مجلة الرسالة/العدد 568/القضايا الكبرى في الإسلام
→ الألغاز في الأدب العربي | مجلة الرسالة - العدد 568 القضايا الكبرى في الإسلام [[مؤلف:|]] |
على هامش النقد ← |
بتاريخ: 22 - 05 - 1944 |
5 - قتل حجر بن عدي
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذه القضية من أكبر القضايا الإسلامية، وقد قام المسلمون وقعدوا لها، وعدوها على معاوية بن أبي سفيان في أربع عدوها عليه. روى ابن الجوزي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال: أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة، وهي أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلاف ابنه يزيد وكان سكيراً خميراً، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله ﷺ: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي، فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر
وهذا إلى ما بلغه عدد الشهود في هذه القضية، فقد بلغوا فيها سبعين شاهداً، ولم تصل إلينا قضية إسلامية بلغ الشهود فيها مثل هذا العدد، وكل هذا يدل على ما لهذه القضية من الشأن في الإسلام، وسنقوم بدرسها غير متأثرين فيها إلا بما يقضي به الشرع، لأن حكمه فوق كل شخص، ويجب أن يكون نافذاً في الناس كلهم، كبيرهم وصغيرهم، ورفيعهم ووضيعهم
كان حجر بن عدي من أصحاب النبي ﷺ، وقد شهد القادسية في خلافة عمر، وشهد بعد ذلك الجمل وصفين وصحب علياً، فكان من شيعته، وكان من أعظم الناس ديناُ وصلاة وعلماً، ولكنه كان مغالياً في تشعيه، حتى إنه لم يسترح لما استراح له الناس جميعهم من تسليم الحسن بن علي لمعاوية ابن أبي سفيان. واجتماع كلمة المسلمين بعد ذلك الخلاف الذي كاد يقضي عليهم
وقد تم ذلك الصلح سنة إحدى وأربعين من الهجرة، فاستعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة، وأوصاه فيما زعم المؤرخون ألا يترك شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم، فأقام المغيرة عاملاً على الكوفة وهو أحسن شيء سيرة، ولكنه كان لا يدع شتم علي والوقوع فيه، والدعاء لعثمان والاستغفار له، فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال: بل إياكم ذم الله ولعن، ثم قام وقال: أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولى بالذم؛ فيقول له المغيرة يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته. فإن غضب السلطان يهلك أمثالك. ثم يكف عنه ويصفح، فلما كان آخر إمارته قال في علي وعثمان ما كان يقوله، فقام حجر فصاح صيحة بالمغيرة سمعها كل من بالمسجد، وقال له: مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك. فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق حجر وبر، مُر لنا بأرزاقنا، فإن ما أنت فيه لا يجدي علينا نفعاً. وأكثر من هذا القول وأمثاله، فنزل المغيرة ودخل عليه قومه فقالوا: علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك في سلطانك؟ فقال لهم: إني قد قتلته، سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي، فيصنع به ما ترونه يصنع بي، فيأخذه ويقتله
ثم توفى المغيرة فضم معاوية الكوفة إلى زياد بن أبي سفيان، فقدم إليها من البصرة، ثم قام في الناس فخطبهم، وترحم على عثمان وأثنى على أصحابه، ولعن قاتليه، ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، فبلغه أن حجراً يجتمع إليه شيعة علي، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص إلى الكوفة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه - وحجر جالس - ثم قال: أما بعد فإن غب البغي والغي وخيم، إن هؤلاء جموا فأشروا، وأمنوني فاجتروا علىّ، والله لئن لم تستقيموا لاداوينكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر، وأدعه نكالا لمن بعده
