مجلة الرسالة/العدد 56/بمناسبة ذكراه الثانية
→ زهرة | مجلة الرسالة - العدد 56 بمناسبة ذكراه الثانية [[مؤلف:|]] |
من الأدب الهندي ← |
بتاريخ: 30 - 07 - 1934 |
حافظ بك إبراهيم الشاعر الوفي لمصر
بقلم السيد احمد العجان
حافظ شاعر النيل متعدد النواحي في الدراسات، متشعب المباحث في التناول، والتحليل الدقيق إنما يكشف كل ناحية ويبين كل مبحث، وليس الإلمام بعبقريته ونبوغه وشاعريته وخياله مما تأتي عليه هذه العجالة، ولكنا سنقتصر على ناحية واحدة هي وفاؤه للنيل وأهله، وكيف كان هذا الوفاء دفيناً في نفسه، مستقراً في جنانه العامر، يتحرك به لسانه في كل مناسبة، ويجري به قلمه كلما عنت فرصة.
والذي نلاحظه في شعر حافظ هو ما يحملنا على اليقين بصدق وفائه وإخلاصه، ومحبته لمصر وأهلها؛ فهو إذا انتقد كان لاذع النقد قويه، يظهر المثالب، ويعدد المساوئ، ويود لو نتخلص منها، ونحيد عنها. وقد يكون في النقد اللاذع المرّ شكاً في الوفاء والإخلاص لو أنه ضن بالنصيحة وبخل بالإرشاد. ولكن حافظاً حين يهزه الألم من حالة مصر حتى ليود الخلاص من الدنيا، والفرار من الحياة، وحين يسخط شديد السخط عليهم؛ لم يكن لكراهته لهم، وبغضه إياهم، وإنما لأنه يرجو لهم الخير الشامل الغامر، والرقي الدائم السديد، يحدثنا حافظ عن ذلك بأجلى عبارة وأوضح أسلوب.
أنا لولا أن لي من أمتي ... خاذلاً؛ ما بت أشكو النوبا
أمة قد فتّ في ساعدها ... بغضها الأهل، وحب الغربا
تعشق الألقاب في غير العلا ... وتفدّي بالنفوس الرتبا
وهي والأحداث تستهدفها ... تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها ... أم بها صرف الليالي لعبا
ومما يقوي لدينا الأدلة على وفاء حافظ للنيل، وحبه لهذا الشعب أنه لم يكن يقنع بالتحدث عن الغرض الواحد عدة مرات بهذا الأسلوب العالي الرصين، كالذي نراه في وصفه للحالة الداخلية وموقف بعضنا من بعض، وموقف الصحافة منا ومن الوزارة، ثم موقفنا من دار المندوب البريطاني، وبيانه أن طريق الرقي هي العلم، وأنه الوسيلة في النجاح والظفر، وهو من وراء ذلك يضع أمله قوياً في الشباب، ويكثر من ندائه لهم، ولا يزال يستنهض الهمم ويضرب المثل باليابان كما سنوضح ذلك من شعره.
إن إخلاص المخلص لا يؤدي ثمرته إذا لم تتوفر فيه عناصر ثلاثة: نقد قوي اللهجة للمثالب حتى يحس المنتقد ضعفه، ويقف على عيوبه؛ فيجتنب الغرور ويقترب من الفضيلة، ونصح سديد الفكرة تظهر فيه سبل الخير ويبين منه طريق الهدى؛ كي يسلكه المنصوح له دون عثار أو ضلالة؛ وأمل في الله والشعب كبير رجاء التوفيق وابتغاء الإصلاح.
