مجلة الرسالة/العدد 561/الحكم على الشعر
→ شر ولا سر. . . | مجلة الرسالة - العدد 561 الحكم على الشعر [[مؤلف:|]] |
اللغة. . . والوطن. . . ← |
بتاريخ: 03 - 04 - 1944 |
وأساليب النقد والتحليل
للدكتور محمد صبري
الشعر أعلى وأدق تعبير للحياة وقد وصفه أحد شعراء الإفرنج بأنه (لآلئ الفكر)، وهو يتصل بخياله وأوزانه بالتصوير والموسيقى اتصالاً وثيقاً، فلابد من الحس المرهف للحكم عليه، ولابد من (الذوق)، وقليلون جداً من يتذوقون الشعر و (يحسون نبو الوتر)، وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد في كل عصر وفي كل جيل. ومهما كان من الأمر فإن التذوق درجات تتفاوت وتختلف باختلاف الأمزجة، والتمرس بالآداب المختلفة، والخبرة والاستعداد الشخصي. فالشاب المنعم الذي لا يعرف متاعب الحياة ويجهل حب البنين، ليس في مقدوره أن يحس لواعج الخزن وعولة الحياة في رثاء ابن الرومي أو الهذلي لبنيه، ولا يفرق بين غناء العود وأنينه، وهو لا يستمع إلا بأذن صماء إلى بكاء الطير في الدوح، ونحيب البلبل في الغاب، وحنين الجمال في البيداء
حنينها وما اشتكت لغوبا ... يشهد أن قد فارقت حبيبا
إن الغريب يسعد الغريبا
والشعر في اعتقادي كالحبة التي أودعها الخالق قوة هائلة مركزة تركيزاً عجيباً مادياً وروحانياً؛ فمن الحبة تخرج الحياة، ومن حدودها الضئيلة تنبت وتتفرع وتنتشر الشجرة بظلها وجناها، فليس في مقدور كل أديب الإحساس بتلك (الهيولي) الساحرة الماثلة في بيت من الشعر. . . في غضون كلمات معدودات. . . وليس في مقدور كل إنسان أن يرى جمال الحقيقة وبهاءها، وفتنة الحياة وفجيعتها، وقوافل الإنسانية البائسة الصامتة المنكسة الرءوس والأعلام، وهي تطل من البيت والبيتين. . .
وقد بكى شعراء العرب أطلال المنازل التي كانت شاهد حبهم وحياتهم في عصر من عصورها، في لحظة من لحظات السعادة الزائلة، فلم يبك أحدهم الحياة في أوسع آفاقها وجناتها الخاوية مثلما بكاها البحتري وهو واقف (بين يدي الإيوان) وبين يدي الله. ولم يندب أحد بعد امرئ القيس الطلل البالي وسكونه. ووحشته بعد الأنس والحياة والحركة والضوضاء وبهجة الألوان، والوجوه والظلال والأشباح، كما ندبها البحتري في قوله: تلك المنازل ما تمتع واقفا ... بزها الشخوص ولا وغى الأصوات
ولأبي تمام بيت رائع من هذا القبيل كان يتغنى به المرحوم حافظ إبراهيم في غاب بولون، وقد صحبته إليها حين زار باريس:
لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار
فهذا الشعر يمثل الحقيقة لأنه صادر عن وجدان صادق، وعاطفة وتجارب مرة، وقوة ملاحظة وتصوير ناطق، وقد امتاز امرئ القيس بحب الحقيقة وتصويرها في أبهتها وجلالها وروعتها فأصبح عاهل الشعر حقاً
ولا ريب أن أروع شعر أبي تمام هو الشعر الذي ترسم فيه الحقيقة، لا الشعر الذي ملأه بديعاً وتكلفاً، وإذا كانت أشهر مراثيه قصيدة:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
وفيها يقول:
تردى ثياب الموت حمراً فما دجى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
فإن هناك قصيدة أخرى هي في اعتقادي أروع منها وأجل، وهي القصيدة التي رثى فيها ابنه، ووصفه وهو يتقلب على فراش الموت ويعاني آلامه:
أخر عهدي به صريعا ... للموت بالداء مستكينا
إذا شكا غصة وكرباً ... لاحظ أو راجع الأنينا
يدير في رجعه لسانا ... يمنعه الموت أن يبينا
يشخص طوراً بناظريه ... وتارة يطبق الجفونا
بُنَىّ يا واحد البنينا ... غادرتني مفرداً حزينا
وقد ذكر شعراء العرب من جاهليين وإسلاميين الطبيعة في شعرهم، ولكن الجاهليين الذي كانوا يعيشون في البادية والفضاء الرحب، والماء والغاب والوهاد والنجاد والصخور والكثبان والسيول والأنهار، كانوا أصدق عاطفة في تصويرها من المولدين، لأن الآخرين ولعوا بالرياض والزهور ومظاهر الطبيعة (السطحية) المنمقة (كالوشي) و (التطريز)، أكثر من ولعهم بالرياح التي تهب، وقوى الطبيعة التي تزخر وتصخب، وتئن في أحنائها وأفيائها. . .
ولعل أكبر صلة تربط امرئ القيس بالإفرنج وتميزه على شعراء العرب كافة هي إحساسه العميق بالطبيعة، وإني وإن كنت قد بينت الصلات الأخرى نصاً وتصريحاً، فإني تركت هذه الصلة (صلة الطبيعة) تبدو (من تلقاء نفسها) شرحاً وتحليلاً، والواقع أن امرئ القيس موهبة من مواهب الطبيعة، يجب أن ندرسها ونتعلق بها تعلق الإنجليز بشكسبير وتراثه الخالد
وقد حصرنا إلى اليوم همنا في تنفير الناس من امرئ القيس، وحصر عبقريته في الاستعارات بين (بيضة الخدر) و (قيد الأوابد) و (السجنجل) و (العقنقل)، وتركنا جوهر الشعر اللامع الوضاء دفيناً تحت الرماد
وقد أبدع العقاد في تحليل شعر ابن الرومي، وكتب صفحات رائعات، وقد يكون لغيره في النقد والتحليل نفثات، وكل ما نرجوه أن نعمل جميعاً على إظهار مكنونات وكنوز الشعر العربي. وأحب هنا أن أذكر أن (كتابة) النقد والتحليل قد ترتفع إلى أعلى مراتب الكتابة والبيان، لأن شخصية الكاتب تتجلى فيها، وهذه الشخصية تبدو في غضون الكتاب لا في العنوان. والشخصية تشمل المزاج وقوة التصوير والقدرة البيانية وتجارب الحياة، وهي كلها ذات أوشاج وصلات مع شعر الشاعر وحياته
وهذا (سانت بيف) أكبر ناقد فرنسي بدأ حياته بالشعر ثم أرصدها للنقد، فساعده خياله وأدبه وسعة اطلاعه على فهم الشعر والمجتمع، وصار الناقد في عبقريته لا يقل عن أكبر شاعر، كما أن (بول بورجيه)، وهو من خيرة الروائيين الذين حللوا الحب والحياة، ساعدته قوة تحليله وفلسفته على كتابة صفحات في نقد الشعراء المعاصرين هي آية في الفلسفة التحليلية، واختراق الستار الذي يحجب الحياة والمجتمع في شعر الشاعر، وقد تمكن كل منهما من إظهار تلك الأشعة الدقيقة التي تحيط بجوهر الشعر والفكر والخيال
محمد صبري