مجلة الرسالة/العدد 559/البريد الأدبي
→ نقل الأديب | مجلة الرسالة - العدد 559 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 20 - 03 - 1944 |
3 - الشعر الجديد
إني أعتبر الحقبة التي نبغ فيها البارودي وصبري وشوقي وحافظ، من أعظم حسنات الدهر على الشعر. فإن هؤلاء الأفذاذ قد أضاءوا لنا الظلمة الحالكة، بعد أن لبثنا فيها أحقاباً طوالا فالتفت إليهم العالم العربي - ومصر خاصة - التفات الساري إلى النجم المتألق، واستمع لهم وأنصت، وتحلى تغريدهم، وتدبر معانيهم، وفقه مراميهم، واستظهر قصائدهم. ثم لقد ذهبت فينا حكمهم مذهب الأمثال، نرددها في أنديتنا وسوامرنا، ونستعذبها لقربها من قلوبنا، وعلوقها بعواطفنا، وصلتها بأرواحنا
إنهم قد ترجموا لنا حياتنا، وعبروا عن آلامنا وأمانينا، وغنوا لنا في أفراحنا، ورفهوا عنا في أتراحنا، ووصفوا الوصف العجاب، وأبدعوا وجددوا ما شاء لهم التجديد والإبداع
لقد نفخوا في الشعر روحاً، ونفثوا في العربية حياة، وتركوا من ورائهم ثروة زخرت بالنفيس من القول، والفاتن من التصوير، والشريف من المعاني
إنهم لم يعنفوا حين عبروا، ولم يغربوا إذ فكروا، ولم يكن الزخرف من صناعتهم، ولا البديع من مقاصدهم. فجاءت لغتهم صفواً رائقة، وأساليبهم سائغة شائقة، وألفاظهم عذبة فائقة
لم تكن ثقافتهم من نوع واحد، ولا كانت من طبيعة واحدة. ثم لقد اختلفت في الحياة أعمالهم، وتشعبت مسالكهم، وتغايرت فيها مشاربهم. ولكنهم استقوا جميعاً من معين واحد، معين الأدب الصافي في أزهى عصوره، وأنضر أزمانه. فنهلوا منه وعلّوا، ثم نهلوا وعلوا، حتى استقام لهم القول، وسلس منه القياد، واستحكمت السليقة، وتمهدت الجادة.
هذا أحدهم حافظ إبراهيم؛ أخبرني مرة أنه يكاد يقرأ (كتاب الأغاني) من ظهر القلب، لطول ما عكف عليه ومارسه.
وكان - رحمه الله - شديد الحافظة، حاد الذكاء. وكنت أختلف إلى بعض مجالسه التي يذكرها من أصفيائه من لا يزالون بيننا في هذه الحياة
فكان يدهشنا حقا بواسع اطلاعه، وفيض محفوظه، وعجيب بديهته. وكان له في تلاوته وقفات خلوة للتعليق والشرح، والتعقيب والنقد. يتخلل أولئك نوادر من اللغة، وشوارد من الأدب، وفكاهات ومقابسات، وموازنات ومناظرات.
سقى الله مجالسك الغر يا حافظ، فقد لا يجود بمثلها الزمان! فأين هذا - هو مثال وجيز من عبقرية شاعر - من متشاعري هذا الزمان الذي كل بضاعتهم قشور من هنا ومن هناك، وثقافة فجة، وجهل مطبق بالأدب العربي وتاريخه، وألفاظ ذات بريق يلوون بها ألسنتهم، لتحسبها من الشعر، وما هي منه - لعمرك - في شئ؟
أعود إلى تلك الحقبة التي أبرزت شعراءنا الأربعة، فأزعم أنها لا تعبر إلا عنهم وحدهم، وإن نجم بينهم فيها من يعترف لهم بالاقتدار وسمو الشاعرية.
وقد يكون هذا رأيا خاصاً بي، لا يشركني فيه غيري؛ ولكنه رأي هكذا كونته. وقد أعرض له بشيء من التفصيل، متى واتت الفرصة.
فلما خلا الميدان من هؤلاء الفرسان، ودالت أيامهم، سدلت على (المسرح) الستارة. ثم عادت فارتفعت، فإذا مشهد عجب، وإذا الحال غير الحال، وإذا نحن أمام فوضى النظم والنظام، تلك الفوضى التي يجب أن يتظاهر عليها فضلاء النقاد، وذوو الرأي من الأدباء، ليكبحوا من جماحها، ويفلَّوا من شرَّتها.
