مجلة الرسالة/العدد 557/العلم التبشيري
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 557 العلم التبشيري [[مؤلف:|]] |
في الرملة البيضاء ← |
بتاريخ: 06 - 03 - 1944 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
الدرس العلمي يخدم الحقيقة ويبحث عنها ويرحب بها ولا يكره إظهارها حيث كانت في مذهبمن المذاهب أو إنسان من الناس
أما الدرس الذي يكره إظهار الحقيقة لأنها تخص مذهبا غير مذهبه، أو تشيد بفضل إنسان على غير اعتقاده، فليس ذلك بدرس علمي ولا بعلم، إنما هو تبشير أو دعاية أو هوى مدخول.
ومن هذا القبيل درس كاتب في مجلة (المقتطف) يستره بدعوى العلم الصرف وما هو بمستور، ويمزجه بنوازع التعصب الخفي عامداً أو غير عامد وما بها من خفاء
كتبنا عن عائشة كتابنا (الصديقة بنت الصديق) وعقدنا فيه الفصول لنقول إنها رضى الله عنها كانت امرأة تامة الأنوثة في طبيعتها وخلائقها. فأعجب كاتب المقتطف بهذه الطريقة وقال من عنده: (. . . ومن محاسن هذه الطريقة أن المترجم مهما يعظم ويخطر ينزل منزلة الإنسان. فالسيدة عائشة على فضلها أنثى تامة الأنوثة: تغار وتفرط في الغيرة حتى أنها لتدب بين إحدى ضرائرها والرسول ابتغاء الاستئثار به، وإنها ذات حدة طبعية، وإنها ظلت تحمل الحقد لمن نصح للرسول أن يطلقها، وإنها مالت إلى ذوي قرباها في أمر الخلافة)
انتهى كلام كاتب المقتطف الذي يصطنع الدراسة العلمية وما هو منها في غير باب الفهارس والعناوين
ونحن لم نقل إن السيدة عائشة حملت الحقد أو دبت بين الرسول وبين إحدى زوجاته، فهذه عبارات الكاتب راقه أن يعبر بها عما أراده، وبينها وبين ما ذكرناه فرق محسوس
إلى هنا نحن علماء، وطريقتنا في النقد لها محاسن؛ ولكننا على ما يظهر لا نكون علماء ولا تعرف لطريقتنا حسنة إلا إذا وقفنا عند هذا الحد في الكتاب كله من ألفه إلى يائه. فأما إذا أسفر النقد عن محمدة أو عن تبرئة من مذمة فقد كفرنا بالعلم وخرجنا من محاسن الطريقة إلى السيئات
ولهذا عاد كاتب الفهارس والعناوين يقول: (وتلك مزية في الإنشاء قد تحرف المنشئ إلى التمجيد والتفخيم إطلاقاً، بدلاً من اختبار كنه النفس الفياضة بالإحساسات البشرية الصادقة الصافية. . .)
إلى أن يقول: (غير أن هذا الضرب من الإنشاء ربما كان مسافة إلى حديث يغلب عليه منطق الدفاع، وذلك ما انجذب إليه المؤلف لما عرض لقصة الإفك، فاجتهد في الجدل - وهو لصناعته حاذق - فأيد مذهبه بشواهد المعقول ونصوص المنقول، وربما لج في استخراج هذه، وأبعد في استنباط تلك، حتى أنه يمسي في مدارج المجاذبة والمدافعة مدرها لا باحثاً. . .)
ومعنى ذلك أننا أخطأنا لأننا نقضنا حديث الإفك وأسهبنا في نقضه، وإننا كنا نوافق العلم إذا رويناه ولم نعقب عليه، أو كان قصارانا في التعقيب عليه أن نقول: (إن قصة الإفك لا تحتاج إلى مثل ذلك الاجتهاد. . .)
إذن تكون علماء ولا نكون مدرهين مدافعين. . .!
