مجلة الرسالة/العدد 561/محاورات الموتى
→ أطوار الوحدة العربية | مجلة الرسالة - العدد 561 محاورات الموتى [[مؤلف:|]] |
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها ← |
بتاريخ: 03 - 04 - 1944 |
المحاورة الرابعة
للكاتب الفرنسي برنار بوفيه دفونتنيل
بقلم الأديب يوسف روشا
سقراط ومونتين
سقراط: ولد في أثينا حوالي 470 قبل المسيح وأشهر تلاميذه أفلاطون وإكزانفوف وألسيبيادس. ولقد هاجمه أرسطوفان هجوما عنيفا وسخر منه في قصته (السحاب). اتهم ظلماً في سنة 399ق. م بإفساد الشبيبة بتعاليمه وقدم للمحاكمة فدافع عن نفسه بخطبة شهيرة أحنقت القضاة فحكموا عليه بالموت
مونتين: أديب فرنسي شهير ولد سنة 1533 ميلادية، وقد اشتهر بمقالاته التي تناول فيها رجالات المجتمع في عصره بالدرس والتمحيص. وإنك لتجد آراءه وتأثيره بأدبه في أغلب كتاب فرنسا في العصرين السابع عشر والثامن عشر. على أن تأثيره لم يقتصر على فرنسا بل تعداها إلى إنجلترا، حيث تأثر به الكاتبان الإنجليزيان (شكسبير) و (بيكن)
المحاورة
مونتين: أأنت سقراط النبيل؟ ما أسرني بلقائك! لم يمض على قدومي هذه المدينة غير يسير، ومنذ قدمت ما برحت أبحث عنك. وأخيراً، وبعد أن ملأت كتابي باسمك وبالثناء عليك أستطيع أن أتكلم الآن معك وجهاً لوجه لأعرف شيئاً عن تلك الفضيلة الساذجة التي اتصفت بها والتي لا نظير لها حتى في ذلك العصر السعيد الذي عشت أنا فيه
سقراط: يسرني جداً أن أرى شبحاً كان فيما يظهر فيلسوفا. ولما كنت قد هبطت إلينا منذ قريب ولم أجتمع بأحد هنا منذ بعيد، لأني أعيش في عزلة تقريباً؛ فهل تسمح لي أن أسألك. كيف حال العالم؟ هل تغير؟
مونتين: لقد تغير العالم إلى حد أنك لا تعرفه إذا عدت إليه
سقراط: أنا مغتبط بهذا جداً. لقد كنت على يقين دائم بأن من الحتم أن يصبح عالمكم أحسن وأعقل من عالمي الذي عشت فيه مونتين: ماذا تعني؟ لقد أصبح العالم أحمق وأفسد مما كان عليه من قبل. ذلك هو التغير الذي إياه عنيت وإليه قصدت. وإني كنت منتظراً أن أسمع منك وصف العالم الذي عشت فيه وعاصرته وكان يسود فيه العدل والاستقامة
سقراط: وأنا أيضاً كنت منتظراً منك أن تصف لي عجائب العصر الذي عشت فيه وصفاً شاملاً. يا للداهية الدهياء! أحق أن الناس لم يقلعوا حتى الآن عن تلك الحماقات التي كانت سائدة في قديم الزمان؟
مونتين: يغلب على ظني أن انتسابك لذلك العهد هو السبب في احتقارك إياه وتصغيرك من شأنه. ولكني أعلمك أن ضياع تلك العادات والأخلاق لمما يبعث الأسى والأسف، ذلك أن الأمور تزداد سوءاً يوما بعد يوم
سقراط: أممكن هذا؟ إن الأمور في زماني كانت تبدو لي سيئة جداً؛ ولكن لم يساورني شك في أنها ستتحسن على تعاقب الأجيال، وأن الناس سينتفعون من تجاريب هذه السنين الطويلة
مونتين: أينتفع الناس حقاً من تجاربهم؟ إنهم لا يختلفون عن الطيور التي تقع دائماً في الأشراك التي وقع فيها مئات الألوف من جنسهم قبلهم. كل امرئ يدخل الحياة مستقلاً، فلا يستفيد الأبناء حماقات الآباء
سقراط: ماذا لم يكن هناك من تجارب يستفيد منها الناس. وكنت أظن أن سيكون للعالم شيخوخة أقل سخفاً وعناداً من شبيبته