ثم أرسل إلى حجر يدعوه وهو بالمسجد، فقال له أصحابه لا تأته ولا كرامة، فرجع الرسول فأخبر زياداً بذلك، فأمر صاحب شرطته أن يبعث إليه جماعة، ففعل فسبهم أصحاب حجر، فجمع زياد أهل الكوفة وقال لهم أتشجون بيد وتأسون بأخرى، أبدانكم معي وقلوبكم مع حجر الأحمق، هذا والله من دحسكم، والله لتظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم. فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأي إلا طاعتك وما فيه رضاك. فقال لهم: فليقم كل رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله، ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه، ثم بعث زياد صاحب شرطته إلى حجر وأمره أن يشد عليه وعلى أصحابه بالسيوف إن لم يتبعوه، فأتاه صاحب الشرطة يدعوه فمنعه أصحابه من إجابته، وحصل بين الفريقين قتال لجأ بعده حجر إلى داره، ثم انتقل منها إلى دور بعض أهل الكوفة يحتمي بها، ولما ضاق عليه الأمر أرسل إلى محمد ابن الأشعث الكندي ليأخذ له من زياد أماناً حتى يبعث به إلى معاوية، فجمع محمد جماعة ودخلوا على زياد فاستأمنوا له على أن يرسله إلى معاوية فأجابهم، فأرسلوا إلى حجر فحضر عند زياد، فلما رآه قال: مرحباً بك أبا عبد الرحمن، حرب في أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس، على أهلها تجني براقش. فقال حجر: ما خلعت طاعة، ولا فارقت جماعة، وإني لعلي بيعتي. فقال زياد: هيهات هيهات يا حجر، تشج بيد وتأسو بأخرى، وتريد إذا أمكن الله منك أن ترضى، كلا والله. فقال حجر: ألم تؤمني حتى آتى معاوية فيرى في رأيه؟ فقال زياد: بلى قد فعلنا، انطلقوا به إلى السجن
ثم بعث زياد إلى أصحاب حجر حتى جمع منهم أثنى عشر رجلا في السجن، ودعا رؤساء الأرباع وهم عمرو بن حريث وخالد بن عرفطة وقيس بن الوليد وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وقال لهم: اشهدوا على حجر بما رأيتم منه، فشهدوا أن حجراً جمع إليه الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه وأمره
وقد نظر زياد في شهادتهم فقال: ما أظن هذه الشهادة قاطعة، وإني لأحب أن تكون الشهود أكثر من أربعة. فكتب أبو بردة شهادة غيرها قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة، وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء. فقال زياد: على مثل هذه الشهادة فاشهدوا، أما والله لأجهدن على قطع خيط عنق الخائن الأحمق. فشهد عليها سبعون شاهداً من وجوه أهل الكوفة
ثم بعث زياد بحجر وأصحابه إلى معاوية ومعهم الشهادة، فحبسهم بمرج عذراء، وكتب إلى زياد: أما بعد فقد فهمت ما اقتصصت به من أمر حجر وأصحابه، وشهادة من قبلك عليهم، فنظرت في ذلك، فأحياناً أرى قتلهم أفضل من تركهم، وأحياناً أرى العفو عنهم أفضل من قتلهم، والسلام
فكتب إليه زياد: أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت رأيك في حجر وأصحابه، فعجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم، وقد شهد عليهم بما قد سمعت من هو أعلم بهم، فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردن حجراً وأصحابه إلي فلما قرأ معاوية كتابه أمر بقتل حجر وسبعة من أصحابه، وعفا عمن بقى منهم بشفاعة بعض أصحابه من قومهم، وكان مالك بن هبيرة السكوني قد قال لمعاوية: يا أمير المؤمنين دع لي ابن عمي حجرا. فقال له معاوية: إن ابن عمك حجرا رأس القوم، وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصرى، فيضطرنا غداً إلى أن نشخصك وأصحابك إليه بالعراق. فلما قتل معاوية حجرا اعتزل مالك معاوية في منزلة، فأرسل إليه معاوية أن يأتيه فأبى فبعث إليه بمائة ألف درهم، وقال له: إن أمير المؤمنين لم يمنعه أن يشفعك في ابن عمك إلا شفقة عليك وعلى أصحابك أن يعيدوا لكم حرباً أخرى، وإن حجر بن عدي لو قد بقى خشيت أن يكلفك وأصحابك الشخوص إليه، وأن يكون ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر. فقبلها وطابت نفسه، وأقبل إليه من غده في جموع قومه حتى دخل عليه ورضى عنه
