مجلة الرسالة/العدد 56/المعلقات
→ أعيان القرن الرابع عشر | مجلة الرسالة - العدد 56 المعلقات [[مؤلف:|]] |
من شعر الشباب ← |
بتاريخ: 30 - 07 - 1934 |
رأي جديد فيها
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
اختلف علماؤنا قديماً وحديثاً في سبب تسمية تلك القصائد التي جمعها حماد الراوية باسم المعلقات، وكان حماد أول من جمعها في أواخر عصر بني أمية وأوائل عصر بني العباس، وذلك أنه رأى زهد الناس في الشعر فجمع لهم هذه القصائد السبع وقال هذه هي المشهورات، فسميت القصائد المشهورة، ويراد بالشعر الذي زهد الناس على عهد حماد فيه الشعر الجاهلي القديم، وإلا فإن سوق الشعر كانت رائجة في عهد حماد، وكان الشعراء المحدثون في ذلك العهد لا يحصون من كثرة، وقد ابتدأوا يخرجون على الشعر القديم ويزهدون فيه ويخرجون مذاهبه وأساليبه، وكان أول من فعل ذلك بشار بن برد الذي يعد في رأس الشعراء المحدثين، وكان من أصدقاء حماد المقربين، فدعا هذا حماداً إلى محاولة إحياء ذلك الشعر المهجور، وترغيب الناس في حفظه وروايته، فجمع هذه القصائد لهم، ولعلها كانت أول ما جمع من هذا الشعر.
ويؤخذ من نص الرواية السابقة في جمع حماد لها تعرف بهذا الاسم (المعلقات) وإنها كانت تسمى عقب جمعه لها بالقصائد المشهورة، أخذاً من قوله بعد انتهائه من جمعها (هذه هي المشهورات) ولو كانت تسمى قبل جمعه لها باسم المعلقات لقال بدل هذا بعد انتهائه من جمعها (هذه هي المعلقات) فسماها باسمها المعروف، ولم يعدل عنه إلى ما ذكره في تمييزها، فعدوله إلى ذلك دليل على إنها لم تكن تعرف باسم المعلقات، بل إن عنايته بجمعها وما عمله في ذلك من أقوى الأدلة على إنها لم تكن تعرف بهذا الاسم، لأنها لو كانت تعرف قبل حماد به لكان لها اسم يجمعها، وكانت مجموعة بالفعل فيه، ولم يكن هناك من حاجة إلى جمع حماد لها.
فإذا أردنا أن نعرف كيف حدث هذا الاسم (المعلقات) لها بعد جمعها، فلننظر ما جرى للناس معها بعد جمع حماد لها، فلقد أخذوا يعنون بحفظها وشرحها، ثم شغفوا بذلك الحفظ والشرح واتخذوها متناً شعرياً مثل المتون التي دونت في العلوم بعد جمعها، وشغف الناس بحفظها وتعليق الشروح عليها، ولكن هذه القصائد كانت أسبق جمعاً من هذه المتون، حتى أتى عليها زمن وهي منفردة بعناية الناس بتعليقها حفظاً وشرحاً، فشاع لها بين الناس هذا الاسم الجديد (المعلقات) ونسوا به اسمها القديم (القصائد المشهورة) ثم مضوا على ذلك إلى أن جاء من العلماء من عني بفهم هذا الاسم الجديد لها، ومعرفة سر إطلاقه عليها، ففرض له تلك الفروض الخاطئة التي سنبين فيما بعد خطأها.
ولاشك أن اللغة تسوغ اشتقاق هذا الاسم (المعلقات) لتلك القصائد مما عني به الناس بعد جمعها من حفظها وشرحها، فإن الحفظ تعليق لما يحفظ بمحل حفظه، والشرح تعليق على ما يكون هو شرحاً له، ولا تزال الشروح التي توضع على المتون ونحوها تسمى شروحاً وتعليقات، وقد جاء في القاموس والأساس أنه يقال فلان علق علم أي يحبه ويتبعه، وعلق شر كذلك، فهذه المعلقات معلقات مما حدث للناس بعد جمعها من حبهم لها، وتتبعهم إياها بما كانوا يتتبعونها به من حفظها وشرحها، وهي معلقات بمعنى محفوظات أو مشروحات، وقد خصت بهذا الاسم لأنها كانت أول ما عني بجمعه وتدوينه وحفظه وشرحه من الشعر.
فهذا إن لم يكن هو الذي وقع في حدوث هذا الاسم (المعلقات) لتلك القصائد بعد جمعها، فهو فرض قريب يرتاح إليه العقل في بيان وجه تسميتها بذلك، وهذا شأن كل الفروض العلمية التي يراد منها تقريب فهم بعض المسائل العلمية من المعقول، إذ تستعصي عليها، ولا يمكنها بيقين معرفة سرها، وهو خير من تلك الأمور الخاطئة التي يذكرها من يذهب إلى أن تلك القصائد كانت تسمى قبل جمعها باسم المعلقات، ولا يذكرها على أنها فروض يهون الخاطئون فيها، بل على أنها أمور وقعت وكانت سبباً في تلك التسمية.