(للحديث بقية)
(ا. ع)
(النقد) بمعنى المال
تناول الشيخ أحمد محمد شاكر كتاب الأستاذ العقاد (الصديقة بنت الصديق) بالنقد في جريدة الوفد المصري فأنكر البيتين اللذين نسبهما العقاد إلى عروة بن الزبير وأجراهما على لسان عائشة
فلو سمعوا في مصر أوصاف خده ... لما بذلوا في سوم يوسف من نقد
ويقول الأستاذ شاكر: (ولكن العرب لا تعرف (النقد) بالمعنى المفهوم عند المتأخرين بمعنى المال كما يقول العامة (النقد) (النقود)، وإنما النقد عندهم تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها. والنقد عندهم أيضاً خلاف النسيئة، وله معان أخر ليس منها المال نفسه، فإن شاء الكاتب الجريء - يريد العقاد - أن يكابر في هذا فليذكر لنا نصاً صريحاً ثابتاً من كلام الفصحاء شعراً أو نثراً يذكر فيه (النقد) بمعنى المال نفسه)
فنحن ندلي بالنصوص التي حضرتنا مؤيدة لهذا المعنى
يقول الزمخشري: (نقد جيد ونقود جياد)، وابن قتيبة الدنيوري يحدثنا في أخباره العيون فيقول: قال إعرابي:
وفي السوق حاجات وفي النقد قلة ... وليس يُقضى الحاج غير الدراهم
ويقول: قال دليم:
الله لَقَّي من عرابة بيعة ... على حين كان النقد يعسر عاجله
ويقول الحريري في مقامته التاسعة والعشرين (الواسطية): (فقد وليت العقد، وأكفلت النقد). قال شارح المقامات أبو العباس أحمد القيسي الشريشي: (النقد هو المال الحاضر)
وقد أستعمل هذا المبنى لذلك المعنى المؤرخان الجليلان أبو الحسن المسعودي وابن خلدون.
هذا ما حضرني - والذهن كليل - من تراث العرب، وهو صريح في جواز استعمال كلمة (النقد) بمعنى المال كما هو معروف اليوم
سعد محمد حسن
إلى الأستاذ الكبير أحمد حافظ عوض بك
سيدي الأستاذ
سلام عليك في عزلتك بعدما ملأت الأسماع لطفاً وظرفاً؛ وبعد: فقد حدثني الأستاذ الجليل إسعاف النشاشيبي عنك حديثاً يوزن وزناً. وقد جر إلى الحديث عنك رأيك الذي أبديته في الشعر الحديث، ونظمك لي مع أستاذنا الكبير خليل مطران في سلك واحد. ولقد شاء فضلك ومحلك في الأدب أن ترى في شعري رأياً أعده كثيراً على جهدي وإسرافاً في مثلي. ولكنك رضيت فارتأيت! ولولا أن أستاذنا الجليل النشاشيبي عاد إلى فلسطين بعد أن كان تسليمه علينا وداعاً، ومقامه بيننا غمضة عين، وخفقة قلب، وحسوة طير؛ لولا ذلك لزرتك في صحبته، وسعيت إليك في بطانته.
ولكنني ألقاك على صفحات (الرسالة) الغراء؛ فرأيك فيها وفي صاحبها مما يسر أن نذيع به. فأجعلها اليوم رسولي إليك، لشكرك والتسليم عليك. والسلام محمد عبد الغني حسن
في ديوان (حافظ بك إبراهيم)
كتب الأديب رضوان العوادلي بالبريد الأدبي من مجلة الرسالة الغراء العدد (543) ما نصه:
(نسى الأستاذان أحمد أمين والزين أن يوردا هذه (القصيدة) في ديوان (حافظ إبراهيم)؛ فآثرنا نشرها في الرسالة الغراء)
أنا في يأس وهم وأسى ... حاضر اللوعة موصول الأنين
ستهين بالذي (لاقيته) ... وهو لا يدري بماذا يستهين
سور عندي له مكتوبة ... ودَّ لو يسرى بها الروح الأمين
إنني لا آمن الرسل ولا ... آمن الكتب على ما يحتوين
وكم أود أن أظفر بشعر لم يضم بعد إلى ديوان حضرة شاعرنا الكبير 0فأشعاره - رحمه الله - هي ذخر فني قيم - وثروة أدبية طائلة يعتز بها كل أبناء العربية - ولكن الأبيات هذه مثبتة بالديوان المذكور لم ينسها جامعوه، وهي بالصفحة (249) من الجزء الأول في باب الغزل تحت عنوان: (رسائل الشوق)
إلا أن ثم اختلافا في ترتيبها - فيه - والأحجى أن يكون الترتيب كما ذكره الأديب، وكما جاء أيضاً في مجموعة (مختارات الزهور) الصادرة لسنة 1916 بعنوان (لوعة وأنين)
وبعد، فلحضرة الباحث الكريم جزيل احترامي.