وإذن يقر (العلم التبشيري) عيناً لأنه يستطيع أن يصيح يومئذ بين من يستمعون إليه: (أيها الناس! هذا قصارى ما يملكه الباحث في حياة السيدة عائشة من تفنيد لحديث الإفك وإبطال لدعوى المفترين عليها، ولو كان عندهم مزيد من التفنيد والتصحيح لجاءوا به ولم يسكتوا عنه)
وهذا هو العلم اللذيذ الشهي المعجب المطرب الذي يبرئنا من اللجاجة ولا يؤخذ علينا فيه عيب القدرة على الجدال
أما العلم الذي يسهب في تصحيح حديث الإفك دفاعاً عن سمعة السيدة عائشة فهو علم كريه بغيض عند المبشرين وأشباه المبشرين
هكذا يريدها كاتب (المقتطف) الذي يصطنع الدراسة العلمية لينفذ منها إلى هذه المآرب الخفية على ظنه، وما هي بخفية
إذ الواقع أن المسألة هنا أظهر من أن يسترها هذا البرقع الممزق المشنوء، وأن العلم الصحيح، والأدب الصحيح، براء من هذا العوج البين في التفكير والتقدير
والواقع أن الإسهاب في تصحيح حديث الإفك واجب علمي نلام على إهماله أو التقصير فيه، لأننا نكتب عن (شخصية) السيدة عائشة فلا نكون قد صنعنا شيئاً إذا نحن لم نمحص خلائقها ولم تظهر مقدار الصدق أو البطلان فيما يقال عنها
وكل ما يجب علينا أن نثبت مقال الخصوم فلا نحذف منه شيئاً، وأن نعرضه على مقاطع الحجج أو مواضع الاحتمال والترجيح فلا نغفل منها شيئاً، ثم نقابل بين الكفتين لندل على الراجحة منهما والمرجوحة، دون أن نكره القارئ على التصديق بغير برهان. وهذا ما صنعناه
وهذا الذي يعده الكاتب الذي حرمه الله الذوق والفهم لجاجة وخروجاً من وظيفة البحث العلمي إلى وظيفة الدفاع
ومن الواضح أن الباحث العلمي مطالب بالالتفات إلى البراهين القاطعة والوقائع الحاسمة كما هو مطالب بالالتفات إلى القرائن المرجحة والأدلة المحتملة، فلا يلام على قرينة لأنها غير قاطعة، ولا على دليل لأنه غير حاسم، ولكنه يلام إذا أهمل شيئاً من ذلك أو أثبته ثم أعطاه حظاً من القوة غير حظه الذي يحتويه
ونحن قد أتينا بكل ما يخطر على البال من جانبي المقال، ولم نبالغ قط في قيمة ترجيح أو احتمال، فقيل إنه خروج من البحث إلى الجدال
ولكن ما هو البحث الخالص البريء الذي لا جدال فيه يا ترى؟
هو الإسهاب في متابعة كل حجة وكل قرينة للتشكيك والتوهين، إذ التشكيك والتوهين هما العلم الذي لا جدال فيه. . . أما التصحيح والتبرئة فهما الجدال الذي يعاب على الباحثين والعلماء. . .!
وهذه أمثلة من إسهاب كاتب (المقتطف) الذي برئ من الفهم والذوق وصراحة التفكير واستقامة القياس
قال يعنينا:
(من ذلك أنه أول شكوى امرأة صفوان بن المعطل - وهو بطل حديث الإفك عند المرجفين - تأويلاً متزيداً فيه، ثم استند لأجل دعمه إلى خبر لا ندري ما يكون. وتفصيل ذلك أن المؤلف نقل أن امرأة صفوان شكته إلى النبي لأنه ينام ولا يصلي الصبح قبل طلوع الشمس، ثم زاد: وقد يحسن هنا أن نوجه شكوى امرأة صفوان إلى بعض معانيها. كأنها أرادت بثقل النوم كناية عن أمر آخر لا تفصح عنه. إذ قيل عن صفوان هذا إنه كان حصوراً لا يأتي النساء)
نقل كاتب المقتطف ما تقدم من كتابنا ثم قال: (والذي عندي أن ليس وراء شكوى امرأة صفوان تعريض، وليست حروف الشكوى بفارة نحو الكناية، ولو كانت فارة لكان النبي الزكن فطن للأمر، فما قال لصفوان على جهة التصريح: إذا استيقظت فصل. . .!)
فكل ما قلناه نحن أن الباحث يحسن به أن يوجه شكوى امرأة صفوان إلى بعض معانيها، وهو أنها تكنى بنومه إلى ما بعد طلوع الشمس إلى إهماله واجب الزوجية، ولا تحب أن تصرح بما أرادت، لأن التصريح قد يخجل المرأة في مجلس الرجال
لم نقل أن هذا القصد هو كل معاني الكلمة، بل قلنا إنه بعض معانيها، ولم نشأ أن نزيد على ذلك كثيراً ولا قليلاً، ولو شئنا لزدنا وقلنا إن المرأة لم ترد إلا ما أشرنا إليه، وإلا فما شأنها هي بصلاته بعد طلوع الشمس إذا كان ذلك جائزاً في الدين؟
لكننا مع هذا وقفنا عند حد الاحتمال الجائز ولم نزد عليه، فإذا بهذا المطموس ينكر الكناية هنا كل الإنكار بدليل لا يخطر إلا على خاطر كليل وذهن عليل، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لصفوان بعد أن سمع شكاية امرأته: إذا استيقظت فصل!