قالوا إن الشعراء في الجاهلية كانوا يقصدون أسواق العرب التي كانوا يقيمونها كل سنة بجوار مكة فيتناشدون الأشعار، وكان ينصب للشاعر فيها ربوة فيصعد إليها، وتحدق به العيون، وتشرئب إليه الأعناق، فينشد قريضه عليهم حتى يأتي على آخره، فلا يقاطعه أحد ولا يستوقفه، فإذا ما أحكم القول، وبلغ من الفصاحة ما وقع اتفاقهم على حسنه وإجادته كتبوه بحروف الذهب على نفيس الديباج وعلقوه على الكعبة المشرفة، تنويهاً بشأن صاحبه، وتخليداً لذكره.
وممن قال بهذا أو نحوه في سبب تسمية تلك القصائد بالمعلقات احمد بن عبد ربه القرطبي صاحب العقد الفريد، وابن خلدون، وابن رشيق. قال ابن عبد ربه: (وقد بلغ من كلف العرب بالشعر وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بأستار الكعبة فمنه يقال مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع يقال لها المعلقات).
وقال ابن خلدون بعد كلام له في ذلك (حتى انتهوا إلى المباهاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، والأعشى، وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع).
وقال ابن رشيق (وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر القديم، فكتبت في القباطي بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء).
وكان أبو جعفر النحاس المتوفي سنة 338هـ يخالف صاحب العقد ومن تابعه على هذا المذهب في علة تلك التسمية، وكان أبو جعفر معاصراً لابن عبد ربه وهو من علماء المشرق، أما ابن عبد ربه فمن علماء الأندلس والمغرب، وقد ساح في بلاد الشرق وسمع من علمائه، ثم رجع إلى بلاده.
وقد قال أبو جعفر في هذا من شرحه على تلك المعلقات (واختلفوا في جمع القصائد السبع، وقيل إن العرب كانوا يجتمعون بعكاظ فيتناشدون الأشعار، فإذا استحسن الملك قصيدة قال علقوا لنا هذه، وأثبتوها في خزانتي، وأما قول من قال إنها علقت بالكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة).
ولم يذكر أبو جعفر من هو هذا الملك الذي كان يأمر بتعليق هذه القصائد في خزانته، وقد رجح بعضهم أنه النعمان بن المنذر لأنه هو الذي كان يعنى من ملوك المناذرة بجمع أشعار العرب، وكان عنده ديوان مكتوب جمع فيه أشعار الفحول، وقد صار ذلك الديوان أو ما بقي منه إلى بني مروان على ما رواه أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي في كتابه طبقات الشعراء الجاهليين والإسلاميين.
ويستند أبو جعفر في رأيه هذا على ما قيل أن حماداً الراوية لما رأى زهد الناس في الشعر جمع لهم هذه القصائد السبع، وقال هذه هي المشهورات، ويؤخذ من ذلك كله أن تسميتها بالمعلقات عند أبي جعفر يرجع إلى قول الملك علقوا لنا هذه، لا إلى أنها علقت في الكعبة، ولست أدري على أي شئ يستند أبو جعفر فيما ذكر عن حماد في جمع هذه القصائد، وهو كما قلنا ينقض تسميتها بالمعلقات قبل جمعه لها، سواء كان ذلك للوجه الذي ذكره أم كان للوجه الذي ذكره غيره.
ولاشك أن عصر النعمان بن المنذر أحدث من عصر كثير من أصحاب المعلقات، مثل امرئ القيس وطرفة وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، فلا يصح أن يكون هو الذي كان يعلق قصائدهم بخزانته، بعد إنشادهم لها بسوق عكاظ، ويكادون يجمعون على إن تلك القصائد كان ينشدها أصحابها فيه، أحدث بكثير من عهد هؤلاء الذين ذكرناهم من أصحاب المعلقات، فقد أقيمت تلك السوق بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، وهو العام الذي ولد فيه النبي ﷺ، ثم بقيت إلى ما بعد الإسلام حتى سنة تسع وعشرين ومائة، وفي عهد إنشائها كان جيل امرئ القيس وطرفة وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة قد انقرض، أو كاد ينقرض، وإنا نستطيع أن نجزم بأن هذه القصائد السبع لم تقل في سوق عكاظ، ولا في غيره من الأسواق العربية التي كانت معاصرة له، وقد ذكروا لها أسباباً معروفة قيلت من أجلها، وأمكنة غير سوق عكاظ أنشدت فيها، وذكروا لبعضها ملوكاً غير النعمان قيلت أمامه، ولسنا في حاجة لتفصيل هذا كله لشهرته.
عبد المتعال الصعيدي