مجلة الرسالة/العدد 564/القرآن الكريم في كتاب النثر الفني
→ شعر ناجي | مجلة الرسالة - العدد 564 القرآن الكريم في كتاب النثر الفني [[مؤلف:|]] |
دجلة في الليل ← |
بتاريخ: 24 - 04 - 1944 |
3 - القرآن الكريم في كتاب النثر الفني
إنكاره إعجاز القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
الإعجاز إعجازان، إعجاز معنى وإعجاز أسلوب. والإجماع منعقد عليهما في القرآن، لكنه إذا أطلق لا ينفك عن إعجاز الأسلوب، لأن الأدب أسلوب قبل أن يكون معنى، إذا المعنى للعقل والقلب، فهو مشترك أو يمكن أن يكون مشتركاً بين اللغات. أما الأسلوب فخاص غير عام، لكل لغة أساليبها، بل لكل أديب أسلوبه. فمن ينكر الأسلوب فقد أنكر الأدب في الواقع
وموقف الدكتور زكي مبارك من قيمة الأسلوب موقف عجب. فهو يجعل الأسلوب فصلاً بين لغة ولغة، ولكنه لا يجعله فصلاً بين أديب وأديب أو بين بليغ وبليغ. فالفصاحة والبلاغة عنده للمعنى، لا للفظ ولا للأسلوب. اقرأ له إن شئت في صفحة 68 من الجزء الثاني قوله: (ونحن نرى أن سر الفصاحة والبلاغة يرجع إلى ما في المعنى من قوة وروح). وبعد أن أورد القطعة المعروفة التي أولها: لو كنت من مازن لم تستبح أبلى بنو اللقيطة. عقب عليها بقوله (وهذه القطعة من بدائع الشعر العربي. وهي قطعة خالدة ستظل قوية بارعة ما بقي في العالم ناس يفهمون سر العربية. ومع هذا لا تستطيع أن تجد فيها ألفاظاً يغز على غير قائلها الوصول إليها، أو أسلوباً في التعبير يتميز عن غيره من الأساليب. وجمالها كله يرجع إلى دقة المعنى وطرافته وتخير الألفاظ تخيراً يجعلها تتمثل مع المعنى كتلة واحدة)
ثم اقرأ له بعد ذلك (وقد تجد من الشعر ما تخلو معانيه وألفاظه من الروعة الظاهرة ولكن قوة الروح تصل به إلى أسمى غايات الإبداع. ومثال ذلك قول حطان بن المعلي يشكو فقره وما وضع القدر في رجليه من قيود الأهل والذرية:
أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخ عال إلى خفض
وبعد أن استوفى القطعة المعروفة قال: (وقوة هذا الشعر ترجع إلى الشاعر لا إلى اللفظ ولا إلى الأسلوب). وهو في تفريقه هذا بين الشاعر وأسلوبه كمن يفرق بين المرء ووجهه أو بين الوجه وقسماته، فالأسلوب هو الشاعر والكاتب، والشاعر والكاتب هو الأسلوب. أو بعبارة أدق، الأسلوب هو مظهر الأديب ومعبره سواء عبر عن كل ما في نفسه أو ع بعضه، فهو كل ما يعرفه الناس من الشاعر أو الكاتب، ولعل التفاوت في الأدب هو بقدر التفاوت في تعبير الأسلوب عن صاحبه، فأقدر الأدباء هو أكثرهم تمثلاً في أسلوبه. لكننا نترك هذه المسألة للمشتغلين بالأدب يتنازعونها بينهم، يوافقون الدكتور أو يخالفونه، لكن الذي يهم فيما نحن بسبيله هو إنكار الدكتور في الظاهر كل قيمة للأسلوب، واضطراره في النهاية إلى الإقرار له بكل قيمة حين جعله هو والمعنى كتلة واحدة كما رأيت في تعليقه على القطعة الأولى، وكما ترى له فيما يأتي:
(ولا جدال في أن الألفاظ والأساليب تتلون وتتشكل بلون الفكرة التي تسيطر عليها. وعلى هذا الأساس وجد والأسلوب الجزل والأسلوب الرقيق. فالرقة والجزالة من مقتضيات المعاني لا الألفاظ. فالمعنى الجزل له لفظ جزل، والمعنى الرقيق له لفظ رقيق. فإذا غلبت الرقة على شاعر مثل إليها زهير فمرجعها إلى الفكرة لأنه شاعر وديع يعبر عن معان وديعة يلهم أمثالها أصحاب الوداعة والرقة من الشعراء المترفين. وإذا غلبت الجزالة على شاعر مثل المتنبي فمرجعها أيضاً إلى الفكرة لأنه شاعر طامع في أسمى ما يطمح إليه فحول الرجال. . .) ص71 وهو في هذه القطعة يجعل المسألة مسألة ألفاظ ولا يجعل للتركيب شيئاً، ثم يجعل اللفظ هو والمعنى شيئاً واحداً، كأن المعنى إذا قام بالذهن، والشعور إذا قام بالنفس، جاء اللفظ طائعاً، جزلاً أو رقيقاً حسب المعنى أو الشعور. وهو لا يلتفت إلى ما يستلزمه هذا الرأي من وجوب اتحاد الأساليب باتحاد المعاني عند الأدباء، مما هو باطل بالبداهة، بل يزداد إغراقاً وأغراباً إذ يقول: (ثم نقرر أن الألفاظ ملك للجميع يجدونها حيث أرادوا في المعاجم والدواوين! (والتعجب من عندنا) ولا يبقى موضعاً للجهد والعنت أو العبقرية إلا المعاني والأغراض
. . . إن الألفاظ في مقدور كل شاعر وكل كاتب وكل خطيب، ولكن المعجز حقاً هو الفكرة. وليس معنى هذا أننا لا نقيم وزناً للصناعة الفنية. ولكن معناه أننا نقرر أن الفكرة تجيء أولاً ويجيء الورق ثانياً كما يقول الفرنسيون). وهو يريد بالورق فيما يبدو الألفاظ والأسلوب الذي سيبدو على الورق، فإذا كان ذلك كذلك فقد رجع بعد طول الحوار والخلاف إلى ما عليه جمهرة الأدباء من أن المعنى أهم من الصناعة الفنية ولكن الصناعة الفنية لها قيمتها ووزنها. والأمر إليك الآن في أن تجد اسماً لهذه الظاهرة في كلام صاحب النثر الفني: سمها تناقضاً، أو سمها اضطراباً وتبلبلاً، أو سمها رجوعاً عن مذهب ظن أنه ابتكره إلى مذهب الناس، وإن شئت فسمها رجوعاً إلى الحق إن كنت ممن يحسنون به الظن
ولكن - وهذا هو لب الموضوع وروحه - هل نظنه حكم القرآن بشيء من ناحية الأسلوب؟ سأترك صاحب النثر الفني يعبر عن نفسه بقدر الإمكان. قال متمهاً لكلامه السابق:
(وقد رأى ناس قول البلاقلاني (ليس القرآن من جنس كلام العرب) فقرروا خاطئين أن القرآن يخالف ما درجت عليه البلاغة العربية من حيث الأسلوب. ولو سألتهم عن تحديد معنى الأسلوب لعجزوا عجزاً مبيناً، لأن الأسلوب في رأينا هو الصورة الظاهرة لعقل الكلام أنه قد هدم كل ما قاله من قبل، وجعل الأسلوب هو كل شيء ما دام هو الصورة الظاهرة للعقل والروح والفكرة والغرض، وهذه عنده هي كل شيء، فلعله يحكم للأسلوب القرآني بشيء - (وليس في مقدور أحد من المتفوقين في علوم البلاغة أن يحدد الأسلوب تحديداً منطقياً بجمع خصائصه وبمنع ما يتطرق إليه من غريب الأوصاف، أو أن يدلنا على خواص أسلوب القرآن دلالة واضحة بريئة من عوارض اللبس والغموض، فإن ألفاظ القرآن كألفاظ كل كلام عربي مبين لا تمتاز باللفظ ولا بالأداء وإنما تمتاز بالمعنى والغرض والروح)!
