مجلة الرسالة/العدد 557/الحديث ذو شجون
→ دراسات عن مقدمة ابن خلدون | مجلة الرسالة - العدد 557 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
صلات علمية ← |
بتاريخ: 06 - 03 - 1944 |
للدكتور زكي مبارك
آمال يحققها الهلالي باشا
إن قراء الرسالة عرفوا ما انتهت إليه قضية المدرسين بالمدارس الحرة، فقد نشرت الجرائد اليومية خلاصة الخطب التي ألقاها رفعة النحاس باشا ومعالي الهلالي باشا وسعادة الدكتور طه بك حسين، ونقل المذياع تلك الخطب إلى جميع الأسماع
وأقول إن الذي يجب تسجيله هو تحقيق آمال المدرسين بالمدارس الحرة بعد أن كان تحقيقها من رابع المستحيلات، فهذا الوزير نفسه كان يستصعب حل هذه القضية، بدليل أنه لم يحلها في الوزارة الماضية، ولو لم يوفقه الله في هذه المرة لظلت تلك القضية عقدة العقد ومشكلة المشكلات إلى آخر الزمان
كان الأمل الذي أطمح إليه هو تعيين المدرسين بالمدارس الأجنبية على وظائف تذكارية، كالذي نصنع في معاملة المدرسين الذين نرسلهم إلى الأقطار العربية، وقد كتبت في تزكية هذا الاقتراح عدة تقارير، منها تقرير نشرته مجلة الرسالة منذ سنين بإمضاء مجهول
كان اقتراحي يبدو كأنه طيف الخيال، ولم أكن أصدق أنه سيتحقق، ثم كانت المعجزة الطريفة، وهي جعل المدرسين جميعاً في منزلة واحدة، بلا تفرقة بين المدارس الحرة والمدارس
وأعترف بأني أكاد أكذب ما قرأت وما سمعت، فهل من الحق أن وزارة المعارف رضيت وهي طائعة مختارة أن تجعل مدرسي المدارس الحرة في منزلة مدرسي المدارس الأميرية؟
أنا لا أصدق، فالمألوف أن تجود الحكومة بالخير بعد أن تدعى إليه ألوف المرات، ومدرسو المدارس الحرة لم الحرة لم يطلبوا يوماً مساواتهم بمدرسي المدارس الأميرية في جميع الحقوق، وإنما طلبوا حقوقاً سهلة هينة لا تزعج وزارة المعارف، هل طلبوا غير الترفق في تحديد المرتبات، وكانت من الضآلة بمكان؟
لأول مرة في تاريخ الحكومة المصرية يبذل الخير لمن لم يطلبوه، وهذه أريحية جديدة لم نعرف لها مثيلاً فيما سلف من العهود
الهلالي باشا يقول إن النحاس باشا هو صاحب الفكرة، والنحاس باشا يقول إن الهلالي ه صاحب الفكرة، والنتيجة معروفة، وهي أن هذين الرجلين يتسابقان إلى الخير تسابق الجياد، أعزهما الله وكتب لهما دوام التوفيق
حكومة تثأر للأمة
قال الهلالي باشا في خطبته إن الأمة كانت أسبق من الحكومة إلى نشر التعليم، وتحدث عما صنع مصطفى كامل وسعد زغلول، ولم يفته النص على جهود الجمعيات الخيرية وجهود الأفراد، وهذه الالتفاتة هي أجمل ما ورد في خطبة الهلالي باشا، لأنها صورت هذه الوزارة بصورة الحكومة التي تثأر للأمة، وهذا معنى جديد، فقد كانت الحكومة تنظر إلى الأمة بمنظار يعف قلمي عن وصف مرآه الجميل!
تاريخ الجامعة المصرية
تحدث الهلالي باشا عن الجامعة المصرية الأولى، الجامعة التي أنشأتها الأمة، وقال إن حكومة ذلك العهد كانت تحارب الجامعة بحجة أن مصر لا تحتاج إلى جامعات وإنما تحتاج إلى كتاتيب!
فهل يذكر الهلالي باشا قيمة الإعانة التي كانت تقدمها وزارة المعارف إلى الجامعة المصرية بألفين اثنين من الجنيهات، ومع هذا كانت تماطل في الدفع، والشواهد تحت يدي، وسأقدمها إلى معالي الوزير إن أراد
لا موجب للتذكير بهذا التاريخ، فما تمثلته إلا توجعت مما كانت تصنع الحكومة في مغايظة الأمة. . . على تلك العهود ألف عفاء!