مونتين: الناس في أي زمان شئت تحفزهم نفس الميول والأهواء التي لا سلطان للعقل عليها، وحيثما كان الناس كان الطيش والحمق اللذان لا يتغيران أبدا
سقراط: إذا كان الأمر كذلك فلماذا تتصور أن الأقدمين كانوا خيراً من المحدثين؟
مونتين: تلك طريقتك التي انفردت بها يا سقراط والتي أعرفها جيداً. . . طريقة في المحاورة والمداورة بارعة تشوش بها مناظريك وتقودهم إلى حيث شئت. وإني لأعترف بأني قد رأيت هنا رأياً يخالف ما كنت رأيت من قبل ولكني مع هذا لن أسلم لك لأن رجالاً ذوي حزم وعزم وثبات كأرستيد وفوسيون وبركليس ولا سيما سقراط لا تجد لهم نظراء اليوم سقراط: ولماذا؟ وهل استنفدت الطبيعة قواها ولم يعد في إمكانها أن تخرج رجالاً عظاماً؟ ولماذا يصيبها العقم فيما عدا ذلك؟ لم ينحط عمل من سائر أعمال الطبيعة فلماذا قدر للرجال وحدهم أن ينحطوا؟
مونتين: يبدو لي أن الطبيعة في بداية أمرها أخرجت لنا نماذج من الرجال الممتازين لتقنعنا بأنها تعرف جيداً كيف تخلقهم إن هي أرادت ذلك ثم أهملت فيما بعد شأن الباقين فانحطوا وتدهوروا
سقراط: كن على حذر من هذه، الناحية فلا تشتط. إن القديم في ذاته شئ فريد؛ وإن تقادم العهد يضفي عليه شيئاً من الروعة. ولو قدر لك أن تعرف أرستيد وفوسيون وبركليس وتعرفني، ما دمت تحب أن تعدني منهم، لوجدت في زمانك رجالاً يماثلوننا. ولكننا عادة نميل إلى القديم ونتعصب له لأننا نكره زماننا ونمقته. فنحن نعظم القدماء لنحط من قدر المحدثين. ولقد كنا في زماننا نذهب في تقدير أسلافنا إلى أبعد حدود الغلو والإسراف، واليوم يمجدنا أحفادنا أكثر مما نستحق ولهم كل الحق. وأكبر ظني أن النظر إلى العالم من ناحية واحدة خليق أن يبعث في نفوسنا السأم؛ لأن العالم لا يتغير ولا يتبدل
مونتين: لقد كان يخيل إلي أن كل شئ في العالم يتغير وأن لكل جيل طابعه الخاص الذي يتميز به، وذلك كالناس، فهناك أجيال اشتهرت بالعلم وأخرى بالجهل. أفلا يوجد ثمة أجيال كان طابعها الجد وأخرى كان طابعها الهزل؟
سقراط: بلى
مونتين: إذن ما هو المانع من أن يكون هناك أجيال أكثر صلاحاً وأخرى أكثر طلاحاً من غيرها؟
سقراط: ذلك لا يطرد ولا يستقيم مع ما نحن بصدده. فالملابس تتغير بتغير الأزياء ولكن ذلك لا يعني أن شكل الجسم يتغير أيضاً. فالدماثة أو الخشونة، والعلم أو الجهل، والجد أو العبث، ليست إلا مظاهر خارجية للرجل وكلها تتغير، ولكن القلب لا يتغير، وما الرجل إلا قلبه. فقد يشيع الجهل في جيل ما ثم تعقبه نهضة علمية فتحل محله. ولكن الأنانية لن تزول من العالم مهما بذلنا في سبيلها من جهد، ذلك لأنها تصدر عن القلب. وأن من بين ملايين الرجال الضعاف القلوب لا تجود الطبيعة في كل مائة عام إلا بعشرين أو ثلاثين من الرجال الواسعى العقول، الكبيري القلوب، فتضطر إلى توزيعهم على جميع أنحاء العالم. ومن هذا تستطيع أن تحكم بأنه لا يمكن أن يوجد منهم في أي مكان عدد لنشر بذور الفضيلة والعدالة
مونتين: ولكن هل روعي العدل في توزيع هؤلاء الرجال العقلاء النوابغ؟ ألم يكن نصيب بعض الأجيال منهم أوفر من نصيب البعض الآخر؟
سقراط: قد يكون هناك بعض الاختلاف؛ ولكن الطبيعة على العموم تبدو منتظمة متسقة.
(بغداد)
يوسف روشا