وهذه العناصر الثلاثة قد ظهرت بوضوح في شعر حافظ، وكان لكل منها مظاهره العدة، وأثوابه المتنوعة. وسنتناول كل منها على حدة:
1 - نقده: في الشعر السابق وصف حافظ ما نحن عليه من
كراهة الأهل وحب الغرباء، وأننا كرماء لضيوفنا، نهوى
الألقاب في غير العلا، ونعشق الرتب. ويحدثنا عن حالتنا
النفسية بلغة سليمة مستقيمة فنحن:
ألفنا الخمول ويا ليتنا ... ألفنا الخمول ولم نكذب
تضيع الحقيقة ما بيننا ... ويَصْلى البريء مع المذنب
ويهضم فينا الإمام الحكيم ... ويكرم فينا الجهول الغبي
ونراه يحدثنا عما هو واقع بيننا من الفخر بالمال الموروث أو بالرتب، ثم تأخذه حمية الغضب. فيقول إنما الفخر بالعلم والاختراع، وبالفضل والأدب:
وهل في مصر مفخرة ... سوى الألقاب والرتب
وذي إرث يكاثرنا ... بمال غير مكتسب
فقل للفاخرين أما ... لهذا الفخر من سبب
أروني بينكم رجلاً ... ركيناً واضع الحسب
أروني نصف مخترع ... أروني ربع محتسب
أروني نادياً حفلاً ... بأهل الفضل والأدب
وماذا في مدارسكم ... من التعليم والكتب وماذا في مساجدكم ... من التبيان والخطب
وماذا في صحائفكم ... سوى التمويه والكذب
ولقد عاب علينا اعتبارنا للمظاهر، وانخداعنا بالملابس:
إن قومي تروقهم جدة الثو ... ب ولا يعشقون غير الرواء
قيمة المرء عندهم بين ثوب ... باهر لونه وبين حذاء
وضعف الرجولة داء كمين في بعض المصريين كشف عنه حافظ، وأبان طوائف الناس بين مهلل من المهللين لا يعرف له غرضاً، وبين ساع إلى دار المندوب البريطاني، أو متردد على أبواب الحكام.
فهذا يلوذ بقصر الأمير ... ويدعو إلى ظله الأرحب
وهذا يلوذ بقصر السفير ... ويطنب في ورده الأعذب
وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب
وداء آخر أشد فتكاً، وأقوى بطشاً، وهو الصحف التي تطن طنين الذباب، وما هي إلا حصائد ألسن تجر إلى الويلات وأنها أيبست ما بيننا في الأخذ والرد، فصحف ترى رأي المندوب البريطاني، وأخرى تعد هذا جرماً وإثماً كبيراً، والوزارة من وراء ذلك في رغد ونعيم.
وصحف تطن طنين الذباب ... وأخرى تشن على الأقرب
وماذا في صحائفكم ... سوى التمويه والكذب
حصائد ألسن جرت ... إلى الويلات والحرب
وأرى الصحائف أيبست ... ما بيننا أخذاً وردَّا
هذا يرى رأي العميد=وذا يعد عليه عدَّا
وأرى الوزارة تجتني ... من مر هذا العيش شهدا
ومصابنا الذي يفوق كل مصاب، وداؤنا الذي يعلو على كل داء، وهو تزلفنا لدار المندوب البريطاني وهو البعيد عنا لغة، وجنساً، وديناً، والأجنبي عنا مهبطاً وميلاداً، والذي لا نلتقي وإياه إلا في وادي بؤسنا ودار نعيمه، والذي لا تجمعنا وإياه آلام ولا آمال. وحافظ يبرئ المندوب من كل ذنب، ويخليه من الملام فسبيله أن يستبد، أما نحن فشأننا أن نستعد.
وقالوا دخيل عليه العفاء ... ونعم الدخيل على مذهبي
رآنا نياماً ولما نفق ... فشمر للسعي والمكسب
وماذا عليه إذا فاتنا ... ونحن على العيش لم ندأب
أنا لا ألوم المستشار ... إذا تعلل أو تصدى
فسبيله أن يستبد ... وشأننا أن نستعدا
2 - نصحه وإرشاده: ولكن حافظاً لم تفل من عزيمته هذه
العيوب، ولم تثن همته تلك المثالب، ولم تقعد به هذه المخازي
عن إسداء النصيحة وحث الهمم، وضرب اليابان مثلاً، وجعلها
قبلة.
فهبوا من مراقدكم ... فإن الوقت من ذهب
فهذي أمة اليابان ... جازت دارة الشهب
فهامت بالعلا شغفاً ... وهمنا بابنة العنب
أيجمل من بعد هذا وذاك ... بأن نستكين وأن نجمدا
وها أمة الصفر قد مهدت ... لنا النهج فاستبقوا الموردا
ثم نراه لا يرسل النصيحة خلواً من كل سند، بل يشفعها بتلقين عظمة الآباء، والإيحاء بعزة الماضي، وجد التاريخ، ويرى أن الزمان قلب، والفلك دوار، وأنه لا علينا أن نهزم اليوم إذا كنا نتوثب للغد، وأن نبتلي في الحاضر كي نتأهب للمستقبل.
