الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 558/محاورات الموتى

مجلة الرسالة/العدد 558/محاورات الموتى

بتاريخ: 13 - 03 - 1944


المحاورة الأولى

للكاتب الفرنسي برنار بوفيه دفونتنيل

بقلم الأديب يوسف روشا

إسكندر وفرين

فرين: عاهرة مشهورة عاشت في أثينا حوالي سنة 323ق. م. وكانت حظية لبراكستلس الذي أخذ رسمها. ويقال إن أبلس رسم صورته (فينوص) بعد أن رأى فرين عند ساحل البحر عارية وقد أسدلت شعرها المغدودن. لقد غدت فرين، بفضل سخاء عشاقها الكثيرين، غنية إلى حد أنها رغبت في إعادة بناء طيبة التي دمرها إسكندر على نفقتها، ولكن رغبتها لم تجب

رودوب: حظية يونانية مشهورة جمعت ثروة طائلة؛ ورغبة منها في تخليد اسمها شيدت أحد أهرام مصر

اسكندر الثالث: الملقب بالكبير ولد سنة 355ق. م. كان تلميذاً لأرسطو لخمس سنوات، وهو الذي دمر طيبة وأعلن الحرب على الفرس وغزا آسيا الصغرى، وبسط سلطانه على مصر وسوريا وفارس، توفى في بابل سنة 323 بعد حكم دام اثنتي عشرة سنة أحرز في أثنائها انتصارات متوالية بارعة

ديموستين: خطيب أثيني شهير قال عنه شيشرون - وقد كان ندا له بين الرومانين - إنه شخصية فذة قلما يجود التاريخ بمثلها

المحاورة:

فرين: لو أنك سألت جميع سكان طيبة الذين عاشوا في زماني، لقالوا لك كيف عرضت عليهم إعادة بناء جدران طيبة التي دمرتها أنت على نفقتي، بشرط أن يقيموا لي نصباً يكتب عليه هذه العبارة: (لقد دمر اسكندر الكبير هذه الجدران، ولكن الزانية فرين أعادت بناءها)

اسكندر: إذن أنت خائفة من أن تجهل الأجيال القادمة الحرفة التي كنت تمارسينها؟ فرين: وماذا على من ذلك؟ لقد بلغت بها الذروة. وإن لكافة الممتازين من الناس، مهما تكن حرفتهم، لولعاً جنونياً بالأنصاب

اسكندر: صحيح أن لرودوب نصباً قبلك؛ فقد عرفت كيف تستغل جمالها لتبني أحد أهرام مصر الشهيرة، ولا يزال قائماً حتى الآن. وأذكر أنها كانت أمس تتحدث عنه إلى أطياف بعض الفرنسيات اللاتي كان لهن - على زعمهن - رقة وجمال، فأخذن ينتحبن قائلات: إن الجمال في بلدهن، وفي العصر الذي عشن فيه، لم يكن ليجلب ثروة كافية لبناء هرم

فرين: ولكني أمتاز عن رودوب بأني أعدت بناء جدران طيبة، وبذلك جعلت نفسي في صفك أنت الذي كنت أعظم فاتح في العالم. ألا ترى كيف استطاع جمالي أن يصلح ما أنزلته شجاعتك بالبلاد من تخريب وتدمير!

اسكندر: أنت تتطرقين إلى شيئين ليس إلى عقد المقارنة بينهما من سبيل. إذن أنت فخورة أن يذاع عنك بأنه كان لك عشاق كثيرون؟

فرين: وأنت، ألست فخوراً بتدميرك أكبر قسم من العالم؟ لو أن في كل مدينة خربتها (فرين) لما بقي أقل أثر لجنونك