أترى صاحب هذا الكلام يعقل ما يقول؟ إنه يطالب غيره بتحديد الأسلوب تحديداً منطقياً. ألا يتعلم أولاً من المنطق كيف يكون التفكير؟ ألفاظ القرآن لا تمتاز باللفظ! طيب! ولا بالأداء! طيب أيضاً! فهذا هو مذهب الدكتور. وإنما تمتاز بالمعنى والغرض والروح! ألم يقل هذا الرجل قبل ذلك بأسطر إن الأسلوب في رأيه هو الصورة الظاهرة لعقل الكاتب وروحه وفكرته ومرماه؟ أليس معنى ذلك أن الأسلوب يمتاز بامتياز ما يمثله من روح وفكرة ومرمى؟ فكيف استقام عنده أن يمتاز القرآن بالمعنى والغرض والروح ولا يمتاز باللفظ ولا بالأداء؟ ألم يقرر من قبل أن المعنى الجزل له لفظ جزل، والمعنى الرقيق له لفظ رقيق، وأن الألفاظ والأساليب تتلون وتتشكل بلون الفكرة التي تسيطر عليها؟ فكيف جاز في تفكيره أن يكون للمعنى القرآني امتياز لا يكون مثله للفظ القرآني والأسلوب؟ إن هذا الرجل لا يدري أنه بقوله هذا يجمع على نفسه إنكار إعجاز المعنى إلى إنكار إعجاز الأسلوب!
والعجيب من أمره أنه بمضي على وجهه بضرب الأمثال لرأيه ذلك من القرآن إذ يقول: (فإن أراد أحد شاهداً على ما نقول فإنا تفتح المصحف عرضاً بدون تخير، ثم ننقل آيات لنسأله أن بعين ما جاء فيه غريباً عن الأساليب العربية. ولنختر خمس آيات من مطلع سورة الأنبياء: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون. ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون. لا هية قلوبهم، وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون. قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم. بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون))
ومن قبل أن يستتم المعنى بالآية السادسة على الأقل (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها، أفَهُم يؤمنون) جعل يسأل القارئ (فأين تكون غرابة الأسلوب في هذه الآيات الخمس؟ وأين يكون السياق الفني الغريب عن الأعراب؟ أليس مرجع الروعة في هذه الآيات إلى المعنى والروح؟ أترونها تمتاز بالسجع؟ وكيف والسجع كان معروفاً قبل القرآن؟ أترون ألفاظها متخيرة منتقاة؟ هو ذلك ولكن كيف يدور اختيار الألفاظ؟ أترون لاختيار الألفاظ مداراً غير موجبات المعاني والأغراض؟) أسئلة يرسلها على القارئ كأن القارئ حكم في الموضوع، وليس كل قارئ يستطيع الحكم فيه. ومع ذلك فإن صاحب النثر الفني قد دل بتلك الأسئلة على أنه ليس من الأدب ولا من صحة التفكير في شيء، وإلا فأين في اللغة العربية كلها يجد خارج القرآن أسلوباً كأسلوب تلك الآيات الخمس؟ ليدل قراء العربية عليه إن كان يستطيع. وأمامه الآيات قد عرف معناها - إن كان قد عرفه - فليعبر عن المعنى، وليحتفل، ولينظر أين يصل به الجهد. بل ليختر آية منها، أيها شاء، وليقصر محاولته عليها ولو بتغيير لفظ، أو تغيير حرف، أو تغيير ترتيب، ثم لينظر هل يمكن أن يأتي بشيء يقبله منه أهل العربية أنه عدل الآية، أو قرب منها، أو يمكن أن يوضع وإياها في ميزان. إنه التحدي القديم أطرحه في أبسط صورة عليه الآن من جديد
ويزعم زكي مبارك أن السياق الفني في تلك الآيات ليس غريباً عن الأعراب. فمن أين له ذلك وهو يقول أن: (ما نقله الرواة من النصوص لا يكفي لتعيين أساليب النثر في العصر الجاهلي. وهو على قلته مما وضع في العصر الأموي وصدر العصر العباسي لأغراض دينية وسياسية)؛ فمن أين له تعيين أسلوب الحواضر فضلا عن أسلوب البوادي حتى استطاع الحكم؟