ولكن كثيراً من الناس لم يقبلوا هذا العذر من معاوية في قتل حجر وأصحابه، وأنكروا عليه هذا الحكم إنكاراً شديداً، وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لولا أنا لم نغير شيئاً إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر، أما والله إن كان ما علمت إلا لمسلماً حجاجاً معتمراً. وقد رثته هند بنت زيد الأنصارية وكانت تشيع فقالت في رثائه:
ترفع أيها القمر المنير ... تَبصَّر هل ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير
تجَبَّرتْ الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق والسدير
ألا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير
فإن يهلك فكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير
والذين لا يعذرون معاوية في قتل حجر يرون أن ما حصل منه لا يحل به سفك دمه، لأن دم المسلم حرام ما لم يرتد عن دينه أو يسفك دم غيره، وقد حملوا في ذلك آية الحرابة على خلاف ظاهرها، وهي قوله تعالى في الآية - 33 - من سورة المائدة (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فذهبوا إلى أن أوفى هذه الآية للتفصيل لا للتخيير، وعلى هذا يكون جزاء أولئك المحاربين أن يقتلوا إذا قتلوا، وأن يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، وأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا، وأن ينفوا من الأرض إذا أخافوا الناس ولم يأخذوا مالاً ولم يقتلوا
ولا شك أن هذا كله خلاف ظاهر الآية، ولهذا ذهب كثير من السلف إلى أن أوفيها للتخيير لا للتفصيل، فيكون ولي الأمر مخيراً في هذه العقوبات يجتهد فيها على ما تقتضيه مصلحة الدولة، ولا يتقيد فيها بتلك القيود السابقة، وقد أخذ معاوية بهذا في حكمه على حجر، ورأى أنه أمام فتنة إذا لم يأخذ فيها بأقصى العقوبة استطار شرها، ويكون في ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر وأصحابه، وقد كان له أن يأخذ في ذلك بأخف هذه العقوبات وهو النفي من الأرض، ولكنه استعمل فيه حقاً أباحه له الله تعالى، وله في ذلك اجتهاده الذي يعذر فيه ولو كان خطأ، ولو أنه استعمل في ذلك أخف هذه العقوبات لكان أولى وأحسن
وكان على حجر وأصحابه أن يتعظوا بتلك الفتن التي ذهبت فيها دماء من لا يحصى من المسلمين، وقتل فيها خليفتان من الخلفاء الراشدين، وأن يسعهم في ذلك ما وسع من كان أعلى منهم مقاماً، وأعظم شأناً، وأقوى كلمة، من كبار المهاجرين والأنصار، وزعماء قريش وغيرها من القبائل، وما كان لهم أن يتكلموا وقد سكت الحسن والحسين وابن عباس وابن الزبير وابن عمر وغيرهم ممن يجب أن يرجع إليهم في ذلك الأمر، ولا يذكر حجر وأصحابه بجانبهم، لأنه لم يكن لهم فيه ناقة ولا جمل
وقد يقال إن حجراً وأصحابه كانوا على حق في ثورتهم للعن علي رضي الله عنه، ولكن حقهم في ذلك يضيع بما كانوا يذهبون إليه من لعن عثمان ومعاوية، وقد كان منهم عمرو بن الحمق الذي كان يزعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص معه، على أم كثيراً من المؤرخين ينكرون ما روى من أن بني أمية كان يلعنون علياً على المنابر، وقد ذكر من روى ذلك أن الحسن طلب إلى معاوية في صلحه معه أن يكف عن شتم علي فلم يجبه إليه، فطلب ألا يشتم وهو يسمع فأجابه إلى ذلك ولكنه لم يف به، ولا ادري كيف يعقل هذا مع أن معاوية كان قد جعل الأمر بعده للحسن، وما أطن الذي كان يتلى على المنابر يتعدى لعن قتلة عثمان، فكانت شيعة علي ترى أنهم يقصدونه بذلك، وكان يؤلمهم ذلك اللعن، لأن كثيراً منهم اشترك في ذلك القتل
عبد المتعال الصعيدي