مجلة الرسالة/العدد 567/قيس ولبنى
→ الغناء | مجلة الرسالة - العدد 567 قيس ولبنى [[مؤلف:|]] |
وليم شيكسبير ← |
بتاريخ: 15 - 05 - 1944 |
مسرحية الأستاذ الشاعر عزيز أباظه بك
للأستاذ دريني خشبة
خرج من منزله بظاهر المدينة لبعض شأنه، فمر بخيام لبنى كعب فاستسقى، فبرزت إليه بالماء ابنة شيخ القبيلة، وسيد الحي، الحباب الكلبي، فما كذب أن سبقت القطرة الأولى التي أطفأت حر ظمئه، النظرة الأولى التي أشعلت دمه، وأججت في فؤاده ذلك الهوى المبرح، والتي أصابت روحه بهذا الظمأ، بل بذاك السعار. . . إلى العيون النجل، والفم الباسم، والوجه المغازل، والقد الفاره، والصبا المجتمع، والجمال الفينان!
ومضى قيس وقد أبرمت عيناه وعينا لبنى الوثيقة المقدسة بين قلبيها الخاليين، في تلك السرعة الخاطفة التي لا تكون إلا بين العيون والعيون!
ثم تعدد اللقاء، وصرح الحب، وغنت البيد بالهزج الحلو الذي كان يرسله قيس من أعماق قلبه شعراً موجعاً حزيناً
ومضى قيس إلى أبيه، ذريح بن ليث بن بكر، فباح له بحب لبنى وسأله أن يخطبها عليه، فأشاح ذريح، وأشار على ولده بخطبة إحدى بنات عمه، فهن أولى به. . . وكان ذريح ذا مال واسع وثراء ضخم، ولم يكن له ولد غير قيس، فخشي أن يدخل في ماله ناس ليسوا من أهله. فانطلق قيس إلى أمه يستعين بها على أبيه؛ غير أنه كان كالمستعين على الرمضاء بالنار، فانطلق إلى أخيه في الرضاع، الحسين بن علي، وكان معه ابن أبي عتيق، فشكا إليهما بثه، فطمأنه الحسين، وانطلقا به إلى الحباب والد لبنى فخطباها منه على قيس، فنسى الرجل تقاليد البادية إكراماً لفخر شباب الجنة، وإجلالاً لابن بنت رسول الله، ولم يشترط شيئاً إلا أن يسعى إليه ذريح والد قيس لتمام الخطبة، حتى لا تكون فضيحة من جراء ما رددته كثبان الجزيرة من أشعار قيس. . . ولم ير الحسين فيما طلب الحباب تعسفاً، فمضى إلى ذريح فأقسم عليه إلا أن يخطب لبنى على ابنه قيس، فخضع الرجل ولان عاصيه، وتمت الخطبة، وزفت لبنى إلى حبيبها. . . وأوى الألف إلى إلفه، ورقأ الدمع وسكن الوجيب، وتهلل وجه الحياة
وغبرت سنون. . . ثم كان ما لم يخش أحد أن يكون! لقد أحزن ذريحا ونغص عليه عيشه، أن لبنى عقيم لا تلد. . . لقد أرسل الرجل عينيه في ظلمات المستقبل الكريه، فرأى ثروته الواسعة تؤول إلى أيد من غير صلبه، فأقسم ليكونن له من قيس ولبنى موقف، وليكونن له في هذا البلاء رأى ومنه مخرج!. . . وإذن فلتبن لبنى. . . وليتزوج قيس فتاة غيرها ولوداً غير عقيم. . . ولتكن الحياة في دار ذريح من أجل هذا جحيماً لا تحتمل، وليشن ذريح وزوجه الحرب الداخلية على قيس وزوجه، وليتهماه بالتقصير والعقوق والانشغال عنهما بلبناه، وليطلبا إليه تطليق لبنى على مسمع منها، فإن أبي فليتسر، وليتخذ من الإماء من يضمن له الولد، فإن أبي فليسلط عليه ذريح عذاباً لا قبل له به
. . . وقد رفض قيس كل هذه الحلول. . . فكان ذريح يخرج وقت الظهيرة فيعرض رأسه للنار التي تصبها الشمس، فإذا رآه قيس أقبل عليه ووقف يظله حتى يفئ الفيء فينصرف. ولما طال هذا الأمر، وكان ذريح يستعين على قلب قيس بدموعه كي يطلق لبنى، ضعف هذا القلب، وفي ساعة من ساعات الذهول أرسل قيس كلمة الطلاق التي كان يشترطها ذريح ليريحه من هذا العذاب الذي استمر عاماً بأكمله!