فدنياك يا نيل لا تجزعن ... إذا اليوم ولى فراقب غدا
فلا ييؤسنك قول العداة ... وإن كان قيلاً كحز المدى
أتودع فيك كنوز العلوم ... ويمشي لك الغرب مسترفدا
ويقضي عليك قضاة الضلال ... طوال الليالي بأن ترقدا
ونراه لا ينسى هذا التلقين والإيحاء والاعتداد بالماضي في كل مناسبة وفرصة كما في وداعه لصديقيه محمد بك بدر، واحمد بدر عند سفرهما إلى بلاد الإنجليز.
سيرا أيا بدري سماء العلا ... واستقبلا التم ولا تأفلا سيرا إلى مهد العلوم التي ... كانت لنا ثم ازدهاها البلى
وخبرا الغرب وأبناءه ... بأننا نحن الرجال الأولى
لئن غدا الدهر بنا مدبراً ... لابد للمدبر أن يقبلا
ويختم حافظ نصيحته بالوسيلة الأولى للنجاح والظفر، والتغلب على الصعاب ألا وهي العلم، ويرى أن إنشاء الكتاتيب لا يغني عن العلم الصحيح، وأن ألف كتاب لا تعدل مدرسة عالية، أو جامعة منظمة تضم بين جنبيها رجالاً أكفاء يتعهدون الناس بالتعليم، والمداواة، والسهر على الأمن والأرواح، والقضاء فيهم، والإشراف على موارد المياه وتصريفها، ورصد الأفلاك والكواكب، والبحث عن بقايا القدماء، ومخلفات الآباء بالحفر والتنقيب.
ذر الكتاتيب منشيها بلا عدد ... ذر الرماد بعين الحاذق الأرب
فأنشأوا ألف كتاب وقد علموا ... أن المصابيح لا تغني عن الشهب
هبو الأجير أو الحراث قد بلغا ... حد الكتابة في صحف وفي كتب
من المداوي إذا ما علة عرضت؟ ... من المدافع عن عرض وعن نشب؟
ومن يروض مياه النيل إن جمحت ... وأنذرت مصر بالويلات والحرب؟
ومن يوكل بالقسطاس بينكم؟ ... حتى يرى الحق ذا حول وذا غلب
ومن يميط ستار الجهل إن طمست ... معالم القصد بين الشك والريب
فمالكم أيها الأقوام جامعة ... ألا بجامعة موصولة الحسب
3 - رجاؤه في تحقيق هذه الآمال: ثم إن حافظاً - رحمه الله
- كان عامر الفؤاد بالرجاء في الإصلاح، قوي الإيمان
بالتوفيق، يود لو هيأ الله لمصر صلاحاً وللنيل سعادة. وقد
وضع أمله بين يدي الشباب ونابتة العصر، ولا غرو فالشباب
أقوى من يحمل الأمانة، ويؤدي الرسالة تحت إرشاد الشيوخ،
وموعظة الكهول.
يا مصر هل بعد هذا اليأس متسع ... يجري الرجاء به في كل مضطرب لا نحن موتى ولا الأحياء تشبهنا ... كأننا فيك لم نشهد ولم نغب
نبكي على بلد سال النضار به ... للوافدين وأهلوه على سغب
متى نراه وقد باتت خزائنه ... كنزاً من العلم لا كنزاً من الذهب
ثم هو في ندائه للشباب يضع آلام الوطن بين يديه، يثير عواطفهم لحبه والإخلاص له، بأسلوب أخاذ بمجامع القلب والنفس جميعاً.
وهو رحمه الله حين يأمل الخير للنيل وواديه، ويرجو له أن تحقق آماله وأمانيه، وألا تحلو موارده إلا للمخلصين من بنيه؛ تهيج به الآلام، وتحرك كوامن غيظه ودفين حيرته.
متى أرى النيل لا تحلو موارده ... لغير مرتهب لله مرتقب
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت ... جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب
كأنني عند ذكري ما ألم بها ... قرم تردد بين الموت والهرب
هذا حافظ الشاعر الوفي لأهله ووطنه، والمخلص لشعبه وأمته، مر عامان على وفاته، دون أن يذكره شعبه أو يحيي ذكراه؛ لولا أدبه الخالد الذي يأبى الركود ويعشق الحياة.
قد أضاعوك غير أن الذي أظ ... هرت من عبقرية لا يضيع
فرحمه الله وجزاه بإخلاصه، وعوضه عن نكران شعبه حياة أدبه.
السيد احمد العجان