اسكندر: لو قدر لي أن أعيش مرة أخرى لما تمنيت أن أكون إلا فاتحاً عظيما

فرين: وأنا لو رجعت إلى الحياة لما تمنيت إلا أن أكون غازية للقلوب. إن للجمال حقاً طبيعياً في السيطرة على الرجال على حين أن الشجاعة تفرض حقها على الناس بالقوة والبطش. للنساء الجميلات عرش في قلوب الناس قاطبة مهما تكن جنسياتهم؛ ولا كذلك الملوك والفاتحون. ولأقنعك أكثر من هذا أقول: إن أباك فيليب، الذي كان شجاعاً مقداماً كما كنت أنت، لم يستطع هو وأنت أن تدخلا الرعب في قلب الخطيب المصقع ديموستين الذي قضى حياته كلها يخطب ضدكما، على حين أن فرين أخرى كانت ذات مرة على وشك أن تخسر قضية هامة جداً، وإذا بمحاميها، وقد بذل لأجلها كل ما يملك من الفصاحة والبلاغة بلا جدوى، يرفع عن وجهها النقاب فيبهر جمالها الحكام فيحكمون لها أن أوشكوا أن يحكموا عليها. ألا ترى كيف أن صلصلة أسلحتك كل هذه السنين التي حكمتها لم تقو على كم فم خطيب واحد، على حين أن سحر فتاة جميلة أفسد في لحظة حكام أراكوس القساة

اسكندر: بالرغم من استنجادك بفرين أخرى فإني لا أعتقد أن جانب اسكندر قد ضعف كثيراً. ومما يدعو إلى الأسف أنه لو. . .

فرين: أعرف ما تريد أن تقوله: اليونان، آسيا، فارس، الهند. . . كل ما من شأنه أن يبهر العالم بالطنين والرنين. ومع هذا إذا أنا أسقطت من مجدك كل ما ليس لك، فأعدت إلى جنودك وقوادك، وحتى إلى الحظ الذي ساعفك، نصيبهم من الظفر الذي هم له أهل، فهل تعتقد أنك لن تخسر بذلك كثيراً؟ ولكن المرأة الجميلة لا يشاركها أحد في غزواتها، فليس لأحد عليها فضل، بل الفضل كله لها. أقول لك الحق إنه لمركز جميل. . . مركز المرأة الحسناء

اسكندر: يظهر أنك حج مقتنعة بما ذهبت إليه من أمر هذه المرأة الحسناء. ولكن أتتصورين حقاً أنها تصل إلى هذا الحد الذي وصفت؟

فرين: كلا. . . كلا. . . فسأكون منصفة معك. أنا أعترف بأني قد أسأت وصف شخصية المرأة الحسناء كل الإساءة. أنا وأنت. . . لقد كانت لنا غزوات وغزوات. فلو كنت اكتفيت بعشيقين أو ثلاثة على الأكثر لكان ذلك من طبيعة الأشياء، وليس ثمة ما يدعو إلى الانتقاد. أما أن يكون لي من العشاق جيش أستطيع معه إعادة بناء طيبة فشطط ما تعده شطط. ولو أنك كذلك لم تغز سوى اليونان والجزر المجاورة وقسم من آسيا الصغرى، إذا لم يكن من ذلك بد، وأسست لك منها مملكة لكان ذلك مفهوماً معقولاً. أما أن تخبط خبط عشواء فتأخذ المدن دون أن تعلم لماذا تأخذها، وتفرغ من غزو إلى غزو من غير أن يكون لك خطة معينة أو هدف معقول؛ كل ذلك لا تستسيغه العقول النيرة

اسكندر: ليقل أصحاب العقول النيرة ما يشاءون. فلو أني استعملت شجاعتي وحظي بحكمة لما تحدث عني أحد

فرين: وأنا أيضاً لو كنت استعملت جمالي بفطنة لما ظفرت بهذه الشهرة الواسعة. على أنه كلما أريد إحداث ضجة في العالم، فليس أحصف الناس وأعقلهم هم الذين يصلحون لها.

(بغداد)

يوسف روشا