مجلة الرسالة/العدد 563/القرآن الكريم
→ وظيفة المرأة | مجلة الرسالة - العدد 563 القرآن الكريم [[مؤلف:|]] |
من روائع (دكنز) ← |
بتاريخ: 17 - 04 - 1944 |
2 - القرآن الكريم
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ألف زكي مبارك كتابة النثر الفني كأنما أراد أن يزلزل به الزمان فخرج فيه على الإجماع في أمر القرآن
وعلماء العربية - والأئمة المجتهدون منهم - مجمعون طوال تلك القرون على أن القرآن معجز. وأول شرائك الإعجاز التنزه عن كل ما يمكن أن يعد عيباً في الكلام، وإلا لأمكن لبليغ أن يستدرك على القرآن. من أجل ذلك لم يؤثر عن عالم من علماء العربية الذين تعرضوا لنقد الكلام الفصيح أن ذكر شيئاً يكمن أن يعد عيباً حين تكلم عن القرآن؛ لكنك حين تأخذ في أول فصل من فصول كتاب زكي مبارك، فصل نقد النثر الفني، تجده في أول صفحة منه يعيب على علماء العربية أنهم حين تعرضوا لنقد القرآن لم يذكروا إلا المحاسن، فنقدهم من أجل ذلك ليس في رأيه بالنقد الصحيح! اقرأ له إن شئت قوله من صفحة 17:
(وليس في اللغة العربية كتاب منثور شغل به النقاد غير القرآن. على أن شغل النقاد لم يكن عملاً فيناً بالمعنى الصحيح للنقد الأدبي؛ فقد كان مفروضاً في كل من يكتب عن القرآن أن يظهر عبقريته هو في إظهار ما خفي من أسرار ذلك الكتاب المجيد، وليس هذا من النقد في شيء. وإنما النقد أن يقف الباحث أمام الأثر الأدبي موقف الممتحن للمحاسن والعيوب. من أجل ذلك وسم أكثر ما كتب عن القرآن باسم الإعجاز لأن النقاد اطمأنوا إلى أن القرآن هو المثل الأعلى الذي تقف عنده حدود الطبيعة الإنسانية في البلاغة والبيان)
فما رأيك في مذهب صاحب هذا الكلام في القرآن؟ أتراه يطمئن إلى ما اطمأن إليه النقاد، أم تراه مخالفاً لهم يرى في القرآن عيوباً لم يروها ولا يمكن أن يراها بصير منصف لأنها غير موجودة في القرآن، فعابهم بأنهم لم يذكروا إلا المحاسن، وأن نقدهم من أجل ذلك غير فني ولا صحيح؟ وعبارته تلك فيها أكثر من مأخذ من ناحية الدقة ومن ناحية الخروج. فهو غير دقيق في حكاية مذهب النقاد في تقدير بلاغة القرآن، فإن مذهبهم أعلى كثيراً مما نسب إليهم وحكى عنهم، لأنهم يجعلون القرآن فوق طاقة البشر ووراء حدود الطبيعة الإنسانية في البلاغة والبيان، وهو يجعله في مذهبهم عند حدود الطبيعة الإنسانية، وما كان عند الحدود أمكن بلوغه وإن احتاجت الطبيعة الإنسانية إلى أقصى غايتها وأقصى مداها كي تبلغه. وهو معنى لم يقصد إليه النقاد طبعاً، كما لم يقصد زكي مبارك بنسبته إليهم أن يظلمهم، وإنما هي قلة دقة منه في التعبير عنهم، فالقرآن عندهم هو المثل الأعلى الذي تقف دونه - لا عنده - حدود الطبيعة الإنسانية في البلاغة والبيان
كذلك هو غير دقيق في قوله إن أكثر ما كتب عن القرآن وسم باسم الإعجاز، ولو قال باسم إعجاز القرآن لأصاب الدقة والصحة التاريخية معاً، لأن إعجاز القرآن عندهم من الثابت المسلم، فمن المعقول إذا كتبوا في بلاغة القرآن أن يبينوا ذلك الإعجاز ودلائله، وأن يطلقوا على ما يؤلفون في ذلك في الكثير الغالب باسم إعجاز القرآن
