذا السبيل موقفها من شركة الملاحة المصرية، ومن باخرتها (النيل)، فقد عرف إن بعض الجهات تبث ضد (النيل) دعوة سيئة، وتحث الأجانب على مقاطعتها، وتشترك بعض وكالات السياحة في هذه الخصومة فت
فتأبى نشر (النيل) في قوائمها، وتأبى التعريف عنها وعن أجورها أو مواعيدها؛ وهذه خصومة غربية في الواقع؛ أولاًلأن شركة الملاحة المصرية تدخل ميدان المنافسة المشروعة عزلاء من كل حماية خاصة، ولا تعتمد إلى على جهودها ومؤازرة شركتهم وباخرتهم؛ وثالثاً لأن هذه الدعوة في ذاتها غير صحيحة، إذ الواقع إن النيل من أفخم بواخر البحر الأبيض وأحسنها استعداداً، هذا فضلاً عن اعتدال أجورها ومصرية جوها ومحيطها.
على ان هذا التحرش من جانب المصالح الأجنبية بالجهود المصرية المشروعة لا يمكن ان يضر هذه الجهود، وإنما يرتد أثره بالعكس إلى المصالح الأجنبية ذاتها. فقد طال عهد مصر بعسف هذه المصالح التي تحيها الامتيازات الأجنبية الباغية؛ وقد عرفت مصر التي تطمح إلى استكمال حرياتها السياسية إن التحرير الاقتصادي دعامة قوية في هذا السبيل؛ وعرفت المصالح الأجنبية إن هذه الامتيازات التي تتمسك دائما بسلطانها وحمايتها لا يمكن أن تحقق لها ما تريد من عطف الشعب الذي تعمل بينه، لأن عطف الشعوب لا يكسب بالقوة والعنف، وعرفت من جهة أخرى إن هذا العطف ينثال على كل مشروع مصري خطير، ورأت أخيراً أن مصر تغزو الميدان الاقتصادي الذي احتكرته عصراً، بقوة ونجاح؛ فهذه العوامل كلها تجعل المستقبل مظلما في وجه المصالح الأجنبية، وتحملها على أن تقف أمثال هذه المواقف التي لا تعرب عن فطنة ولا كياسة من مصالح بلد ما زالت تستغل كرمه ورعايته وضعفه.
إن في هذا الموقف وأمثاله لعبرة جديدة لمصر والمصريين. وفي وسع مصر دائما - في مثل هذه الظروف على الأقل - ان تقابل هذه الخصومة بمثلها؛ فالمصريون الذين يسافرون على البواخر الأجنبية ألوف وألوف؛ ولن تتاثر شركة الملاحة المصرية و (النيل) بهذه الدعاية الوضعية؛ ولكن الشركات الأجنبية يمكن أن تتكبد خسائر فادحة يوم يقاطعها المصريون بحق، ويؤثرون عليها (النيل) وغيرها من البواخر التي نرجو أن تقتنيها مصر في أمد غير بعيد.
فلتسر شركة الملاحة المصرية، ولتسر كل شركاتنا المصرية في طريقها محفوفة بالرعاية القومية الشاملة، فان هذا العدوان لن يضيرها في شيء، ولكنه بالعكس يكسبها عطفاً جديداً، ويمدها بروح جديد لمتابعة العمل المجيد الذي تقوم به في سبيل مصر.
(ع)