مجلة الرسالة/العدد 559/الحديث ذو شجون
→ فلسطين. . .! | مجلة الرسالة - العدد 559 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
عبقريات أزهرية مدفونة ← |
بتاريخ: 20 - 03 - 1944 |
للدكتور زكي مبارك
صاحبك من بختك
هذا مثل مصري، وهو يمثل متاعبنا في الحياة أصدق تمثيل، فما نشكو في حياتنا غير قلة الصاحب وانعدام الصديق
وأخطر ما يؤذيني في حياتي هو الشعور بأني لا أجد روحاً يجاوب روحي، وأنا لا أتهم أحداً بالغدر، فما خلق الله روحاً يقدر على مجاوبة روحي
أنا أعيش بلا صاحب وبلا صديق، لأني رجل ليس له بخت، ولأني رجل أغناه الله عن البخت، فليشبع أصدقائي بما عندهم من أطايب البخوت!
أنا أجود بالصداقة ولا أنتظر أي جزاء، لأن جودي فوق الجزاء.
وسيبكي ناس على أنفسهم إن فقدوني، ولن يفقدوني، فما تطيب نفسي بالصدوف عمن رضيت صحبتهم لحظةً من زمان
لن يقول أحدٌ إنه طوق عنق بجميل، فأنا دائماً صاحب الجميل.
تباركت وتعاليت، يا فاطر الأرض والسماء، فقد أغنيتني عن مجاملة الصاحب، وملاطفة الصديق
في لحظة من لحظات الضيق دعوتك فقلت: (اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك)
وقد استجبت لدعائي، فلم تحوجني إلى أحد من خلقك
وأنا بعد هذا أشكر لك نعمة لم تجد بها على أحد من خلقك، إلا أن يكون في مثل إيماني بك، وأدبي معك، وهي نعمة الصفح عن الصديق الكافر بالجميل
إن قدرتك على خلق البرية بما فيها من أنهار وبحار وجبال ونجوم وكواكب، إلى آخر ما تعلم وأجهل، لا تقاس إلى قدرتك على إغنائي عن خلقك
علِّمني كيف أثني عليك، فقد عجزت عن الثناء عليك ثلاثون سنة، ثلاثون، ثلاثون، وأنا أحارب الناس ولم يهزموني، لأنهم جهلوا سر قوتي، وأنا أعتز بك، وصاحبك من بختك، وأنت يا إلهي صاحبي وبختي، ولم يبق إلا أن أرجوك أن تعلمني كيف أثني عليك
محرجات النقد الأدب تمرّست بالصحافة السياسية والأدبية عدداً من السنين ولم أشعر بحرج يماثل الحرج الذي عانيته في الأسبوع الماضي ولكن كيف؟
كنت أعددت مقالاً لمجلة الرسالة أصاول به بعض المتجنين علينا من أدباء لبنان
ثم صلصل الهتَّاف بما معناه: (إن صاحب الدولة رياض بك الصلح أمر بأن لا يكتب حرف في صحيفة لبنان تجنياً على الأدباء المصريين)
وكان في مقدوري أن أتجاهل هذه الإشارة التليفونية وأن أقدم إلى مجلة (الرسالة) مقالي، وأستريح من تحبير مقال جديد
ولكن الرقيب الأعظم نهاني، وهو ضميري، فطويت مقالي، وكتبت لمجلة الرسالة حديثاً غير ذلك الحديث، في لحظة محرجة لم أكن أستطيع فيها كتابة أي حديث
وأنا أعتذر عما جرى به قلمي في مصاولة أدباء لبنان، وأتمنى لهم مثل الذي أتمنى لنفسي، وهو تصويب النظر إلى استكشاف محاسن الصديق
ثم أرجوهم أن يذكروا أننا نعاني محنة قاسية في حياتنا الأدبية، فالكاتب اللبناني يستطيع الظهور بمقالة أو مقالتين، والشاعر اللبناني يستطيع الظهور بقصيدة أو قصيدتين، ولا كذلك الكاتب المصري أو الشاعر المصري، فبلادنا لا تسمح بالظهور لكاتب أو شاعر إلا بعد أن يشقى بالنثر والنظم عشرين سنة أو تزيد
الفرق بين متاعبنا ومتاعبكم هو الفرق بين متاعب القاهرة ومتاعب بيروت
نحن في حياتها الأدبية نشقى شقاء لا يخطر لكم في بال، ولهذا ننتظر عطفكم علينا، ونرجو أن تترفقوا بنا ترفق الصديق بالصديق.