ولم يلبث قيس أن ذهب بعقله، وانقلبت الحياة في بيت ذريح مأساة لا تطاق. . . ولما انقضت عدة لبنى، أقبل أبوها وأهلها لاحتمالها. . . وحيل بين قيس وبين الإلمام بخبائها فهام على وجهه. . . ثم اتبع رحلها مليا. . . وهنا يقول صاحب الأغاني: وعلم أن أباها سيمنعه، فوقف ينظر إليها ويبكي، حتى غابوا، فكر راجعاً، ونظر إلى خف بعيرها، فانكب عليه يقبله ورجع يقبل موضع مجلسها وأثر قدمها!)
ولم يلم قيس على ما أصابه إلا نفسه
وأشار عليه أبوه بالتقلب في أحياء العرب عسى أن يجد فتاة تسلبه أو تنسيه، فأبى أولاً. . . ثم فعل. . . ورأى فتاة حسناء فسألها عن اسمها فأجابت: (لبنى!) فخر مغشياً عليه، ولما أفاق عرض عليه أخوها الصهر، فقبل بعد طول امتناع. . . فلما زفت إليه زوجه الجديدة لم ينظر إليها ولم يهش لها ولم يدن منها ولا خاطبها بحرف!. . . وأخبره صديق له أن لبنى حينما علمت بزواجه بعدها غمها ذلك وقالت: (إنه لغدار، ولقد كنت أمتنع عن إجابة قومي إلى التزويج فأنا الآن أجيبهم!)
ولم يفتأ قيس يشبب بلبنى ويرسل نفسه في إثرها حسرات يؤجج بها شعراء الحزين الباكي حتى اضطر الحباب إلى أن يشكوه إلى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، فكتب معاوية إلى نائبه بالحجاز يهدر دم قيس إن تعرض للبنى، وأمر أباها أن يزوجها رجلاً من كندة، فزوجها من كثير بن الصلت
وتلهي قيس بالاتجار في الإبل، وذهب بقطعة منها إلى المدينة فلقيه زوج لبنى ووقف يشتري منه ناقة وهو لا يعرفه، وذكر له أن يأتي إلى دار كثير بن الصلت ليقبض الثمن إذا أصبح. وذهب كثير إلى منزله، وأمر أن تعد لبنى غداء يتناوله مع أحد أضيافه. . . فلما كان الغد، وأقبل قيس، وصوت بالخادم لتخبر سيدها أن صاحب الناقة بالباب، سمعته لبنى وعرفته، فلما دخل لقيته، وكشفت قناعها، فبهت ساعة لا يتكلم، ثم نشج نشيجاً مؤلماً، واستخرط في البكاء، وانصرف من فوره محزوناً محطماً. . . وأرسلت وراءه لبنى من يسأله فيم تزوج، فقال: أقسم ما اكتحلت عيني بالمرأة التي تزوجتها ولو رأيتها ما عرفتها ولا مددت إليها يداً ولا كلمتها ولا كشفت لها عن ثوب! فكانت إجابة جددت هوى لبنى وفجرت قديم حبها!
