الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 566/القصص

مجلة الرسالة/العدد 566/القصص

بتاريخ: 08 - 05 - 1944


عمي حسن

للأستاذ نجيب محفوظ

رحماك اللهم! ماذا فعلت؟. . . أين جلدي وأين رشادي؟. . . وكيف أداري خجلي حيال هذه الشعيرات المحترقة؟. . . وكيف أستمع لنجوى هذا الرأس الكبير الذي ظل - ستة وأربعين عاماً - ملتقى لتجارب الحياة، يحتفظ منها بما يشاء ويعتبر بما يشاء؟!. . . فهل حقاً خانني البصر وهل حقاً خانتني الإرادة؟. . . أو إن عمق إحساسي بالخجل والخيبة هو الذي كبر الهفوة لناظري وضاعف من أثرها في شعوري؟. . . والحق أني لم آت أمراً أشذ به عن سنة الطبيعة، بل لو كنت ذا فطنة لأيقنت من زمن طويل أنه ما من هذا المصير مفر. . . ألم ألق في مرتع الحسن الصبيح والشباب النضير أشهد نضجه واستواءه؟. . . فمن أين كانت لي قوة أصد بها نزوع القلب عن أن يجني من حصاد الهوى ما يروى به غلة فؤاد أضناه الترمل وعناه التوق إلى الأليف

وقد عرفت (فيفي) وهي في المهد بعد أن نورت الدنيا بأسبوع واحد، وكنت في ذاك الوقت في الثلاثين وأنتظر مولودا أيضاً. وأذكر أني كنت أوصى زوجي - ضاحكاً - أن تكثر من النظر إلى وجه طفلة جيراننا عل مولودنا المنتظر يقبس من روائها حسناً. ولم يكن يفصل بين الشقتين سوى ردهة قصيرة فجعلت الصغيرة - حين دعاها الداعي إلى تعلم الحبو والمشي - تقطعها حبواً ومشياً، فنمت رويداً رويداً تحت سمعي وبصري، لها منتهى ودي وحبي وحناني، بل لكأنها ما كانت تتحرك وتنمو إلا بالحرارة التي يسكبها حبي على قلبها الصغير. وزاد هذا الحب وتضاعف حين ابتلاني الدهر فسلبني زوجي ثم ابني الصغير، فعلقتها بجنون ووجدت فيها سلوه وعزاء. وأحبتها أختي - وكانت تقيم معي - فصرنا لها أباً وأماً. كان حسبي أن أنظر في عينيها الخضراوين أو أعابث شعرها الكستنائي أو ألبي نداءها فرحاً مسروراً إذا نادت (عمي حسن)، وكان أبوها يضاحكني فيقول: (ما عرفت كفيفي طفلة تحب عمها أكثر من أبيها!)

فيفي الصغيرة تلك هي التي أحببت فيها بعد حباً غير الحب الأبوي الأول. وإني لأتساءل متحيراً متى أحببتها هذا الحب الجديد؟ أو كيف تحول حناني إلى عاطفة قوية وشغف جنوني وهيام حق؟. . هل تولد فجأة ذاك اليوم الرهيب الذي لا ينسى؟ هذا بعيد. ففي مثل حالتي لا يأتي الحب فجأة؛ بل كيف أقول فجأة وقد ترعرعت عمرها السعيد البالغ ستة عشر عاماً بين يدي وفي متناول أنفاسي! إنما يمكن أن يقال إن بذرته ذرت في فؤادي منذ استوى العود الغض وارتوى بماء الشباب، وامتلأ الصدر والخدان بالأنوثة، وومض في العينيين بريق الفتنة والملاحة، فلم أعد أرى طفلة تلثغ باسمي أو تلهو بسلسلة ساعتي، ولكن شابة حسناء ريا الشباب ناضرة الحسن تنفث الفتنة والهيام. هنالك بهرني الحسن وملأني الإعجاب. وكنت كلما دب دبيب الفتنة في قلبي تعوذت بالله وأنكرت مشاعري. ثم جفلت من مداعبتها، فلم أعد أربت على خدها أو أعابث ذؤاباتها، وهمت في أجواء من الغموض واللهفة والشوق المكتوم والحيرة القاتلة والشغف والخوف، ولولا أني ممن يندر أن يفكروا في أنفسهم أو ينظروا في باطنهم لفطنت إلى حالي، ولكني رحت أقنع نفسي بأن ما انتابني من اضطراب ما هو إلا أثر من إعجابي بالأنوثة الناضجة يتحد في قلبي بحبي الطاهر القديم. هكذا خادعت نفسي. على أني لم ألبث أن صحت يوماً وقد بلغت بي الوحشة حد الجنون - وكانت غابت أسبوعاً في بيت جدها - (رباه إن الحياة لا طعم لها بدون فيفي واعتراني شجن وكمد ووجوم