أما خروجه في تلك العبارة على علماء العربية وعلى الإجماع فكما رأيت. فالنقد عنده أن يقف الباحث أمام الأثر الأدبي موقف الممتحن للمحاسن والعيوب. وهذا صحيح ولكن في نقد كلام الناس لا كلام الله. لو كان القرآن كلام بشر لكان أثراً أدبياً لصاحبه، ولجاز أن يكون بازاء المحاسن عيوب يبحث عنها النقد. أما وهو من كلام خالق البشر أنزله سبحانه معجزة لرسوله وتحدي به الجن والإنس على اختلاف العصور، فكيف يمكن أن يقف الناقد أمامه إلا كما يقف العالم أمام آية من آيات الله في الأرض أو في السماء؟
إن العلم حين يقترب من آيات الله في الخلق يقترب اقتراب المنقب عن سر مودع، لا الباحث عن عيب. يقترب اقتراب العابد لا اقتراب الناقد، فإذا وقف على ما يعقل ويفهم عد ذلك من التوفيق واتخذه نبراساً ودليلاً في بحثه عن سر ما لا يفهم، ولا يخطر له مطلقاً أن يحسن الظن بنفسه ويسيء الظن بالفطرة إذا تعارض رأى مع شيء من الواقع في الفطرة، فهو يأخذ الواقع كما يجده، وينبذ من الرأي ما لا يتفق معه وإن عز. ومن هنا ينتقل العلم من ظفر إلى ظفر ويكشف عن سر بعد سر ويزداد قوة على قوة. ولو فعل غير ذلك واقترب من الفطرة يفترض عيوباً فيها يتطلبها لوقف ولفسد ولضل، ولأصبح فصلاً من فصول الأدب الذي يريد الدكتور زكي مبارك. والفطرة هي الفطرة في عالم المادة أو في عالم الروح، وفاطرها هو هو سبحانه، يتقرب إليه عباده بدراسة آياته، أينما وكيفما تكون، بروح الخاشع الملتمس الهدى المبتغى الوصول. فإذا كانت حكمة الله ورحمته قد اقتضت أن يجعل للإنسان بازاء الآيات التي لا نهاية لها في عالم المادة والعلم آية واحدة عظمى في عالم الروح والأدب، ألا وهي كتابه المنزل على خاتم رسله وصفوتهم، أفيكون من المعقول أن يقترب الإنسان من آية الله هذه بغير الروح التي يقترب بها من آيات الله تلك، وينظر في كلمات الله المودعة في قرآنه بغير روح الخشوع والإجلال وطلب الهدى التي ينظر بها في كلمات الله المودعة في خلقه؟
إن القرآن كلام الله كما أن النبات والحيوان والكواكب من كلماته، وإن اختلف في كل الخطاب. بكل خاطب الله عباده، ومن كل أعجز الله خلقه أن يأتوا بمثله، بعضه أو كله، ليكون عجزهم دليلاً لهم وحجة عليهم، وعن كل عجزوا. أفيدرس الناس آيات الله في النبات والحيوان والكواكب لا يتوقعون عيباً ولا يرون إلا كمالاً يتفاقم ويزداد فلا يجد زكي مبارك في ذلك ما يلمزهم به، ولا يعد علمهم لذلك علماً غير صحيح، حتى إذا درسوا آيات الله في القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم يتوقعوا نقصاً ولم يروا عيباً ولم يجدوا إلا كمالاً وجلالاً وإعجازاً، لمزهم وهمزهم وقال لم يذكروا إلا المحاسن كأن هناك يجنب المحاسن عيوباً كان عليهم أن يذكروها وإلا كانوا غير نقاد؟
إن العهد الذي كان ينظر فيه في القرآن نظر تطلب للعيوب قد مر بالفعل، مر إلى غير رجعة. والذين نظروا في القرآن تلك النظرة التي يدعو إليها الآن الدكتور زكي مبارك كانوا أقدر من منه ألف مرة على إدراك عيب لو وجدوه، وأبصر بنقد الكلام، لأنهم كانوا أهل العربية الفصحى رضعوها ودرجوا عليها ونشئوا فيها وأحكموها شباناً وشيباً رجالاً ونساء، فكانوا يصدرون فيها عن بصيرة وفطرة، كما لا يمكن أن يصدر الدكتور زكي مبارك أو يبصر مهما تكلف واجتهدوا واحتفل. وما منهم من أجد إلا ونظر - قبل أن يسلم - في ما بلغه من القرآن نظرة ناقد خبير فاحص يلتمس الوهن والعيب، فلما لم يجد عيباً ولم ير إلا كمالا باهراً وإعجازاً ظاهراً سلم وأسلم. فكل عربي كان مشركاً ثم أسلم شاهد صدق على أن القرآن فوق القوى والقدر، مبرأ منزه في جملته وتفصيله عن النقص والعيب. فأي كتاب أو أي كلام لقي من النقد ما لقي القرآن، وعرض من أهل العلم والفن على مثل من عرض عليهم القرآن كثرة ومقدرة وخبرة، وفاز ببعض ما فاز به القرآن من التسليم له والإيمان به الجهاد بين يديه؟ أفيقال بعد ذلك إذا أقبل علماء العربية عليه يتطلبون أسرار كماله كما يتطلب علماء الفطرة أسرارها، أن فنهم لم يكن بالفن ونقدهم لم يكن بالنقد، لأن كلا منهم كان يظهر عبقريته في إظهار ما خفي من أسرار ذلك الكتاب المجيد؟
أظن النص الذي قدمته من صدر أول فصل في النثر الفني كافياً في إثبات دعواي على صاحب النثر الفني أنه يدعو إلى نقد القرآن. وليس هو بالنص الواحد الذي في الكتاب في هذا الباب؛ فهناك في الجزء الثاني في ترجمة القاضي أبي بكر الباقلاني نصوص لا تقل دلالة عن النص السابق. ففي صدر ذلك الفصل يقول مؤلف النثر الفني (ص61):
(إن الباقلاني ومعاصريه رأوا أن في الإمكان أن يوازنوا بين قصيدة من الشعر وسورة من القرآن وإن لم يتحد الموضوع) وهم لم يفعلوا ولم يوازنوا بين قصيدة وسورة، لأنهم كانوا أبصر بالنقد وأرعى لحرمة القرآن من هذا، ولكنهم تعرضوا للشعر ونقدوا بعض عيون قصائده، مبينين عيوبها غير مغفلين محاسنها، كما فعل القاضي رحمه الله، وكما ينبغي أن يفعل الناقد البصير حين يتعرض لما فيه محاسن وعيوب. أما القرآن فقد كانوا يعلمون عن بصيرة ويقين أن محاسنه فوق أن يحيط بها علم عالم أو نقد ناقد، فكانوا يكتفون بالبحث العام في وجوه الإعجاز موضحين آراءهم بالأمثلة يضربونها من بعض الآيات وبعض السور من غير قصد إلى مقارنة أو موازنة حيث الفرق هائل والبون شاسع بعيد
ثم يقول صاحب النثر الفني في نقد الباقلاني وأمثاله:
(وهذا النحو من النقد يعد من المحاولات البارعة في الأدب العربي ولا عيب فيه إلا التحامل والإسراف)! ثم يحاول أن يوهم القارئ أنه هو يصدر عن غير تحامل وإسراف وأنه يحكم بالعدل بين فريقين، فيمضي يقول: (فإن خصوم القرآن كانوا يأبون إلا الوصول إلى شواهد يحكمون لها بالفضل، والباقلاني كان يعمد إلى القصائد التي يعرف فيها الضعف ليصل دائماً إلى الحكم للقرآن بالفضل) ص62
وهو لم يأت بمثل لما كان يفعل خصوم القرآن، كما أنه يعلم أن الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن لم يتعرض إلا لما أجمع أهل الأدب أنه من عيون الشعر كمعلقة امرئ القيس، لكن صاحب النثر الفني في سبيل مذهبه لا يبالي أن يفتري على الباقلاني، ولعله افترى على من سماهم خصوم القرآن ثم يمضي الدكتور زكي مبارك فيقول: (إن الذي يوازن بين قصيدة من الشعر وسورة من القرآن يجب أن يكون مستعداً للحكم بالعدل. وهذا لا يتيسر لناقد يرى من همه أن يبحث عن مساوئ القصيدة ويطمس محاسنها أو يتجاهلها أو يغض من قيمتها، وهو في مقابل ذلك يجد في البحث عن محاسن السورة القرآنية وإبراز مزاياها، ولا يستبيح لنفسه التفكير في وضع ألفاظها أو معانيها أو أغراضها أو أسلوبها موضع النقد. وهذا كاف في تجريح ما هموا به قديماً من الموازنة بين أثرين أحدهما من الشعر وثانيهما من القرآن)
وهذا أيضاً كاف في إثبات ما ادعيناه على الدكتور زكي مبارك من دعوته إلى نقد القرآن، وهو أول أدلتنا على ما اتهمناه به في أمر القرآن
محمد أحمد الغمراوي