وسافر قيس إلى الشام ليلقى معاوية، فلقيه ابنه يزيد فشكا إليه حاله، فرثي يزيد له، وأزال ما كان كتب أبوه من إهدار دمه
وأكثر الرواة بعد ذلك على أن قيساً ولبنى قد توفيا مفترقين. وذكرت قلةٌ أن ابن عتيق قد توسل إلى كثير، زوج لبنى، بالحسن والحسين وجماعة من أهل البيت في حاجة لم يذكرها له حتى وعد أن يقضيها مما له من ملك أو مال أو أهل، فقال ابن أبي عتيق: إذن تهب لي لبنى زوجتك وتطلقها! ففعل كثير، واستحيا الحسن والحسين ومن معهما لأن ابن أبي عتيق لم يطلعهم من ذلك على شئ من قبل. . . وأبقى ابن أبي عتيق لبنى عنده حتى قضت عدتها، ثم زوجها قيساً، فنعما بما كان لهما من سابق حب وسعادة حتى ماتا!
فهذه إذن قصة قيس ولبنى كما أوردها أبو فرج في الأغاني، لخصناها على هذا النحو المضغوط، لنقابل بينها وبين تلك القصة الشعرية الجميلة التي نظمها الشاعر الكبير المتفنن عزيز أباظة، للمسرح المصري أولاً، وليزيد بها في ثروة الأدب العربي، وليساهم في تجديد هذا الأدب أولاً وقبل كل شئ!
فماذا صنع هذا الشاعر الكبير بتلك القصة الفريدة؟ ومن أي نقاطها آثر أن يبتدئ، وعند أي طرفيها آثر أن ينتهي؟ وأي قدر من التوفيق أصاب في تقسيم فصولها، وتوزيع المناظر على تلك الفصول، وبعث الحياة والحركة في مناظرها بتعدد مشاهدها المختلفة؟ وماذا من رواية أبي الفرج آثر أن يثبت، وأن يحذف؟ وهل وفق كل التوفيق في كل ما أثبت وكل ما حذف؟ وماذا ابتدع من المناظر الجديدة التي ليست من صلب الرواية الأصبهانية؟ ولغة التمثيلية وفرق ما بينها وبين لغة قيس ومن إلى قيس من عرب الحجاز قبل ثلاثة عشر قرناً. . .
كل هذه أسئلة ينبغي أن تجد أجوبتها في المقارنة بين قصتي مؤلف الأغاني والشاعر المصري؛ ونعجل فنقول إنها أجوبة سترفع رأس الأدب العربي الحديث، وستفتح أعين الشعراء العرب عامة، والشعراء المصريين بوجه خاص، على كنز من الكنوز التي نفتقدها في آدابنا، والتي لن يعمر ديوان من دواويننا إلا إذا شمل شيئاً منها أو مما يشبهها من الشعر القصصي الطويل. هذا كلام لن نفتأ نردده، وسوف نردده ما ترددت أنفاسنا
ألف الشاعر درامته فجعلها في خمسة فصول:
1 - فالفصل الأول يتألف من ستة مشاهد، ويتضمن وفود ابن أبي عتيق من قبل الحسين بن علي الحباب، أبي لبنى، ومعه قيس وذريح، لخطبة لبنى، فتتم الخطبة ويزول ما بين الحيين من البغضاء التي سببتها أشعار قيس في التشبيب بلبنى
2 - ويتألف الفصل الثاني من خمسة مشاهد، ويبدأ بعد زواج قيس من لبنى بخمس سنوات، ويكون قيس مريضاً أو متماثلاً للشفاء، ويتضمن مخاصمة ذريح وزوجه لقيس ولبنى، وطلب ذريح تطليق لبنى أو ضم زوجة ثانية إليها أو تسرى قيس ببعض الإماء. . . وتكون حجة ذريح وزوجه انصراف ولدهما عنهما بسبب لبنى، ثم يصرح الرجل بالحقيقة وهي عقم لبنى. ويرفض قيس جميع ما عرض عليه وينتهي الفصل بذلك. . . دون أن سلم علام استقر الرأي:
3 - أما الفصل الثالث فيتألف من منظرين، أولهما قصير ويتألف من مشهد واحد، ونسمع فيه إلى راع يتغنى ببعض شعر لقيس، ثم نرى قيساً يناجي نفسه، ثم يناجي المغنى، ونعلم أنه طلق لبنى، وأنه لا يلوم إلا نفسه لما أصابه بسبب ذلك من وجد وحزن ولوعة
ويتألف المنظر الثاني من ثلاثة مشاهد، ويتضمن منظر ارتحال لبنى بعد قضاء عدتها في بيت ذريح، وما كان من محاولة قيس الإلمام بخيامها، وما أوشك عمله هذا أن يحدث من قتال بينه وبين فتيان الحباب لولا تدخل أبي لبنى. . . وتبدو لبنى فجأة فيرتجف قيس. . . ثم يمضي بها الركب بين حنين قيس وأنينه. . .