وجاء يوم فرأيت قلبي على ضوء الشمس الساطع وبرح الخفاء، وكنت أعبر فناء البيت إلى الطريق، وكانت فيفي تلهو كمحبوب عادتها بركوب الدراجة في الفناء. فلما رأتني مقبلاً اتجهت نحوي بدراجتها في رشاقة حتى صارت على بعد أذرع مني ثم رفعت يمناها تحييني، فاختل توازنها، واضطربت بها الدراجة فهرعت نحوها حتى حاذيتها، فاعتمدت بيسراها على كتفي الأيسر متفادية السقوط، ونظرت إليها مؤنباً فطالعتني بعينين ضاحكتين، وقد شدت راحتها على كتفي وأنغرست ركبتها في قلبي ولم أسترد نظرتي فأدمت إليها النظر وقد لانت أساريري. ثم ما لبثت أن ابتلعني تيار عارم من الوجد والهيام فوددت بكل ما أوتيت من قوة وشغف لو ضممتها إلى قلبي. وجعل هذا القلب ينتفض كان ركبتها مفتاح كهربائي يسلط على شعافه تياراً عنيفاً هكذا انقطع الشك وبرح الخفاء. وبعد لحظات كنت ماضياً في طريقي وقد انشغلت عن الدنيا جميعاً، فلم أعد أشعر إلا بنفسي التي نبضت بحياة جديدة كدوامة ثائرة، فأثملني طرب دفين، ولكن لم يزايلني شعور بالتبعة والخوف والحزن. وجعلت أتساءل (إلى أين تمضي بي يا قلبي؟) نعم إلى أين؟. . . فهذا طريق غير مأمون العثار، فأين مني خطى الشباب وقلوب الفتيان؟. . . وهل أنا إلا (عم حسن) فماذا يقول والداها العزيزان لو علما بما جد في قلبي؟. . . كيف يريان جارهما الرزين الوقور وقد انقلب عاشقاً ولهان؟. . . بل مالي أثقل على قلبي بالتردد والمخاوف، فلأقل مع قلبي إن هذا الحب شئ طبيعي لا غرابة فيه، وإنه لن يكون الأول أو الأخير من نوعه؛ بل سأفرض أن جاري العزيز بارك بعطفه ما يختلج في صدري، فكيف لي بعد ذلك أن أحولها من ابنة إلى زوجة! وكيف أجعلها تنظر إلى عمها حسن فترى فيه حبيبها حسن؟ وضاق صدري والتهب جبيني وذكرت الصلعة اللامعة التي أتوج بها هامتي، والشيب الذي يحرق فؤادي، وثلاث أسنان قد قلعت، وسنة جديدة قد نغضت، فأكملت مسيري ممتلئاً شجناً وكآبه.

ولكن هل ارعويت؟. . . كلا. . . ففي اليوم الثاني جاءتنا إلى البيت خفيفة نشيطة كعادتها - وكانت أختي تصلي العصر - فأقبلت نحوي وجلست إلى جانبي يتألق ثغرها بالابتسام، فأحدث مجيئها شفاء لما كنت أكابد من أوجاع الانتظار، وهيج أسقاماً أنكي من هاتيك الأوجاع وأمر. وجدتنا منفردين فخلت أني أنفرد بها لأول مرة، وداخلني اضطراب وقلق وهيام. ولم تكن أول مرة تخلو إلي وأخلو بها، ولكن أجدت لي الخلوة هذه المرة شعوراً لا عهد لي به، ووجدت في أعماق نفسي حسيس أمنية يهمس لي لو تخلو لنا الدنيا كما تخلو هذه الحجرة!. . . لو تخلو فلا أخت ولا أب ولا أم ولا مخلوق سواها وسواي. هنالك تؤاتيني شجاعتي وتنجاب عني الوساوس وتنحسر عن ناظري غشاوة القنوط. . . فمن لي بأن أطير بها إلى تلك الدنيا المقفرة؟. . . وحولت إليها عيني فرأيت المرح والبراءة، فثبتهما على وجهها المحبوب. وما كان أسعدني رجلاً في تلك اللحظة لو جثوت - أنا والأعوام التي أحملها على عاتقي - عند قدميها الصغيرتين مادا راحة راغب ضارع. . . وشعرت بتحديق عيني فرشقتهما بنظرة صافية حتى أحسست الأرض تميد بي، وتعمدت ما وسعتني الحيلة أن أجعل لنظرتي معنى جديداً غير ما عهدت، وأن أحمل عيني رسالة من أعماق الفؤاد لأجذبها من عالمها البريء إلى دنيا آمالي وأحلامي. ولكن هل أدركت شيئاً؟. . . هل بلغت الرسالة؟. . . أما لو كان ذلك كذلك لتولاها الارتباك وخضبها الخجل. . .

فهل تعثرت في الارتباك أو غض من طرفها الحياء؟ اختلط على عيني الأبصار والتوهم واصطرع في مجال إحساسي قوى الإدراك ونوازع الأمل. وعطفت رأسها عني برشاقتها الحلوة فاستقر بصري على خدها الوردي. وفي نشوتي وهيامي تجمعت وثبة الحياة الجارية في كياني في رغبة واحدة لا تقاوم. . . أن ألثم هذا الخد. وهوى عنقي نحوها في ذهول الوجد فلثمتها! والتفتت نحوي كالفزعة. ثم ضحكت ضحكة عالية ملأ رنينها أذني ومشاعري جميعاً؛ ثم طوقت عنقي بذراعيها وقبلتني في خدي! هل نلت المرام؟. رباه! كانت قبلة اقشعر لسريان برودتها جسدي، فجمد دمي في عروقي، وسكت قلبي عن الخفقان، واحترق وجهي خجلاً. كانت الطفلة المرحة البريئة تقبل عمها حسن، وكان مثلي كمثل مجنون عاد إليه رشاده فجأة فوجد نفسه متجرداً وسط قوم عقلاء. ألا ما أبعد الشقة بين الأفعال والنيات! ألم تلتفت إلى في رشاقة الغزلان؟ ألم تطوق عنقي بذراعيها؟ ألم تطبع على خدي قبلة؟ ولكن أين من هذا كله الحب والولع؟! وشق على الخجل وشقت على الخيبة، وبينما راحت هي، وكأنها نسيت كل شئ، تروى لي ما شاهدت في السينما أمس، جعلت أحادث نفسي: رحماك اللهم! ماذا فعلت؟ أين جلدي وأين رشادي؟ وتساءلت محزوناً: ألا يجمل بي أن أشد الرحال إلى بيت غير هذا الحي؟!

نجيب محفوظ