الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 569/من الشعر الجديد

مجلة الرسالة/العدد 569/من الشعر الجديد

مجلة الرسالة - العدد 569
من الشعر الجديد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 29 - 05 - 1944


للأستاذ محمد محمود رضوان

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

ونعود بعد ذلك إلى قصيدتنا فنكشف ما فيها من سمات الشعر الجديد بقدر ما يطيقه قلمي الضعيف. فمنها:

اضطراب الوزن

وشعراؤنا المجددون لا يأبهون بأوزان الشعر كثيراً. . . هم ينظمون كما تهديهم الفطرة فإن جرى نظمهم على أوزان الشعر فيها. وإن حادوا عنها ووجدوا من يلومهم أخذتهم العزة فراحوا يعنفون هذا الأسلوب العتيق - مراعاة الوزن وينادون بتحرير الشعر من هذه القيود الثقيلة التي اصطنعها الأقدمون

وإذا كان الشاعر - علي شرف الدين وهو من الذين درسوا العربية وراضوا عروضها وقافيتها يهمل الوزن فأحر بسائر شعرائنا الشبان أن يكونوا أكثر منه إهمالاً له

مطلع قصيدته (أين الطريق)

ملِّ الرحيل معفَّرٌ ... أودى به حظ الأديب

وهي كما ترى من (مجزوء الكامل) ووزنه (متفاعلن) أربع مرات. وقد اختل الوزن فيها مرتين. الأول في قوله:

لن تشهدي مني السرور على الشروق ولا البكاء على الغروب

فإنه كرر (متفاعلن) خمس مرات. والأخرى كذلك أيضاً في قوله:

كأنما للغمط والحرمان من أبنائها حظ الأديب

تناقص المعاني

ويحدث هذا في أشعار القوم، لأنهم لا يقصدون إلى هدف في نظمهم. وإنما هي أفكار تروح وتجئ، وتشرق وتغرب على غير هدى. ولقد يخيل إلى أن الشاعر منهم يشرع في نظم قصيدته وما في نفسه غاية أو هدف فما يزال يلفق البيت والأبيات من الشرق ومن الغرب حتى تستوي له قصيدته. ولئن سألته ماذا يعني وأيا يريد لتسلل لواذاً ما يلوى على شيء.

فهل تنتظر من مثل هذا إلا أفكاراً متناقضة ومعاني متباينة؟

وهذا شاعرنا يحدثنا عن برمه بالحياة لكثرة نوازلها حتى لقد مات شعوره

وتمررت نفسي زماناً ... ثم ثابت من لغوبِ

مات الشعور بها فما أنا ... بالحزين ولا الطروب

وإذن فقد مات شعوره فما يحس حزناً ولا طرباً، ولكنه بعد ذلك يحدثنا عن قلبه الذي ينزع بالشجو ثم يشكو أساه إلى والديه، ثم يرجع في آخر قصيدته (مكلوم الفؤاد بحظ منسي سليب)، ولست أدري كيف يتفق الشجو والأسى والفؤاد المكلوم لإنسان فقد الشعور؟. . .

وتراه يقول إنه لم يبق منه بعد أن أرهقه الزمان

إلا بقايا مأتم ... في الوجه يبديه شحوبي

أشلاء آمال تلوح ... كأنها صرعى الحروب

ولست أدري كيف يتفق لمثل هذا المحطم الذي لم تبق له الأيام إلا أشلاء من الآمال أن يرقى الجبل مزوداً بأعصاب قوية

فصعدت لا زاداً سوى ... الأعصاب الفصحى العروب

ثم ما رأيك في كلمة (الأعصاب) في هذا الشعر؟

ومن تناقضه أيضاً أنك تراه ساخطاً على الشباب آملا الخير في المشيب:

وسئمت من ليل الشبيبة ... وانتظرت سنا المشيب

ولكنه - وقد بلغ الثمانين من وهده وشاب بخياله - ساخط أيضاً على المشيب:

وبلغت من زهدي الثمانين ... التي هدَّت جنوبي

عثرات اللغة والنحو

وهذا شائع في شعر القوم ولا سبب له إلا جهلهم باللغة وأساليبها، وفقرهم في الاطلاع على كنوزها ودقائقها. وارتضاخ ألسنة الكثير منهم بلكنة أعجمية يزهون بأن تظهر في تعبيرهم، وأخيراً عدم مبالاتهم بنا يفشو في أساليبهم من اللحن وتهوينهم من شأنه. يقول شاعرنا:

وتكشفت لي محن ... ة الأكفاء في البلد العجيب

والأكفاء هم النظراء، وإنما يريد الأكفياء جمع كفى أو الكفاة جمع كاف. . . ويقول: وقصيدُ عمرٍ داميً الأوزان مجروحَ الضروب

ولست أدري بم نصب نعت المرفوع. ولا معنى للتعلل بالقطع هنا

ازدحام الاستعارات وفسادها

ولعل فساد الاستعارة من أشهر عيوب القوم. فالمعروف أن للاستعارة أصولا ودقائق يزل من يحيد عنها، وأنه لا بد من أن تكون مشابهة بين المستعار والمستعار له حتى تصح. . . على هذا جري كلام العرب، ولكن سادتنا لا يحفلونه، هم يستعيرون ما شاءوا لما شاءوا من غير اكتراث بعلاقة. وحسبهم ما في الألفاظ من بريق ولمعان

ثم إن الاستعارة في كلام بلغاء العرب كانت بمقدار، وقد تقرأ القصيدة من شعر امرئ القيس أو الفرزدق فلا يقع لك إلا استعارة أو اثنتان أو ثلاث أو ما قرب من ذلك، وقد عاب النقاد على شعراء بني العباس إيغالهم في الاستعارة والتجنيس، وقضية الاستعارة في شعر أبي تمام استغرقت أكثر كلام الآمدي في كتاب الموازنة. فما بال شعرائنا يغرقون فيها - إلى فساد في التشبيه وانقطاع في العلاقة - إغراقاً بعيداً يجعل كل شعرهم استعارات وصوراً متراكمة، وما هكذا يكون البيان. وقديماً قالوا إن الشيء إذا زاد عن الحد انقلب إلى الضد. اقرأ لشاعرنا هذه الأبيات:

أشلاء آمال تلوح كأنها صرعى الحروب

وجراح أنات تلاشت واندملن على ندوب

ورفات آهات نضمن قبرها صدر الغيوب

وقناة دمع لم تزل بالخد من عهد النحيب

وحنين قلب ملجم الدقات مكبوح الوجيب

نزاع شجو دونه في ناره شجو الغريب

وقصيد عمر دامي الأوزان مجروح الضروب

أرأيت أشلاء الآمال، وجراح الأنات، ورفات الآهات وقبرها، وصدر الغيوب، وقناة الدمع، والدقات الملجمة، وقصيد العمر، والأوزان الدامية، والضروب المجروحة؟ أرأيت إلى هذه الزحمة المرهقة؟ ثم اسمع إليه بعد ذلك يصف أيام الطفولة بأنها رفافة كالروح أو كالنور أو طيف الحبيب وأنها ريا كنوار المروج، ثم إني أؤكد لك أن شاعرنا - على ما رأيت - مقتصد في استعاراته وتشبهاته بالنسبة لما عودناه شعراؤنا المجددون، فهل هذا هو التجديد يا معشر الشعراء؟

لقد مرت عصور كان الجناس فيها آفة الأدباء، فهل يحق لنا أن نقول إن الاستعارة والتشبيه اليوم آفة الشعراء؟

سوء المقابلة

والمقابلة من محسنات البديع، ولكن لها دقائق. قديماً عابوا على الشاعر مقابلته المحب في قوله (سرور محب أو إساءة مجرم)، لأن مقابل المحب هو المبغض لا المجرم مع أن المبغض مجرم

وشعراؤنا يقابلون فيخلطون، وشاعر اليوم يقابل السرور بالبكاء وبرج السعد ببرج الخطوب وإنارة الشمس بغيابها، وقد يكون له في كل هذا تأويل ولكنه على كل حال مما يضعف الشعر ويشوه جماله

ضعف الأسلوب

وهذا الموضوع يطول شرحه في شعر القوم، ولكن لن يفوتنا أن نمثل له بقول شاعرنا

أمي أبي أدعو وعند كليكما خير المجيب

وقوله يخاطبهما

أغضبتما فكبا جوادي أم ترى كثرت ذنوبي

وقوله:

وبلغت من زهدي الثمانين التي هدت جنوني

فما رأيك في (عند كليكما خير المجيب) و (أم ترى كثرت ذنوبي) وجمع الجنب في (هدت جنوبي)؟

أما بعد. . . فهذه نظرات سريعة لم يملها علينا إلا رغبتنا في خير الشعر الجديد. ولدينا - فوق ذلك - مزيد.

(بني سويف)

محمد محمود رضوان