4 - ويتألف الفصل الرابع من خمسة مشاهد، ويتضمن عفو أمير المؤمنين عن قيس، ومنحه الحرية يغدو ويروح كيف يشاء، وهياج آل الحباب لذلك، كما يتضمن زواج قيس، وحزن لبنى لهذا الخبر، مما يؤكد ما كان لا يزال في قلبها من إعزاز لقيس، ثم تقدم مالك، بن عم لبنى، لخطبتها، وكان يحبها من قبل، ثم تمام هذه الخطبة، ورضاء لبنى بها بعد الذي عرفته من زواج قيس
5 - أما الفصل الخامس، أو الفصل الأخير، فيتكون من منظرين، يتألف أولهما من أربعة مشاهد، ويتضمن لقاء مشحباً بين قيس بن ذريح، وقيس بن الملوح، أو مجنون بني عامر، وفيه عتاب بين القيسين، ثم إعتاب؛ ثم يقبل ابن أبي عتيق - حبيب المحبين، والسفير بين المغرمين، باحثاً عن المجنون فيغتبط بلقاء المجنونين! ثم يجوز بالوادي كثير زوج لبنى فيرى إبلاً وأينقا هي إبل قيس وأينقة قد عرضها للبيع، فيكلمه في مهر، فيبيعه له وهو لا يعرفه، على أن يقبض الثمن غداة غد في منزل كثير. . . ويذهب الجميع بعد انصراف كثير إلى خيمة ابن أبي عتيق ليسمروا ثمة
أما المنظر الثاني فيتألف من مشهد واحد طويل، ويتضمن ذهاب قيس والمجنون وابن أبي عتيق إلى دار كثير - زوج لبنى - ليقبض ثمن المهر. فيكون ثمة لقاء مشج عنيف بين قيس ولبنى. . . لقاء مفاجئ تتفجر فيه العواطف، وتذوب فيه روح قيس وقبله فيغشى عليه، وتحمل لبنى إليه الماء الذي يسعف به، فإذا أفيق، كان عتب وكان عذل. . . يقبل في إثره كثير، فتقدم إليه لبنى أضيافه كلا منهم باسمه، حتى إذا بلغت قيساً عرفه كثير قبل أن تذكر منهم باسمه. . . ثم يتدخل ابن أبي عتيق فلا يزال يعمى على كثير ويكني، ثم ينتهي إلى تأكيد ما بين قلبي قيس ولبنى من عقود وعهود، مع وفائها لزوجها الثاني، حتى ينتهي إلى أن يطلب من كثير أن يخير لبنى بينه وبين قيس. . . فإذا أثنت عليه لبنى وقالت كلاماً يفهم منه محبتها لقيس. . . أرسل الكلمة الهائلة. . . وتم تسريحها. . . ثم ينبض القلبان الحبيبان بالأغنية القديمة الخالدة.
(يتبع)
دريني خشبة