وزعامة مصر الأدبية عبءٌ ألقاه القدر علينا، ولولا الحياء لفررنا من حمل ذلك العبء الثقيل
أكرمونا بعطفكم، أكرمونا، لنصبر على حمل الراية في ذلك الميدان
إلى معالي الهلالي باشا
إنك تذكر أيها - الوزير الجليل - أني تجشمت السفر إلى الإسكندرية في الصيف الماضي وبيدي مذكرة أزكي بها إنشاء مدرسة ابتدائية في سنتريس ينتفع بها عشرون بلداً هناك، وتذكر أني أخبرتك منذ أسبوع بما انتهت إليه تحريات مراقبة التعليم الابتدائي ففرحت وقلت: سأمضي لافتتاح هذه المدرسة بنفسي في مطلع العام الدراسي المقبل.
ومع أني واثق بأنك ستنجز وعدك، وبأني أستطيع أن أستهديك ما أريد لخير تلك البلاد العشرين، فقد جدت حالة توجب أن أسارع برفع ما يعترض هذا المشروع من العقبات. والله بالتوفيق كفيل
كانت ميزانية المعارف للعام المقبل تتضمن إنشاء خمس مدارس ابتدائية، وبهذا كان الأمل قوياً في إنشاء مدرسة سنتريس، ثم سمعت أن الوزارة عدلت الميزانية فاكتفت بإنشاء ثلاث مدارس، وخفت أن تؤجل مدرسة سنتريس، وإنما كان الخوف لأن الوزير نفسه حدثني أنه سينشئ مدرسة في الدرب الأحمر ومدرسة في بولاق، فهل تكون المدرسة الثالثة هي مدرسة سنتريس؟ ليت ثم ليت!
أنا أرجو معالي الوزير أن يتذكر أن القاهرة تنتهب حقوق الأقاليم، ثم أرجوه أن يضع حد لهذا الانتهاب، فما يجوز أن تأخذ القاهرة أكثر مما أخذت، ولا يجوز أن ننسى أن مواصلات القاهرة تعين القاهريين على الوصول إلى المدارس بأمان، ولو كانوا من أهل الدرب الأحمر أو بولاق، ولا كذلك الحال في الأقاليم، فالمواصلات هنالك في غاية من الصعوبة، ولا يتيسر الانتقال إلا مع التعب العنيف
قد يقال إن نائب بولاق يراعي أهل دائرته فيطلب إنشاء مدرسة، وإن نائب الدرب الأحمر يراعي أهل دائرته فيطلب إنشاء مدرسة، وأنا لا أعترض على مساعي هذين النائبين، فمن واجب كل نائب أن يقدم لأهل دائرته أقصى ما يستطيع من الخدمات
وهنا تظهر خطورة هذه القضية: فقد مضت عشرون سنة وسنتريس مسرح للحفلات الانتخابية، وكان كل مرشح يمنينا بأنه سينشئ في سنتريس مدرسة ابتدائية، ثم ينقضّ السامر وتذهب تلك الأماني!
لم يبق إلا أن استهدي عطف وزير المعارف على عشرين بلداً هي أخصب بلاد المنوفية، ففي سنتريس وحدها أكثر من ثلاثين شهادة عالية، وموقع سنتريس الجغرافي أجمل من موقع شبين وأظهر من موقع أشمون
أيكون من حق النواب أن يصل صوتهم إلى قلب وزير المعارف قبل صوتي؟ هذا مستحيل، فأنا من أمناء وزير المعارف، وأنا سفيره إلى جميع البلاد المصرية، فمن أوضح الواضحات أن أكون سفيره في البلاد تجاور بلدي، وأنا أعرفها كما أعرف نفسي
لوزير المعارف أن يتفضل فيطلب التقرير الذي قدمته لمراقبة التعليم الابتدائي ومعه تقرير الرقيب، وأي رقيب؟ هو رجل من أكابر المربين دعاه مراقب التعليم الابتدائي إلى مصاحبتي لمعاينة مدرسة سنتريس، لئلا يطغى علىّ حبي لبلدي فأقول إن اسمها سنتريس!
لمعالي وزير المعارف أن يقرأ هذين التقريرين ثم يفكر فيما يصنع، فأنا واثق بأنه سيكرم تلك البلاد العشرين، وندائي لمعاليه هو نداء تلك البلاد العشرين
زكي مبارك