(مكة المكرمة)
حسن عبد الله القرشي
(أبو شوشة والمواكب) لمحمود تيمور بك
للأستاذ محمود تيمور بك اختيار لطيف لأبطال مسرحياته وقصصه، فهو يوائم بين الاسم وصاحبه حتى لتجد المطابقة بينهما تامة غير منقوصة. ففي مسرحيته الفاتنة (سهاد) ترى (أم سرعرع) علماً على العرافة؛ وترى (أقميش وقرطيش) علمين على القزمين اللذين يثيران الضحك في كل حركة أو كلمة. وفي مسرحيته (المنقذة) ترى (شلبية) قارئة البخت. وفي مسرحيته (قنابل) ترى القزم (كتكوت) وناظر الزراعة (حواش أفندي). وفي مسرحية (أبو شوشة) ترى شخصية (الشيخ غندور) وهو شيخ أخفق في دراسته فاتخذ من (عطوة باشا) سبيلاً إلى التندر والمضاحكة في مجلسه
ومحمود تيمور يختار لمسرحياته الأزمان التي توافق فنه الرفيع: كما يختار لها الأمكنة الملائمة. فمسرحية (سهاد) مثلاً زمانها عصر الخلافة الإسلامية، ومكانها الصحراء العربية بوديانها وكثبانها ومضارب الخيام فيها. ومسرحية (المنقذة) مكانها مصر وزمانها عصر المماليك، ومسرحية أبو شوشة مكانها مصر وزمانها عصرنا هذا وأشخاصها مصريون أصلاً. وكذلك مسرحية (الموكب) التي طبعها محمود تيمور مع (أبو شوشة) في كتاب واحد
وفي أغلب مسرحيات تيمور طابع من (الفكاهة) المتمثلة في شخصيات مضحكة؛ وهذه الشخصيات يعرضها المؤلف دائماً في معرض التهريج والعبث. (فالشيخ كروان) مهرج من المرتزقة الطامعين من فتات موائد الأغنياء. وهو أضحوكة مسرحية (الموكب). والشيخ (غندور) مهرج آخر في مسرحية (أبو شوشة)؛ فهو أزهري متحذلق. وقد اتخذه عطوة باشا سميراً ونديماً. . . لا بل اتخذه مضحكاً ومهرجاً. . .! فهو حين يقدم إلى مؤنس بك ينحني ويقول فيضحك الجمع منه، والمؤلف هنا بارع، فهو لا ينطق الشيخ (غندوراً) إلا بهذه اللفظة الفرنسية، ويترك القارئ وحده يضحك لهذا الشيخ المتفرنس!
أما الشيخ (كروان) مهرج مسرحية (الموكب) فهو شيخ متحذلق أيضاً؛ إلا أنه يزيد على صاحبه (غندور) بالثرثرة والسجع المتكلف والتملق المرذول. اسمعه مثلاً وهو يخاطب (فضل الله باشا) (أقسم برب الكعبة المشرفة، غير حانث ولا كاذب، أنك رجل هذا العصر، ومنارة مصر، وأوحد الدهر - ص 83). ولا يكتفي الشيخ بهذا بل ينشد أبياتاً في مدح الباشا يصفق لها السامعون ويشتركون في الضجيج حتى المتوقرون منهم أمثال بديع بك وزهرية هانم
والمؤلف ليس عنيفاً في إدارة الحوار وتجلية الطبائع، لكنه يسوقها في هدوء بالغ، ولست تحس وأنت تقرأ (تيمور) عنفاً أو صخباً أو جلبة. ولكنك ترى الهدوء الذي ينطوي في الإلغاز والرمز. وهذا سر أن مسرحيات تيمور لا تختم بما تختم به مسرحيات غيره من المؤلفين. ولعل هذا سبب في أن المسرح المصري لم يحط من مسرحيات تيمور بتمثيل العدد الكثير. فإن إخراج مثل النوازع النفسية الباطنة في مسرحياته يحتاج إلى مخرج بصير مدرك، وجمهور أعمق مرامي من جماهير المسرح اليوم
ألحق أن محمود تيمور فنان مخلص لفنه، فلا تنقطع بينهما صلة على الرغم من أثقال الزمان. وقد أخرج من عهد قريب مسرحيتي (المنقذة وحفلة شاي) ومسرحية (قنابل) وهاهو ذا اليوم يخرج (أبو شوشة والموكب) في اللغة الفصحى التي كان المغفور له والده علماً من أعلامها. ولا شك في أن نشر (مجلة الصباح الدمشقية) لهاتين المسرحيتين بعد مشاركة طيبة من سورية الناهضة في إعلاء شأن المسرح العربي الحديث. وهي مشاركة سبقها فيها (لبنان) الأشم بنشر (نداء المجهول) للمؤلف نفسه