زكي مبارك وإعجاز القرآن
هذا عنوان الكلمة التي نشرها الأستاذ محمد أحمد الغمراوي بمجلة الرسالة، وهي كلمة مؤذية سبقتها كلمات مؤذيات بقلم هذا الكاتب المفضال
هذا الكاتب يتحداني لأشرح ما غاب عليه من أسرار كتاب (النثر الفني)، وهو يرجو أن يجد فرصة جديدة تؤيد غرامه باتهامي في إسلامي
وأقول مرة ثانية إني لا أقيم لتحديه أي ميزان، ولن أعترف بأن من حقه أن يساجل صاحب النثر الفني، فقد ظهر أنه لم يفهم كتابي قال هذا الكاتب إنه لا يبغي إلا أن يعرفني الناس فيحذروني؛ وهذا القول مسروق من كلامي، فقد نبهت الناس ألف مرة إلى أن يحذروني، لأني لا أبالي في الحق أي ملام، ولا ألتفت إلى أوهام المتزمتين
ثم دعاني هذا الكاتب إلى التبرؤ من كتال النثر الفني
لبيك، ثم لبيك، يا كاتباً يدعو إلى تبرؤ الآباء من نجباء الأبناء
كتاب النثر الفني كتابي، وقد استكثره ناسٌ علىَّ فزعموا أنه من وحي الجن، وليس بيني وبين الجنة نسب حتى أستوحي ما عندهم من آراء وأهواء، فهو كتابي، وقد سطرته بيميني في فورة شبابي، ولن أتبرأ منه ولو صرت معه إلى جهنم الحامية، فسأكون به أشرف مذنب يصطلي نار السعير، وفي جهنم مكان لأحرار الرجال
الجنة لا تستهويني، لأن الحياة فيها تخلو من المتاعب، وأنا أكره الحياة الخالية من المتاعب
مضيت مرة للبحث عن مكان هادئ في إحدى ضواحي باريس فوجدت بيتاً كتبت على بابه هاتان الكلمتان: فانزعجت، لأني أعرف أن الهدوء المطلق لا يكون إلا في مساكن الأموات
وفي بغداد اخترت داراً يجاورها مصنع حديد، لأفر من الهدوء المطلق
وبنيت داري بمصر الجديدة في مكان يجاور ضجيج الحياة، ولأسمع إشتجار المعاني في صدر الوجود
ماذا يقع إن كان مصيري إلى جهنم؟
تلك فرصة ثمينة أتذكر بها ذنوبي، وأعرف أن لي وزناً عند فاطر الأرض والسماء، وهل تكون جهنم نقمة وهي مكان التطهير من الذنوب؟
ليس الدين هو الباعث على محاربتك، إياي، فهنالك باعث آخر هو غرامك بأن يقرن اسمك باسم الدكتور زكي مبارك
أنا مفطور على التسامح، ولكني لن أسامحك، وسأدعو الله أن يغضب عليك، إلا أن تتوب، ولن تكون من التائبين
عند الله جزائي، فقد أكون أول مؤمن يعلن الكفر ليصحح عقيدة الإيمان. . . الله للمجاهدين، فلا تصدقوا من يزعمون أن الله للمنافقين الفتنة نائمة
لقيني الأستاذ إميل بك زيدان في مكتبة المعارف فقال: (الفتنة نائمة) فابتسمت وقلت: (ولعن الله من أيقظها!). . . فهل فهم جوابي؟
إنه يشير إلى مقالاتي في مصاولة بعض أدباء لبنان، وأنا لم أكتب حرفاً واحداً في إيذاء الأدباء اللبنانيين، وإنما يتجنى فريق منهم علينا من يوم إلى يوم، ويقعون في أخطاء تنكرها الأذواق، فهل ثار الأستاذ أميل زيدان على تلك الأخطاء، وهو يعرف أن إخوانه هنالك هم الموقظون للفتنة والداعون إلى التفريق؟
لقد تعبت في معاتبة أولئك الرفاق، فما استمع مستمع ولا أجاب مجيب، فهل نلام على تذكيرهم بالواجب؟ وهل يكون من إيقاظ الفتنة أن نصحح تاريخ الأدب الحديث بعد أن طغى عليه التحريف؟
سأقول وأقول إن مصر هي باعثة الأدب العربي بعد أن طال عهده بالهجود، وسأذكر بالتفصيل ما أخذه الأدباء اللبنانيون عن الأدباء المصريين
نحن خلفاء العرب، والمصحف لا يطبع إلا في بلادنا، وسنرفع راية العروبة في جميع الميادين
من هؤلاء؟
جاءت مجلة الأديب البيروتية وفيها اتهام صريح بالدعوة إلى التفريق، اتهام موجه إلى (عصبة) تدعو إلى عزل لبنان عن الأمة العربية، وهي نفسها العصبة التي تتجنى على الأدباء المصريين من حين إلى حين
ولو كنت أعرف أن هذا هو رأى اللبنانيين في تلك العصبة لكففت قلمي عما جرى فوق صفحات جريدة المصري
ولهذا أعتذر لحضرة الأستاذ سهيل إدريس وأتلقى عتابه المنشور في مجلة الرسالة بأحسن القبول
الآن عرفت أن التجني على مصر لم يكن نزعة لبنانية، وإنما هو نزوة تطوف برءوس حرمها الله نعمة العقل، وكتب عليها الخذلان محمد فهيم
اشتركت في الحفلة التي تقام لتكريم المربي الكبير الأستاذ محمد بك فهيم، ولكني لم أستطع الوصول إلى مكان الاحتفال بسبب الزحام، فلم يبق إلا أن أحييه بهذه الكلمات
إن لهذا الرجل تأثيراً في حياتي الأدبية، فهو الذي قهرني قهراً على السفر لخدمة العلم في العراق، وكانت حجته أن وزارة المعارف العراقية طلبتني باسمي، وأنه لا يجوز أن أرفض هذا التشريف، وبهذا قضيت في بغداد عاماً هو أجمل أعوام حياتي
وللأستاذ محمد بك فهيم خصائص يجهلها أكثر الناس، فهو على تحضره وغناه لا يزال يقيم في دار أبيه بجوار جامع شيخون، وهو يتصل بالريف كل أسبوع، بحيث يجوز أن أن نعده من أعيان الفلاحين
أما أدب النفس فخصيصة أساسية يمتاز بها هذا الرجل المهذب إلى أبعد حدود التهذيب
ولعل هذه الحلفة تردَّه بحرارتها إلى فورة العافية، فقد سمعت أنه كان مرض بضعة أسابيع
محمد فيهم أحد رجالنا الاماجد، وأنا أشترك في تكريمه بهذه السطور، وهي أقل ما يجب لمن يتحلى بمثل أدبه النفيس
زكي مبارك