فياءيها المطموس مرة أخرى! بماذا تريد أن يجيبها النبي وهو يخاطب بذلك الكلام على سبيل الكناية؟
أتريد من النبي الزكن الفطن أن تخاطبه امرأة خجلى كناية وتعريضاً فيجيبها على الملأ بما هربت منه وأبت أن تذكره على سبيل التصريح؟
أهذا هو البحث الذي لا لجاجة فيه؟ وهذا هو التدليل الذي لا يحسب من الجدال؟
ثم أبى هذا الكاتب المطموس البصيرة أن يكون صفوان حصوراً بالمعنى الذي يبرئ السيدة عائشة فقال:
(وأما قصة الحصر فليست بالحجة القاطعة. فالذي في سير ابن هشام أن عائشة إنما كانت تقول: لقد سئل عن ابن المعطل فوجدوه رجلاً حصوراً ما يأتي النساء. . . ثم أضف إلى هذه الاستدلال الخبري واللغوي أن الذي ذكر عن صفوان لو كان أمراً مقطوعاً به مسلماً ما انبثّ حديث الإفك) إلى آخر ما قال
فلماذا يرد هذا على ذهن الكاتب المطموس ولا يرد على ذهنه أن ابن المعطل لو كان أمر حصره باطلاً معروفاً لما شاع عنه أنه حصور؟ ترى هل كان يمكن أن يقال عنه إنه حصور وله ذرية غير متهمة؟ ترى هل كان يمكن أن يقال عنه إنه حصور وله امرأة تعلم هي على الأقل أن الاتهام باطل وأن هذا الاتهام الباطل دليل على شئ مخبوء؟
لماذا خطر له أن أصحاب حديث الإفك لن يشيعوا ما ينقض البرهان؟ ولم يخطر له أنهم قد يشيعون ذلك اعتماداً على التباس التهمة التي تحتمل كل التباس؟
لماذا؟. . . أللعلم الذي لا جدل فيه، أم لشهوة النفس التي لا علم فيها ولا أمانة للحق والتاريخ؟
وخلاصة هذه الأمثلة أن المسألة مكشوفة لا يجدي مداراتها اللغط بألفاظ البحث والعلم والاستقراء، فإنما يكون الاستقراء علمياً عند هذا الكاتب وأمثاله كلما أفضى إلى تشكيا واسترابة، ولا يكون الاستقراء علمياً ولا محموداً ولا واجباً على الباحث أن يلم به إلماماً في عرض الطريق كلما أفضى إلى تبر وتعظيم
وإذا قلنا إن السيدة عائشة مؤمنة بنبوة محمد عليه السلام ظهر في سيرتها جميعاً لم يفهم معنى هذه الدلالة وراح يقول: ألا يخطئ المؤمنون والمؤمنات؟ ويفوته أن المسألة هنا ليست مسألة الخطأ بل مسألة الشك في علم النبي بالخطأ من طريق الوحي والإلهام. ومن واجب الباحث أن يستبعد وقوع الخطأ من هذا القبيل، لأنه لم يحدث قط في حياة الأنبياء، ولأن الإغراء الذي يقاوم كل هذه الموانع غير موجود ولا مفروض في حديث الإفك السخيف الذي لا برهان عليه
وبعد، فإن كنا نأسف لشيء فإنما لمجلة (كالمقتطف) أن تتورط في مثل هذا الإسفاف وقد تنزهت عنه في أيدي كتابها الأفاضل حقبة من الزمان، وأن تسلم زمامها إلى هازلين يعبثون بكرامتها ويخرجون بها عن سوائها وهم ما هم من قلة الفهم وقلة الذوق وقلة الإنصاف، وحظهم من حب العلم والحقيقة ما رأيناه، وهو حظ يلحقهم بدعاة التبشير ويخرجهم من زمرة كتاب المقتطف المعهودين، وللقائمين على المقتطف أن يختاروا لمجلتهم ما يحلو لهم من مصير، ولكن القراء أيقاظ لا يغفلون.
عباس محمود العقاد