ويقول الدكتور زكي مبارك إن السجع كان معروفا قبل القرآن، جواباً على ما افترض على لسان القارئ من امتياز الآيات بالسجع، كأنه يظن مجرد وجود السجع هو الامتياز. فإن كان هذا هو المراد فقد أنطق القارئ بجواب غير معقول ليأتي عليه برد معقول! أم هو يرى أن ما سماه في الآيات سجعاً هو سجع من السجع لا فضل له على ما سواه. هذا هو لازم رده على ما أنطق به القارئ من جواب، إن كان يرى أنه أحسن الرد. وإذن يكون رده ذلك دليلا على تسويته في التقدير بين سجع القرآن وسجع غير القرآن
ثم يمضي الدكتور زكي مبارك في استشهاداته يقول: (فإن كانت هذه الآيات الخمس لا تكفي فإلى القارئ شواهد أخرى من القرآن المجيد. يقول الله غز شأنه (ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا) وأنا أشهد صادقاً أني ما فكرت في هذه الآية إلا دهشت من سمو هذا النصح النبيل. فأين يكون جمال هذه الآية؟ أترونها من جنس غير جنس كلام العرب كما زعم البلاقلاني؟ هيهات! إن ألفاظها تشبه جميع الألفاظ وتركيبها لا يتميز بشيء عن غيره من التراكيب). ثم يستكمل الاستشهاد بقوله: (على أنه من الخير أن نسوق الآية كاملة لنتبين كيف يكمن أن تكون بعض أجزاء الآية الواحدة أقوى من بعض: (ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). ألا ترون إن أنصفتم أن كلمة (اعدلوا هو أقرب للتقوى) تقل في قوتها عن كلمة (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا). فما هو سبب التفاوت؟ لا يظن أحد أن مرجع التفاوت هو الأسلوب؛ فإن القرآن تفرد في رأي مخالفينا بوحدة الأداء والتعبير. فلم يبق من فرق بين صدر الآية وعجزها غير تفاوت المعنى. والتفاوت هنا جاء من أن صدر الآية معنى بكر لا يجري إلا على ألسنة الحكماء والأنبياء، على حين نرى عجز الآية يؤدي معنى مفهوماً لدى جميع الناس)!
فهل ترى هذا الرجل يفهم قوله تعالى (اعدلوا، هو أقرب للتقوى)؟ لو كان يفهمه ما قال أنه مفهوم لدى جميع الناس. وأي ناس يا ترى؟ الناس الآن الذين ألفوا القرآن، أم الناس في الجاهلية، أم الناس في صدر الإسلام؟ وبأي ميزان يا ترى تبين له التفاوت بين جزئي الآية؟ إنه لا يفهمهما رغم تحمسه لأولهما، وإلا ما افترض أن الإنصاف يقضي بالاعتراف بأن ثاني الجزءين دون الأول؛ بهتاناً يلقيه بغير دليل. إنه يرمي الكلام جزافا، وإلا ما قال إن المعنى الأول بكر لا يجرى إلا على ألسنة الحكماء والأنبياء والثاني غير بكر، مع أنه هو الذي لا يمكن أن يجري إلا بوحي على ألسنة الأنبياء
ثم إن الرجل يكذب حين يزعم لك أنه أورد الآية كاملة. فهو لم يورد إلا نحو ثلث الآية، على جلال ما أورد. فالآية هي من سورة المائدة: (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون)
بقى شاهد من عدة شواهد لا يتسع لها المقال: (ثم لننظر قوله جل ثناؤه: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) هذه من غرر الآيات القرآنية فأين يقع منها الحسن؟ أترونه في اللفظ؟ أترونه في الأسلوب؟ وكيف وهي ألفاظ يجدها من يريد، في أسلوب واضح يدركه جميع المخاطبين ويستطيعه جميع الكاتبين؟ إن الجمال هنا في الروح العالي، حيث يخاطب الله الآثمين وقد ألقى بهم في نار الجحيم). ولو كانوا في نار الجحيم لجاز أن يشغلهم العذاب عن سماع الخطاب، ولكنهم في موقف الحساب قبل أن يحكم عليهم بالنار، وشتان بين وقعي الكلام في المقامين. ولكن صاحب النثر الفني لا يدرك من دقيق الإعجاز ولا جليله شيئاً، لا في المعنى ولا في الأسلوب، ولا في مقتضى الحال. فسيان منه الإنكار والإقرار. فإقراره - لو أقر - إقرار مخطئ، وإنكاره إنكار مغرور
محمد أحمد الغمراوي